حين تشرع في الكتابة عن الرفيق الحكيم جورج حبش، تنتابك رهبةٌ خفيّة: ماذا تقول عن شخصيّةٍ هي بمثابة وطنٍ ورمزٍ لديك؟ الحكيم موجود معنا منذ الصغر حين كنّا نغنّي: "علَّمْنا الحكيم وقال أمريكا رأس الحيّة، بنحارب بكلاشنكوف ضدّ الرجعيّة"؛ أو حين كنّا طلبةً نخطّ أقوالَه على حيطان شوارع الأرض المحتلّة، أو على كرّاساتِ مدارسنا: "الثورة الفلسطينيّة قد تستمرّ مائةَ عامٍ وأكثر، وعلى قصيري النفس التنحّي جانبًا!"
كان الحكيم، ويبقى، رمزًا لكثير من المفاهيم: الثورة، الشباب الثوريّ، النموذج الثوريّ، الأب الحنون، الحكمة... وكلُّها أسّستْ شخصيّتنا. فمن أين نبدأ، أو على أيٍّ منها نركّز؟
نحن نعرف مثلًا أنّ الحكيم شقّ دربَه الثوريّ وهو شابٌّ في مقتبل العمر. فقد كان على مقاعد الدراسة، في الجامعة الأمريكيّة في بيروت، حين بادر، ومجموعةً من الشباب العربيّ (وديع حدّاد، هاني الهندي، أحمد الخطيب،...)، بتشكيل النواة الأولى لـ"حركة القوميين العرب." وكانت هذه فكرةً ثوريّةً، وردّةَ فعلٍ على ظرف تاريخيٍّ عاصفٍ (هو النكبة) غَيّر مجرى تطوّرِ مجتمعٍ وشعب. كانت فكرةُ الحكيم ورفاقه من تشكيل "الحركة" هي ضرورةَ التصدّي للمشروع الصهيونيّ وأهدافِه الاستعماريّة في فلسطين والمنطقة العربيّة ككلّ؛ وهذا ما لا يمكن أن يتمّ ــــ في رأيهم ــــ إلّا بتحقيق الوحدة العربيّة.
مَن يتتبّعْ مسيرةَ الحكيم في تلك المرحلة التاريخيّة يرَ نموذجَ الشابّ الملتزم الذي انحاز إلى الهمّ العامّ مقابلَ همّه الذاتيّ. فبدلًا من أن يفكّر في بناء مستقبله الأكاديميّ الخاص، ومستقبلِه المهنيّ، اختار أن يكون تحريرُ الوطن العربيّ وفلسطينَ المحتلّة همَّه الأساسَ والوحيد. وبعد تشكيل النواة الأولى لحركة القوميين العرب، أكمل الحكيمُ توسيعَ بنائها؛ وهذا تطلّب منه أن يكون شخصيّةً ديناميكيّةً منفتحة، تناقش كلَّ الناس، بغضّ النظر عن اختلافاتهم الطبقيّة والفكريّة. وهكذا راح يتحرّك في عدّة اتّجاهات، داخلَ أسوار الجامعة وخارجَها، يحاور ويحاول أن يؤثّر في الشباب، وفي الأجيال الأكبر سنًّا، من أجل الانضمام إلى الحركة. فاستطاع، ومَن معه من الشباب في حينه، بناءَ حركة القوميين العرب. لم يتركوا وسيلةَ استقطاب، أو أماكنَ للتعبئة والتحريض، في أيّ قطرٍ عربيّ، إلّا واستخدموها. فعلى سبيل المثال أقام الحكيم، مع رفيق دربه الدكتور وديع حدّاد، عيادةً في عمّان سنة 1952، وقدّما فيها علاجًا مجّانيًّا لأبناءِ المخيمات، ولكنّهما وظّفا أيضًا تلك العيادةَ لتكون مركزًا للتعبئة والتوعية السياسيّة ونشرِ أفكار "الحركة."
هذه المحطة التاريخيّة الحاسمة وضعتْ على كاهل أولئك الشباب، في حينها، مسؤوليّةً شاقّةً في ظروف عربيّة شاقّة. ولكنّهم بالعزيمة الصلبة، وبالتسلّح بالفكر القوميّ، استطاعوا أن يؤسّسوا لبداية مرحلةٍ جديدةٍ من النضال العربيّ. ومع هزيمة الأنظمة سنة 1967، عمد الحكيمُ ورفاقُه إلى تشكيل الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، تنظيمًا ماركسيًّا ثوريًّا مقاتلًا، من دون التخلّي عن رؤيتهم القوميّة، وعن أنّ فلسطين هي قلبُ الصراع العربيّ ــــ الصهيونيّ.
اليوم، تُطرح أمامنا، كشباب عربيّ تقدّميّ، استحقاقاتٌ كبيرةٌ حول دورنا ومسؤوليّتنا في المهامّ التحرّريّة الراهنة، فلسطينيًّا وعربيًّا وأمميًّا. ويُطرح علينا، تحديدًا، استحقاقُ العمل من أجل إقامة نواةٍ قوميّةٍ تقدّميّة، هدفُها حشدُ القوى القوميّة والتقدّميّة من أجل توحيد صفوفها، والخروج من الأزمة، وخصوصًا لجهة مواجهة عمليّة التطبيع الرسميّ العربيّ مع الكيان الصهيونيّ، وإعادة الاعتبار إلى القضيّة الفلسطينيّة بجعلها بوصلةً لنضالنا ضدّ الظلم والقهر في العالم. ويبدو الاستحقاقُ ممكنَ التنفيذ، خصوصًا أنّ الشباب العربيّ قد استطاع في السنوات الأخيرة أن يكون أكثرَ حضورًا داخل الحركات الشبابيّة التي رفعتْ شعار "النضال ضدّ الصهيونيّة" واحدًا من شعاراتها الرئيسة، إلى جانب مواجهة قمع الأنظمة العربيّة.
الكتابة عن الحكيم فعلُ وفاءٍ، وواجبٌ وطنيّ، واستحضارٌ لشخصيّةٍ/مدرسةٍ أنتجتْ فكرًا رَبَطَ بين النظريّة والتطبيق في الحالة النضاليّة الفلسطينيّة والعربيّة، ونهضتْ من تحت ركامِ هزيمةٍ لتشكّل بدايةَ عصرٍ جديدٍ مكلّلٍ بالعزيمة والتضحية. ولكن الكتابة عن الحكيم هي، أيضًا، استحضارٌ لتجربة شبابٍ وشابّاتٍ تقدّموا الصفوفَ، وتسلّحوا بالنظريّة الثوريّة، وقاتلوا عدوَّهم وهم في عمر يقلّ عن ثلاثين عامًا. وهذا يعطينا، كشبابٍ وشابّاتٍ اليومَ، أملًا ممزوجًا بالقوّة: أنّنا قادرون وقادراتٌ على أن نسير على نهج الحكيم، وأن نخلقَ ظروفًا أكثرَ إنسانيّةً وكرامةً لأبناء شعبنا.
مسيرة حياة الحكيم ورفاقه ماثلة أمام أعيننا كلَّ يوم. نُخضعها للنقد والدراسة، ونتعلّم منها ونحن نناضل ونقاتل، في آنٍ واحد.
فلسطين المحتلّة