لطالما عاشت غالبيّةُ عائلات فلسطين المحتلّة، من بحرها إلى نهرها، تجربةَ الاعتقال في السجون الصهيونيّة، وتجرّعتْ شتّى صنوف التعذيب الجسديّ والنفسيّ. ولطالما سمعنا ممّنْ عايش هذه التجربة، من أقاربنا وأصدقائنا ورفاقنا، حكايا نُسجتْ من أرواحٍ لم تَعرف الهزيمةَ يومًا، بل صمدتْ أمام كلّ محاولات اللجم.
في غياهب القيد، اختار قلبي مَن سيصبح شريكَ حياتي، ورفيقَ دربي: إنّه عاصم، الإنسان الذي شقّ طريقَه بالنضال منذ الصغر، مؤمنًا بعدالة قضيّتنا وإنسانيّتها. عاش عاصم لاجئًا في مخيّم بلاطة، حالمًا بالعودةِ إلى أرض البرتقال في يافا. ثم طورد ثلاثَ سنوات، عاشها (ورفاقَ دربه) بين أزقّة البلدة القديمة في نابلس، حياةً محفوفةً بالمخاطر، قبل أن يجري اعتقالُه سنة 2003، فيُحكمَ عليه بالسجن ثمانية عشر عامًا، قضى منها (إلى اليوم) ستةَ عشر.
خلال هذه السنوات، عاش عاصم أقسى الظروف: بدءًا بالتعذيب في أقبية التحقيق شهريْن متواصليْن، وانتهاءً بالإجراءات القمعيّة التي يمارسها السجّانُ الصهيونيّ بشكلٍ يوميّ على الأسرى الفلسطينيين. كما حُرم، في الكثير من المرّات، زيارةَ العائلة. وتعرّض لنقلٍ مستمرٍّ بين السجون، من شمال فلسطين إلى جنوبها. وعُزل في زنازينَ قاسيةٍ تفتقر إلى أدنى مقوّمات الحياة الإنسانيّة. وومُنع من وداع أعزّ الناس إلى قلبه: رفيقِ دربه، نادر، الذي استُشهد على يد الاحتلال، بعد عامٍ واحدٍ من أسره؛ وأمِّه الحبيبة، التي شاركتْه معاناةَ الأسر ومشقّةَ الزيارات في السجون، وتوفّيتْ وهي ما تزال تحلم بلحظة عناقه.
غير أنّ كلّ هذه المعاناة لم تنل من صبر عاصم وعزيمتِه، بل زادت من تحدّيه للسجّان. فعلى مرّ سنوات اعتقاله، راح يشارك في الإضرابات عن الطعام، وفي كافّة الاحتجاجات من أجل انتزاع حقوق الأسرى.
***
في عاصم، وجدتُ ما كنتُ أبحث عنه: روحًا حرّةً خلف القضبان، وقلبًا ينبض بالحياة. كانت البطولة والإنسانيّة مزيجًا يشعّ من عينيْه وجبينه: قوّةً وعنفوانًا وحبًّا للحياة.
لم يكن اختيارُ شريك حياتي مرتبطًا بمفاهيم المجتمع السائدة عن حصر الارتباط بالزواج والإنجاب تعبيرًا عن استمراريّة الحياة. في اختياري تجلّت مفاهيمُ أكثرُ عمقًا وارتباطًا بالحريّة؛ مفاهيم تؤمن أن الارتباط بشريك الحياة جزءٌ من النضال المستمرّ ضدّ الاحتلال.
وكان مفهوم الحبّ الذي يجابه الحدودَ والمسافات يمدّنا، كليْنا، بدفءٍ يجتاح القلبَ والجسد. فقد لامس عاصم قلبي بما لديه من مشاعرَ صادقةٍ وقويّة لم تهن على الرغم من عزلها عن مقوِّمات الحياة خارج القضبان. بل كانت تلك المشاعر تشتدّ صلابةً مع اشتداد القمع، لتغدو أكثرَ إصرارًا على التمسّك بالحياة التي صمّمناها معًا وأردناها معًا.
أن أرتبطَ بأسير، فذلك يعني أن أعيش علاقةً تتعدّى الواقع المادّي، إذ تفصلنا مسافةٌ طويلةٌ بين صحراء النقب (حيث سجنُه) ومدينتي رام الله (حيث أسكن). لا نتلاقى إلّا عبر الرسائل والصور. وعبر هذه المسافات، نعيش حبَّنا، وتمرُّدَنا على ذلك الواقع. وهذا يجعلنا أكثرَ التصاقًا واحدنا بالآخر: فأعيش جزءًا من أسْره، ويعيشَ جزءًا من حريّتي ــ ــ المقيّدةِ هي أيضًا.
لقد شاءت الأقدارُ أن تلتقي روحانا بين ساحات الحبّ المُطلق، وساحاتِ السجن الدائم. لقد شاءت الأقدارُ أن تلتقي روحانا بين ساحات الحبّ المُطلق، وساحاتِ السجن الدائم.. وها أنا اليوم أنتظر حريّةَ هذه الروح بعد عامين ونصف العام؛ هذه الروح التي ما تزال تملك حبًّا بلون الثوّار: دافئةً كالجمر، مفعمةً بالحبّ والحنان.
***
اخترنا أن نقيم أفراحَنا على طريقتنا. فتلاقت عائلتانا، في غياب العريس، وغيابِ أبي [أحمد السعدات، الأمين العامّ للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ــ ــ الآداب]، اللذيْن كُتب عليهما الأسْر. نعم، كنتُ دومًا أتمنّى أن لا تأتي هذه المحطّة من حياتي، وأبي بعيدٌ عني، فإذ بها تأتي وهي تحمل غيابَ الأبِ والشريكِ معًا! غير أنّني استطعتُ أنْ أجعلها لحظةَ تحدٍّ في وجه مستعمِرٍ أراد أنْ يسرق منّا أفراحَنا.
هكذا استطعنا أن نتقاسم الفرحة رغم الصعوبات: عاصم من داخل سجنه، حيث أقام له رفاقُ زنزانته فرحًا على طريقتهم وقدرتهم، تخلّله تسليمٌ ومباركاتٌ وتوزيعُ حلوى؛ وأنا مع الأهل والأحبّة، الذين جاءوا من كلّ صوب ليشاركونا يومَنا، الذي اختاره عاصم ليتزامن مع موعد ميلادي وذكرى اعتقاله، تعبيرًا عن ولادة حبّ عميقٍ انتصرتْ فيه الحريّةُ على القيد.
***
في مشاركتي تفاصيلَ حياة عاصم اليوميّة، ألمسُ معانيَ كثيرةً تَحمل توقًا إلى أيّامٍ جميلةٍ سنصنعها بأيدينا: كأن أرتبطَ أكثرَ فأكثرَ بكلّ ما/ومَن/ يحيط به خارج السجن ــ ــ أهلِه، أحبّتِه، أزقّةِ المخيّم الذي وُلد فيه، الأماكنِ التي كنت يرتادها قبل اعتقاله. وإلى اليوم ما زلنا نبتكر ما يخفِّف وطأةَ الزمن الباقي: كأن نوجِدَ طريقةً لعدِّ ما تبقّى من الوقت قبل خروجه (سنتان ونصف السنة)، ونعيشَ شغفَ انتظار اللقاء الأوّل إذا سُمح لي بزيارته. ستكون هذه الزيارة، إنْ تمّت، هي الأولى التي سألتقيه فيها، عبر زجاجٍ يَحُول دون تلامس أيدينا وأجسادنا. وعلى قسوة هذا المشهد، وقِصَر الزيارة (التي لن تتجاوز 45 دقيقة)، فإنّ كلًّا منا ينتظره كطفل صغير متلهّف لتدشين ثيابه الجديدة في العيد.
إنْ حصلتُ على زيارتين أو ثلاث قبل خروج عاصم بعد سنتين ونصف السنة، فسأكون من أشدّ المحظوظين والمحظوظات. أّمّا إذا رُفض تصريحي، فسأبقى متمسّكةً بأمل لقائه آنذاك.
***
وأمام كلّ هذا الانتظار، الذي نعدّه بالأيام والساعات والدقائق واللحظات، سنعيش علاقتَنا الصعبة، مؤمنيْن بأنّ الحبّ ليس في قول الكلمات الجميلة فقط، وإنّما هو أيضًا في عيش تجربةٍ إنسانيّةٍ مكلّلة بالتضحية، وفي الأمل في بناء "وطنٍ صغير" ــ ــ بأطفالنا الذين سننُجبهم ونحكي لهم قصّةَ وطننا الأكبر.
رام الله