مشهدٌ أوّل
رنّ جرسُ المدرسة. انطلقتْ بيسان مسرعةً نحو الساحة. كانت تقفز فرحًا بالرغم من ثقل الحقيبة الذي يكاد يتجاوز وزنَها.
لم ترَ والدها منذ أكثر من سنة. كان الشوقُ في صدرها يرتسم على شفتيْها الصغيرتين وعينيْها الدامعتيْن فرحًا.
لم تكن تعلم أنّ أباها سيغادر البيتَ فجأةً. في بادئ الأمر غضبتْ كثيرًا لأنّه لم يودّعْها كما كان يفعل قبل سفره، لكنّها سرعان ما تناست غضبَها؛ فقد تجاوزه شوقُها إليه. كانت تحبّه بشدّة، وهو دائمًا ما يسألها عن مقدار حبّها له:
ـــ بتحبّيني كدّيش يا بيسان؟
ـــ بحبّك زيّ أكبر إشي في الدنيا.
ـــ وإيش هوَّ أكبر إشي في الدنيا؟
ـــ فلسطين... بحبّك زيّ فلسطين.
ـــ .....
وكان يبتسم. كانت تلك هي الإجابة التي يريد سماعها. اسمُ "فلسطين" بصوتِ ابنته يُشعِره دومًا بأنّه بخير. فلسطين أكبر من أيّ شيءٍ آخر.
كانت بيسان في الثانية عشرة. شعرُها السوداويّ مقسومٌ شطريْن، ينساب بسلاسةٍ على كتفيْها، مخبِّئًا وجهَها الأبيضَ الناصع. وكانت الابتسامة الملازمة لشفتيها الورديّتين تزيدها جمالًا على جمال.
واصلتْ بيسان ركضَها إلى أن أطلّت برأسها من باب المدرسة، وسمعتْ صوتًا يناديها:
ـــ بيسان... حبيبتي.
ـــ يمّا.
عانقتْها بفرح، ثمّ سألتها:
ـــ هَسَّا راح أنروح للبابا؟
ـــ طبعًا... متل ما تفاهمنا حبيبتي.
ـــ طبْ، هُوَّ ليش ما إِجا معاكِ؟
ـــ هُوَّ مشغول شويّ. رحْ أحكي لكْ بعدين.
ـــ طبْ يمّا، ليش لابسة الأسود؟
ـــ يا بنتي، الأسود هُوَّ لون البحر في الليل، ولون الورد في الليل، ولون غرفتك في الليل، ولون كلّ ألعابك في الليل. إِنتِ ما بتحبّي البحر والورد وغرفتك؟
ـــ آه بحبّهم. بس ما بَحبّ الليل، وما بَحبّ اللون الأسود. علّمونا في المدرسة انّ الأسود لون بنلبسوا بالحداد، لمـّا بيموت حدا نعْرفو.
ـــ لا يا بنتي. لون الحداد هُوَّ الأبيض.
ـــ لا... لون الحداد هُوَّ الأسود.
ــ طبْ ليش لون الكفن أبيض مانو أسود؟
ـــ إممممم.
ابتسمتْ بيسان، واقتنعتْ بأنّ اللون الأبيض هو لونُ الحداد. وقرّرتْ أن تبقي هذه المعلومةَ سرًّا.
مشهدٌ ثانٍ
أمسكتْ بيسان سمّاعةَ الهاتف. وضعتْ رأسَها الصغير على الزجاج وامتلأتْ عيناها بالدموع. لقد منحها لقاءُ والدها فرحًا لا يوصف. لكنّ وجودَه وراء زجاج السجن يفطر قلبَها.
لم تستطع النطقَ بأيّ كلمة. تسمّرتْ بلا حَراك، ورأسُها مثبّتٌ على الزجاج، مع شهيقٍ وزفيرٍ خافتيْن.
بعد لحظات، بدأ البخارُ في التكوّن على الزجاج، مخفيًا وراءه وجهَ أحمد. مدّت يدَها لتمسحَ ما خلّفه نفَسُها من بخارٍ، إلاّ أنّها واجهتْ يد والدها فوق الزجاج، وأحسّت بحرارتها.
مرّت بضعُ ثوانٍ على هذه الحال: عينٌ تقابلها عينٌ، ويدٌ تقابلها يدٌ، وشوقٌ شديدٌ، ورغبةٌ كبيرةٌ في البكاءِ والضحك، وشفتان تبتسمان ألمًا وفرحًا.
ـــ بتحبّيني كدّيش يا بيسان؟
لكنّ اهتمامها بالنظر إلى تفاصيل وجهه ألزمها الصمتَ.
أعادت أمّها السؤال:
ـــ بيسان، خبّري والدك كدّيش بتحبّيه؟
أزاحت بيسان السمّاعة من على وجهها وأجابت:
ـــ يمّا، أنا بحبّ والدي كالعادة، زيّ فلسطين. بس كمان بحبّوش يكون ورا الزجاج عشان أعبطو.
ـــ أنتي بتعرفي ليش والدك هنيك؟
ـــ ما بيهمّني ليش. المهمّ انّو يخرج وانروّح للبيت.
ـــ يا بيسان، إحنا دايمًا لازم نعرف سبب كلّ إشي. أبوكِ في السجن لأنّو قاوم لفلسطين.
ـــ أنا ما بَحبّ فلسطين اللي تحبس أبويْ في سجن وتحرمني منه. أنا بحبّ فلسطين اللي أشوف فيها أبويْ وألعب معاه.
ـــ لو ما كان أبوكِ وناس كتار تانيين في السجن ما كان فينا نحكي عن فلسطين، وما كان يكون إلنا مكان انرَوِّحله.
ـــ ...
ـــ ...ولو ما كان فيه ناس تستشهد وتموت، ما كان فينا نحكي عن فلسطين.
صمتتْ بيسان ثم قالت:
ـــ طبْ ليش ما نسِيب فلسطين ونروح لبلاد تانية ونرتاح؟
ـــ وايش تخبّري أبوكِ لمّا بيسألك كدّيش بتحبّيه؟
ـــ ...
مشهدٌ أخير
ـــ بيسان... بيسان...
سمعتْ بيسان الصوتَ بصعوبةٍ بالغة، وحاولتْ فتحَ عينيْها. بدأت الرؤية تتّضح لها شيئًا فشيئًا. "في غُرف العمليّات، كان نقابُ الأطبّاءِ أبيض، لونُ المعاطفِ أبيض، تاجُ الحكيماتِ أبيض، أرديةُ الراهباتِ، الملاءاتُ، لونُ الأسرَّة، أربطةُ الشاشِ والقطن، قرصُ المنوِّمِ، أنبوبةُ المصل،كوبُ اللبن..."(1) حاولتْ أن تحرّك يديها فلم تستطع. حاولتْ أن تتذكّر سببَ وجودها في المستشفى، لكنّ المخدِّر عطّل ذاكرتها. ما تذْكرُه هو أنّ جورج حملها مسرعًا نحو السيّارة.كما تذكّرت الأغنية التي بثّها الراديو في الطريق إلى المستشفى:
"ياستّي ويا ستّي
غاب القمر جيتِ إنتِ
غاب القمر ونجومو
وضوّيتِ علينا إنتِ."(2)
دون ذلك كان كلُّ شيءٍ مشوّشًا: سقوطُها في الطريق إلى عملها، دخولهُا إلى المستشفى على السرير المتنقّل، وجهُ جورج يتصبّب عرقًا، إسراعُ الطبيب في إدخالها إلى غرفة العمليّات...
قاطع تفكيرَها صوتُ الممرِّضة:
ـــ الحمد لله على سلامتك.
ـــ الله يخلّيكِ.
ـــ ألف مبروك.
ـــ مبروك إيش؟
ـــ بنتك... إيش بتحبّي تسمّيها؟
فجأة تذكّرتْ. لقد أصبحتْ أمًّا، وأصبح جورج أبًا.
وفي لحظةٍ تدفّقتْ كلُّ اللحظات السابقة مع جورج.كان أوّل لقاءٍ جمعهما في مؤتمر صحفيّ للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين. إثر ذلك، التقتْه مصابًا بعد مشاركته في عمليّةٍ فدائيّة. ومنذ ذلك الحين لم تفارقْه إلاّ في خلوته ـــ تلك الخلوة التي كانت تغار فيها من القلم والورقة اللذيْن يسلبان عقلَه وروحه. واستمرّت تلك الغيرةُ إلى أن كتب جورج قصيدةً عن المولودة التي وضعتْها الآن، وحينها علمتْ مدى حبّ جورج لها، وانتظرتْ بشوقٍ شديدٍ هذه اللحظة من دون التفكير في آلام الولادة.
إنّ حبّها لجورج بالدرجة الأولى هو ما يجعلها تحبّ ابنتَها أكثرَ من أيّ شيءٍ آخر.
أكثرَ من أيّ شيء آخر؟
زيّ فلسطين؟
سيكون اسمُها فلسطين، إذنْ.
وستكون حياتُها من أجل فلسطين.
وهكذا سيصبح الأمرُ بعد زواج ابنتها وإنجابها:
"فلسطين تخلّف وفلسطين تاخذ."(3)
تونس
* من أقدم مدن فلسطين، تعود بتاريخها إلى أكثر من 6000 سنة، هُجّر سكّانُها منها بعد الاحتلال الصهيونيّ لفلسطين سنة 1948.
(1) المقطع الأوّل من قصيدة أمل دنقل، "ضدّ من."
(2) أغنية من التراث الفلسطينيّ.
(3) الفكرة مستوحاة من جملة غسان كنفاني الشهيرة "هذه المرأة تلد الأولاد فيصيرون فدائيين..هي تخلف وفلسطين تأخذ."