أجراها: عالي الدمين
*كيف يمكننا النظرُ إلى وضع الأدب اليوم في موريتانيا؟
ــــ على الرغم من صعوبة إصدار موقفٍ دقيق عن وضع الأدب الموريتانيّ اليوم، نظرًا إلى اتّساع خارطة تمثيله، وضعفِ حركة دراسته، وتعدّدِ ألسنته الناطقة، واختلافِ الأوضاع المحدِّدة لمسارات تموّجه؛ فإنّ ثمّة تجاربَ جديدةً ومتعدّدةً تجمع بين الطرافة والعمق والمقدرة الفنّيّة، وتحقّق وعيًا ذاتيًّا ترسّخه القيمُ المحلّيّةُ السائدة. صحيح أنّ سيطرةَ النزعة المادّيّة على الحياة، وركودَ الذوق الأدبيّ، وتراجُعَ الملَكات الأدبيّة بفعل انحسار"منهج الدربة والرواية" التقليديّ ــــ حيث لم يعد الموريتانيُّ ذاك الذي يحفظ المدوَّناتِ الشعريّةَ عن ظهر قلب، ويتغنّى بها في مجالس سمره وساعاتِ أنسه ووحدته ــــ أمورٌ أثّرتْ في حاضر الأدب الموريتانيّ؛ غير أنّه ما زال في إمكان الموريتانيّ اليوم أن يفخر بعطاء بعض أدبائه المعاصرين واحتلالهم مراكزَ مهمّةً في حركة الإبداع الأدبيّ محلّيًّا وعربيًّا. بل إنّني لا أرى مسافةً كبيرةً تفصل بين الأدب الموريتانيّ ونظيره العربيّ، بقدرِ ما أراه جزءًا منه: يتراسل معه، ويصطبغ بلون عطائه وشكلِ انشغالاته، مع احتفاظه بمكانته الخاصّة. وما المنشورات العديدة والمشاركات الفاعلة في شتّى التظاهرات الثقافيّة والفنّيّة في الوطن العربيّ إلّا دليلٌ على ذلك.
*ما تبعاتُ رأي الناقد المصريّ، محمد الطه الحاجريّ، القائل في العام 1967 إنّ الأدب الموريتانيّ "حلقة مجهولة في تاريخ الأدب العربيّ،" وينبغي أن ينال الاعتبارَ اللازم، نظرًا إلى ما يمتلكه من مميّزاتٍ فريدةٍ وثريّةٍ ذاتِ قدرةٍ على نسف سرديّة الانحطاط المهيمنة داخل الحقل الثقافيّ العامّ؟
ــــ انتبه الحاجري إلى أنّ الشعر الموريتانيّ، قبل الحركة الإحيائيّة في الشعر العربيّ، كان جزلًا بعيًدا عن الركاكة، معيدًا ذلك عنده إلى هيمنة نمذجة الشعر العربيّ القديم عليه بنائيًّا، وسيطرةِ قيمِه فكريًّا وأسلوبيًّا؛ ولذلك فإنّ هذا الشعر يتجاوز ما عُرف من "تردٍّ أدبيّ" خلال ما سُمّي "عصرَ الانحطاط." واعتبرَ الحاجري أنّ هذه الصورة جديرةٌ بأن تعدِّلَ الحُكمَ الذي اتّفق عليه مؤرِّخو الأدب العربيّ حول ريادة الشعر المشرقيّ للنهضة الأدبيّة العربيّة الحديثة، ودعا إلى إعطائه من العناية ما يستحقّ. وأعتقدُ أنّ هذه الدعوة كانت موجَّهةً ــــ في الدرجة الأولى ــــ إلى الأشقّاء العرب الذين لا يعرفون إلاّ القليلَ عن هذا البلد وأدبه، ولكنّها موجّهةٌ أيضًا إلى الموريتانيين أنفسهم كي ينفضوا الغبارَ عن تراثهم الأدبيّ الزاخر ويُنزلوه المكانةَ اللائقةَ به.
ومنذ تاريخ تلك الدعوة، ظهرتْ تبعاتٌ إيجابيّةٌ، تمثّلتْ في دراسات وطنيّة وعربيّة عديدة، قد لا تحقّق الغايةَ المرجوّةَ كاملةً، ولكنّها أعطت مقولةَ الحاجري جزءًا من حقّها. فنُشر من الأدلّة التاريخيّة والمعطيات العلميّة ما يُثْبتُها ويعمّقُها، كقول جمال ولد الحسن إنّ الشاعر الموريتانيّ الكبير امحمد ولد الطلبة اليعقوبيّ توفّي حين كان البارودي ما يزال في الثامنة عشرة؛ بل إنّ الباحث سيد أحمد ولد الدّي أكّد أنّ معارضاتِ الثاني ربّما حصلتْ بفعل التأثّر بمعارضات الأوّل.
وفي السياق نفسه يرى محمد المختار ولد أباه أنّ "لواءَ الأدب العربيّ قد حملتْه صحراءُ شنقيط خلال القرن الثامن عشر، وأعادت إليه نضرةَ الشعر الجاهليّ ومتانةَ أسلوبه وزخرفةَ الآداب العباسيّة. وانصهرتْ تلك العناصرُ في أدبٍ متكاملٍ وغنيّ، يظلمه أبناؤه إنْ لم يجتهدوا في التعريف به، ويظلمه العربُ إنْ أعرضوا عن التعرّف إليه."
أمّا في مجال الإبداع الأدبيّ الحديث، فقد تتبّع أحمد ولد حبيب الله الإصداراتِ الأدبيّةَ الحديثةَ، فرأى ــــ في دراسته الصادرة سنة 1995 ــــ أنّها 176 إصدارًا، تشمل الدواوينَ الشعريّة ومدوَّناتِ الشعر اللهجيّ والمختاراتِ الشعريّةَ الفصيحة، ثمّ الدراساتِ النقديّة، والنصوصَ الإبداعيّةَ النثريّة. ولا شكّ في أنّ ذلك يمثّل إضافةً نوعيّةً، خصوصًا على ضوء بعض الإشارات التهكّميّة التي نسمعها أحيانًا من بعض الإخوة العرب، والمتعلّقة بقلّة التأليف والإصدارات في موريتانيا. وإذ نلتمس لهؤلاء العذرَ لأنّنا لم نوفّرْ لهم مصادرَ أدبنا ومراجعَه، فإنّنا نسجّل الإعجابَ والارتياح الكبيريْن لجهود بعض الكتّاب العرب الساعية إلى التعريف بالأدب الموريتانيّ؛ ونذكر منها كتاباتِ خليل متّى، ومحمد يوسف مقلّد، وعبد اللطيف خالد الدليشي، وعبد الله السريع.
*هل ذلك الرأي، المُبكِّر جدًّا في لفتِ الاهتمام العربيّ إلى موريتانيا، كان بدايةَ تأسيسِ شعريّةٍ معاصرةٍ هنا، تُماثل، من حيث التأثّر، الشكلَ المذهبيّ السائد آنذاك في الشعر العربيّ؟
ــــ على أهمّيّةِ ما أحدثه ذلك الرأيُ من خلخلةٍ لبعض المسلَّمات التاريخيّة والثقافيّة التي كانت سائدةً في تلك الفترة حول أوّليّة الشعر العربيّ الحديث، وحول كونها لم تنطلق من مصر وإنّما من موريتانيا، ثمّ ما ألقاه لاحقًا على كاهل الأديب الموريتانيّ من مسؤوليّةٍ تُشْعره بريادته للشعر العربيّ؛ فإنّه يصعب التأكيدُ أنّ صعودَ التيّار الحداثيّ في الشعر الموريتانيّ ناتجٌ بشكل مباشر من تلك النظريّة. بل نرى أنّ البلاد شهدتْ، في الثمانينيّات وبداية التسعينيّات، تحوّلاتٍ متلاحقةً، كالحركات الإيديولوجيّة وعراكها الحادّ مع الأنظمة الاستبداديّة والدكتاتوريّات العسكريّة، ثمّ التحوّل "الديموقراطيّ،" وكذلك الهزّات الاجتماعيّة المتسارعة كتبدّل القيم وصعودِ العصبيّات العرقيّة من جديد وتنامي البطالة؛ إضافةً إلى التحوّلات الثقافيّة المتعدّدة التي كرّسها ميلادُ التعليم الجامعيّ، والتأثّرُ بالحركة الأدبيّة الجديدة في العالم العربيّ، وظهورُ الأندية الثقافيّة وحرّيّة الإعلام.
كلّ ذلك انعكس على الخطاب الثقافيّ بشكل عامّ، والشعريّ بخاصّة. فتولّد الشعرُ الجديد بدلالته المتحرّرة من سلطة التراث، وظهرتْ كتاباتٌ شعريّةٌ نظرتْ إلى الشعر الجديد باعتباره، كما يقول أدونيس، "رؤيا، والرؤيا بطبيعتها قفزةٌ خارج المفهومات السائدة." وقد قادها كلٌّ من ناجي محمد الإمام، وإبراهيم ولد عبد الله، ومحمد ولد عبدي، وغيرهم.
*أصحيحٌ أنّ الأدباء والعلماء الموريتانيّين القدماء كانوا يحصرونَ "الشعر" أو "الأدب" في كلّ موزونٍ مُقفّى؟
ــــ لا شكّ في أنّ الأدب الموريتانيّ القديم نشأ في كنف الحاضنة الدينيّة ممثّلة في المحضرة (المدرسة الدينيّة التقليديّة) التي كانت تدرِّس علومَها الروحيّة، وتفرض قيمَها الأخلاقيّة على مرتاديها. ومن ثمّ جرى تطويعُ المفهوم الشعريّ، بل الأدبيّ بشكل عامّ، عند علماء المحضرة و"أدبائها" لمجانسة علومها؛ فأصبح الشعرُ عندهم كلَّ كلامٍ موزونٍ مقفًّى، ولو كان في حقيقته لا يعدو أن يكون منظومةً عقديّةً أو فقهيّةً أو نحويّة. بل تُثْبت بعضُ الآثار المرويّة أنّ الذين حاولوا التمرّدَ على تلك الحدود الشكليّة التي تضعها المحضرةُ للشعر يعاقَبون، كما حصل لحبيب بن أوس اليعقوبي حين صرّح ببيتين من الغزل، فعاقبه الإمام ناصر الدين.
لكنّ الهيمنة الفقهيّة على الشعر سرعان ما جرى تجاوزُها، لتنفتح بنيةُ القصيدة ووحداتُها الغرضيّة. حدث ذلك منذ مرحلة الروّاد الفحول، كسيدي عبد الله ولد رازكه، والذيب الحسني، وامحمد ولد الطلبة اليعقوبيّ.
*في تبرير فكرة "بلاد المليون شاعر،" غالبًا ما يوصف الشعرُ في موريتانيا بأنّه مُحفِّز قويّ يسهم في تعضيد حياة الناس. أهذا صحيح؟
ــــ نعم. ذلك لأنّ الصلة بين أيّ مجتمع والشعر هي من القوّة والعمق بحيث يصعب تجاوزُها، وخصوصًا لدى المجتمع الموريتانيّ الذي ظلّ، إلى عهدٍ قريب، يَعتبر قرضَ الشعر وروايتَه من الشروط اللازمة التي لا تكتمل "الفتوّةُ" إلّا بها. وقد كتب الأديبُ اللبنانيّ خليل متّى في ذلك قائلًا: "الشعر خبزٌ جوهريٌّ لأبناء شنقيط، يأكلون منه ولا يشبعون، وينهلون من نبعه ولا يرتوون؛ فهمْ والشاعريّة توأما وجود..."(1)
ومنذ الاستقلال (1960) اتّجه الشعراء اتّجاهًا جديدًا يعبّر ابتداءً عن أحاسيس الوطن، ولاحقًا عن شعور الأمّة ووجدانها... مع عدم إهمال التراث، إذ بقي الشاعرُ يتغنّى بماضي العرب ويزهو بحضارتهم. وإذا كان معلومًا أنّ الشعر ليس أنجعَ وسيلة للنهضة العلميّة والحضاريّة، وقد لا يقدّم حلولًا فعليّة للمشاكل الاقتصاديّة والاجتماعيّة، فإنّه ينشر المعارفَ ويزرع القيمَ الفاضلة، بما يدفع إلى التغيير البنّاء.
*هل أدّى لقبُ "بلاد مليون شاعر" إلى تجفيف ينابيع المخيّلة الشعريّة لدى الشاعر الموريتانيّ، وإبدالها بمركزيّةٍ أحاديّةٍ مُتوهّمة ومتعالية؟
ــــ هذا اللقب الذي أطلقتْه مجلةُ العربيّ الكويتيّة في العام 1967 ولّد موقفيْن متناقضيْن. أوّلُهما يستمرئ هذه المبالغة ويستعذبُها، فيضخِّم حجمَ الأدب الموريتانيّ، لينسبَ إليه من الكثرة والتميّز ما ليس له في واقع الأمر. وربّما أدّى ذلك إلى حالةٍ من السلبيّة والجمود عرفها الشعرُ الموريتانيُّ الحديث، وإلى توهّمٍ وتعالٍ لا تخطئُهما العينُ أحيانًا، بل إلى حالةٍ من استهلاك الذات التراثيّة والعيشِ على مكاسبها الماضية باستمرار.
لكنّ هذا اللقب، في المقابل، أفرز حالةً عكسيّةً من الاستهزاء والسخرية عند البعض، لا مسوّغَ لها. ذلك أنّ الإسهام الموريتانيّ في الثقافة العربيّة هو من العمق والتمكّن بحيث يستحيل حجبُه أو القفزُ عليه. فالأدباء في هذا البلد، ولفتراتٍ طويلة، بذلوا جهودًا محمودةً، وعلى ذلك تدلّ مؤلَّفاتُهم وجودةُ إنتاجهم.
*حتّى الآن لم يُجمع الأدبُ الموريتانيّ بشكلٍ مؤسّسيّ مكتمل، بقدر ما جُمع بشكلٍ أهليّ وفرديّ. ما أسبابُ ذلك؟
ــــ هذا الأدب ظلّ، إلى عهد قريب، أدبًا عشائريًّا، تحرّكه رغبةُ القبيلة في تخليدِ أمجادها، أو سعيها إلى التحدّي والمفاخرة. وبديهيّ أنّ المرحلة تستدعي تجاوزَ هذا المنحى. ومع ذلك، لا بأسَ إنْ جُمِع أدبُ كلّ ناحية أو قبيلة على حدة، كمرحلة أولى، لتعمل جهةٌ رسميّةٌ أو خاصّةٌ بعد ذلك على تنسيقه والربطِ بينه، ليصبح أدبًا وطنيًّا جامعًا، يمحّص الموروثَ الوطنيّ، ويخلّصه من العصبيّات والعنتريّات، ويثمّن ما فيه من قيم مشتركة تحضّ على الثوابت الدينيّة والوطنيّة والجيرة الحسنة ومكارم الأخلاق.
بيْد أنّ عدمَ تحمّل الدولة لمسؤوليّتها في العناية بالموروث الأدبيّ وجمعه، وغلاءَ طباعة المدوّنات والكتب، وعجزَ ملّاكها عن نشرها، وانعدامَ دُور النشر: كلّها تبقى تحدّياتٍ كبيرةً ما زالت تلقي بظلالها القاتمة أمام انتشال بعض الأدب الموريتانيّ من الضياع، ونشرِه لتعمّ به الفائدة.
*إلى أيّ حدٍ ساهمَ صراعُ اكتساب الهويّة العروبيّة والطَرفيّة الإقليميّة في تهميش الأدب الموريتانيّ خارج المدوَّنة المؤطِّرة للشعر العربيّ المعاصر؟
ــــ بعد الاستقلال واجهت الدولةُ الوطنيّة صعوباتٍ عديدةً، أبرزُها إعراضُ الدول العربيّة عنها، وامتناعُها عن الاعتراف بها عضوًا في جامعة الدول العربيّة، واعتبارُها بلدًا إفريقيًّا فحسب. وولّد هذا الواقعُ ما يمكن أن يسمّى "عقدةَ الهويّة" التي لازمت الإنسانَ الموريتانيّ طويلًا، ودفعتْه أحيانًا إلى محاولة التغلّب عليها عن طريق العتب والتذكير، أو استعراض الأصول والأعراق المشتركة. هذا الواقع ترك تأثيرَه في التعاطي الثقافيّ بين موريتانيا والبلاد العربيّة، فأدّى ــــ فترةً من الزمن ــــ إلى تهميش الأدب الموريتانيّ لدى المنابر والمؤسّسات الثقافيّة العربيّة. ولكنْ، منذ أن انتمت موريتانيا بشكلٍ رسميّ إلى الجامعة العربيّة (1973)، استطاع الأدبُ الموريتانيّ أن يَفرضَ نفسه تدريجيًّا على المؤسّسات المعنيّة، وفي شتّى المحافل العربيّة.
*خارج إطار الأغراض التقليديّة، هل تناول الشعرُ الموريتانيّ القديم محيطًا بيئيًّا معلومًا تأثرّ بتطوّراته الاجتماعيّة والسياسيّة العامّة؟
ــــ العلاقة بين الأدب والبيئة موضوع قديم جديد أكّدتْ صحّتَه الدراساتُ النقديّة على غير صعيد. وما نحن بصدد التركيز عليه هنا هو أنّ التاريخ الموريتانيّ القديم شهد ازدهارَ بعض الإمارات، وصراعًا داخليًّا لدى بعضها، وخارجيًّا بين بعضها والبعض الآخر. كذلك استقرّ فيه نظامُ التقسيم الفئويّ، الذي جعل فئاتٍ بعينها تتّجه إلى التعلّم والتعليم: فتحتكر السلطة الدينيّة والثقافيّة، ومن ثمّ تتّخذها لفرض شكل من أشكال التوازن مع السلطة الزمنيّة ممثّلةً في غلبة بني حسّان العسكريّة. وعلى هذا الأساس استُخدم "الشعر" لدى الزوايا في نظم المعارف؛ كما استُخدم سلاحًا في معركة النفوذ بين "الجبهتين" (حسّان والزوايا).
وفي هذا السياق نلاحظ شبهَ قطيعةٍ بين شعراء تلك الفترة، الذين ينتمي أغلبُهم إلى الزوايا، وسلطةِ الإمارات الحاكمة. فقلّت مدائحُهم والمراثي فيهم. بل ظهرتْ نصوصٌ شعريّة تنقد ظلمَ بني حسّان، وتنعتهم باللصوص، وتحذّر من شرّ فعالهم. وهذا يذكّرنا بالشعر النضاليّ الذي استهدف الاستعمارَ الفرنسيّ بقصائدَ تستدعي العاطفةَ الدينيّة، وتدعو إلى الجهاد دفاعًا عن بيضة الدين وحياض الوطن، مثل رائيّة سيدي محمد ولد الشيخ سيديا.
*كيف كانت المحاولات الحداثيّة في الشعر الموريتانيّ، التي استندت إلى الوعي الإيديولوجيّ؟ وهل توافقتْ مع التصنيف السائد في العالم العربيّ آنذاك؟
ــــ استندت المحاولاتُ الحداثيّة الأولى في الشعر الموريتانيّ إلى وعيٍ قوميّ إيديولوجيّ واضح، يستنكر في معظمه الخلافاتِ البينيّةَ للأنظمة العربيّة، وتخاذلَها إزاء القضايا المصيريّة الكبرى كالقضيّة الفلسطينيّة. والمرجعيّة الإيديولوجيّة هنا تحديدًا هي الفكر الناصريّ والبعثيّ وحركة الإخوان المسلمين. ويرتكز هذا الوعي إلى استلهام البطولات العربيّة القديمة وقودًا لمواجهة الغزاة الصهاينة. وهو موضوعٌ تناولتْه قصائدُ كثيرةٌ مشهورة، عبّرتْ عن معاناة الشعب الفلسطينيّ أمام الغطرسة الإسرائيليّة وتعامي العالم عن هول جرائمها مثل: "الصليب المصلوب،" و"الذبيح المذبوح،" و"رحلة السندباد." وقد اتّفق هذا المنحى، بطبيعة الحال، مع التصنيف الزمنيّ لصعود تجربة الشعر العربيّ الجديد، وما عُرف من انشغال القصيدة العربيّة الحداثيّة بالجرح الفلسطينيّ.
*كيف استبدلتْ هذه المحاولاتُ الأغراضَ التقليديّةَ للقصيدة القديمة؟ وهل كان ذلك الاستبدال حتميًّا، وبخاصّةٍ مع التغيّر الملحوظ في الشكل؟
ــــ إضافةً إلى الوعي القوميّ الذي كان صوتُه عاليًا في الشعر الحداثيّ الموريتانيّ، تفجّر وعيٌ آخر صوتُه أقوى: إنّه الوعي الوطنيّ المحلّيّ الذي اتّسم بالمواجهة السياسيّة مع النظام المحلّيّ الموسوم بالاستبداد. كما اتّسم بمعالجة قضايا البيئة، كالجفاف والتصحّر، وما أدّيا إليه من هجرة من الريف إلى المدينة. ومن شعراء هذه المرحلة مَن واجهَ البنية التقليديّة بتراتبيّتها الحسَبيّة والنسَبيّة، معلنًا رفضَه للنظام العشائريّ وهرميّته الاجتماعيّة.
مكّن هذا التوجّهُ الشعرَ من مواكبة التحوّل العميق في الواقع. وهو تحوّلٌ في الغرض سايره أيضًا تغيّرٌ ملحوظٌ في الشكل؛ ومن أبرز سماته: الخروجُ على هندسة الشطريْن عبر نظام السطر الذي يتفاوت طولًا وقِصَرًا، وتوظيفُ تقنيّات الوحدة العضويّة، والتكرير، وحريّة الوزن، وتعدّد الرويّ.
*من الأشياء التي تؤكّدُ تأثّرَ الشعر الموريتانيّ الجديد بنظيره العربيّ تناولَه المُكثّف للمسألة القوميّة.
ــــ برغم التوتّر السياسيّ الذي عرفته العلاقاتُ الموريتانيّة ــــ العربيّة بُعيْد الاستقلال، فإنّ ولاءَ الشعراء الموريتانيّين القوميّ لم يتزحزح. فظهر عندهم التغنّي بالوحدة العربيّة، والأملُ في تكسير الحدود المصطنعة، والحلمُ بتحرير فلسطين. إلّا أنّ تعلّقَهم بهذه الأحلام الورديّة لم يمنعهم من النظر إلى الواقع العربيّ المرير بعينٍ فاحصة أرشدتْهم إلى مكمن الداء، ممثَّلًا في فساد الأنظمة العربيّة وخيانتها للقضيّة. فرسموا صورًا ساخرة ولاذعة للحكّام العرب، واستنهضوا هممَ الشعب العربيّ لمواجهة هذا الوضع الصعب. وكان هذا المنحى واضحًا في شعر أحمدو ولد عبد القادر، وناجي محمد لمام، ومباركة من البراء، وضوحَه في شعر قبّاني ودرويش على سبيل المثال.
*ما مدى ارتباط الحداثة في الأدب الموريتانيّ بالتحديث السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ في ظلّ الدولة الوطنيّة الجديدة؟
ــــ الناظر في فترةِ ما بعد الاستقلال سيلاحظ أنّ البلاد شهدتْ جملةً من التحوّلات العميقة. فقد انبثقت الحركاتُ الإيديولوجيّة، وتشكّلتْ بعدها الأحزابُ السياسيّة، وتطوّرت التشكيلةُ الاجتماعيّة بظهور هذه الأحزاب، فضلًا عن النقابات ومنظّمات المجتمع المدنيّ. ومثّل التعليمُ النظاميّ في هذه الظروف الجديدة حجرَ الزاوية في مشروع التحديث: فقد تخرّجتْ من المؤسّسات والمعاهد الجديدة والجامعات العربيّة والأجنبيّة كوادرُ مؤهّلةٌ ومنفتحة على العصر ومستجدّاته، وكان لبعضهم أثرٌ واضحٌ في إثراء الساحة الأدبيّة.
إنّ تداخُلَ هذه العوامل وتفاعلَها أدّيا إلى تفجير وعيٍ معرفيّ جديد، قاد بعضَ الشعراء إلى التحرّر من سلطة التراث الشعريّ، وتأسيسِ نمط شعريّ جديد ظهرتْ معالمُه في العقدين الأخيرين من القرن العشرين. ومع أنّ شعراء هذه المرحلة تفاوتوا في رؤيتهم إلى الإبداع، وفي موقفهم من سلطة الأنموذج، فإنّهم اتّفقوا على أنّ الشعر العربيّ لا يمكن أن يبقى حيث أراد له القدماء ونظّر له الخليل الفراهيدي، مجرّدَ أغراضٍ تقليديّةٍ وأوزانٍ وقوافٍ؛ وإنّما هو فعلُ ممارسةٍ وتجربةٍ ذاتيّة دائبة، "لا يهدأ مجدافُها ولا ينطوي شراعُها،" ينفي صاحبُها عنها كلَّ تسييج قبْليّ ونفعيّ، ليصبح هذا الشعرُ جنسًا جديدًا مفتوحًا على المستويين البنائيّ والدلاليّ، فيعكسَ قدرةً على التحرّر من الجمود، ووعيًا بالذات، واستجابةً لمطالب الواقع المحليّ والقوميّ، وإمكانيّةً لفهم العالم وقيمِه الجديدة.
*أيُّ صعوباتٍ تقف أمام تبيئة الممارسة النقديّة الأدبيّة الحديثة في موريتانيا؟
ــــ لم تكن العناية بدراسة الشعر ضمن مجالات اهتمام الموريتانيّين قديمًا، إذا استثنينا كتبًا قليلة جدًّا تؤسِّس لضرورة سلامة اللغة والخضوع للنظام الخليليّ. لكنْ، مع الاستقلال الوطنيّ وبدايةِ الانفتاح على العالم الخارجيّ، بدأتْ دراسةُ الأدب تتّخذ منحًى علميًّا إلى حدٍّ ما، ليصبح النقدُ مجالَ تخصّص يُدرَّس في الجامعات، ويُتناول في الكتب والدراسات. وعلى الرغم من أنّ هذا الخطاب لم يبلغ مرحلةَ النضج في موريتانيا إلّا مع العقدين الأخيرين من القرن العشرين، فإنّ أكبر الصعوبات التي ما زالت تقف أمام تبيئته: قِصَرُ عمره، وقلّةُ المتعاطين به، وتماهي بعضهم مع التنظير المدرسيّ والإخلاص لرؤية نقديّة معيّنة بشكل متعسّف لا يراعي خصوصيّة التجربة المدروسة، والامتناعُ عن التصريح بالحكم النقديّ المناسب خوفًا من ردّات الفعل العشائريّة التي ما زال بعضُها يَعتبر النقدَ السلبيَّ الموجَّهَ إلى الشاعر بمثابة تحدٍّ سافرٍ لذويه وحاضنته الاجتماعيّة.
ومن هذه الزاوية بالذات يُمارَس، في بعض الحالات، شيءٌ من الزبونيّة ــــ تنويهًا وتضخيمًا ــــ في المدوَّنة المدروسة، فتنشأ معاييرُ لا علاقةَ لها بالممارسة النقديّة الصحيحة، كالقرابة والقبليّة والمناطقيّة. وهذا ما يؤثّر في علميّة بعض المقاربات النقديّة ومصداقيّتها، ويَسِمُها بنوعٍ من التصالحيّة والتسويق، بعيدًا عن الحياد والدقّة والموضوعيّة التي هي أسس جوهريّة لهذا الفنّ.
وتضاف إلى تلك العوامل هشاشةُ التعليم الجامعيّ، وندرةُ مؤسّساته؛ ما ينعكس سلبًا على الحركة العلميّة عامّةً، وعلى الدرس النقديّ واستفادته من المناهج القرائيّة الحداثيّة بخاصّة.
*هل بروز الأشكال النثريّة الحديثة على الساحة الموريتانيّة كان لاحقًا على محاولات التجديد في الشعر؟
ــــ إذا انطلقنا من الرأي الذي يَعتبر أنّ قصّة عشاء المؤمنين لاسلمو ولد بيّه (1973) كانت بدايةَ النسق السرديّ الحديث في موريتانيا، ولاحظنا أنّ تلك البداية جاءت انسياقًا مع التغيّرات التي شهدها المجتمعُ منذ الاستقلال فاستدعت أنماطًا جديدة من القول، لها ما ليس للشعر من طُول النفَس والسهولة والقدرة على الغوص في تفاصيل الحياة الواقعيّة؛ تعذّر علينا الحكْمُ القاطعُ بتبعيّة النسق السرديّ الحديث للتجديد الشعريّ آنذاك. إلّا إنّ هذه الأنساق الأدبيّة الجديدة مجتمعةً هي فروعٌ لشجرةٍ واحدة، أنتجتْها بيئةٌ واحدة، وفي ظروف متزامنة تقريبًا. ومن الصعب الجزمُ بأقدميّة بعضها على بعض، وخصوصًا في ظلّ نظريّة "تداخل الأجناس" التي باتت شائعةً في العصر الحديث.
وعلى هذا النحو تواشجتْ زمنيًّا قصصٌ ودواوينُ لبعض الشعراء القصّاصين الروّاد، نذكر منهم: أحمدو ولد عبد القادر. فإصدارته القصصيّة هي: الأسماء المتغيّرة (1981)، والقبر المجهول (1984)، والعيون الشاخصة (2000)؛ بينما له إصداران شعريّان، هما: أصداء الرمال (1981) وكوابيس (2002).
*هل هشاشة الأرضيّة الفكريّة التي قامت عليها القصيدةُ الموريتانيّة قد انعكستْ عليها؟
ــــ كنت أفضّل الحديث عن هشاشة الواقع، بمفهومه الواسع، كمدخلٍ مناسبٍ للكلام على هشاشة الأرضيّة التي قامت عليها القصيدة الموريتانيّة الحديثة. فلا شكّ في أنّ تردّي حالة البلد بشكل عامّ، وهشاشة الوضع الثقافيّ بشكل خاصّ ــــ ولا سيّما من خلال ندرة التعليم الجامعيّ، ورداءةِ المناهج الدراسيّة، وضعفِ الحركة النقديّة المؤطِّرة للشعر، ومحدوديّةِ انفتاح البلد ثقافيًّا على العالم العربيّ والغرب ــــ من الأمور التي تركتْ أثرَها الواضح في ما أنتجه الشعراءُ الموريتانيّون الجدد. ومَن يُلقِ نظرةً خاطفةً على دواوينهم يدركْ ذلك من دون كبير عناء؛ فدواوينهم مترعةٌ بمعجم الهشاشة (الضياع، التردّي، الخواء، التيه، الغرق، الليل، الفناء، المجهول...). وهذه "السباخ الملحيّة،" بتعبير جمال ولد الحسن، تفرض إرادتَها القويّة في وعي الشعراء الموريتانيّين ولاوعيهم، وتجعلهم يسلكون طرائقَ قددًا للتعبير عن المعاناة.
بيْد أنّ الشعر الموريتانيّ الحديث، في تصاديه مع الهشاشة، يخلق أحيانًا شكلًا من أشكال الإبداع الفنّيّ والوعي بالذات والتعاطي الإيجابيّ مع قضايا الوطن والأمّة والهويّة.
1- مقدّمة كتاب تطوّر الأدب الشعريّ في موريتانيا، لمؤلِّفه أحمد بن أحميّد (نواكشوط: مطبعة جيكا، 1965)، ص 8. وهي المقدمة التي كتبها خليل متّى.