قبل منتصف الليل بساعةٍ ونصف، وُلد فائز.
وحين هتفت المُمرِّضة تقول "مبروك،" أحسستُ به، فائز، يقع على كتفي. وللحظات، أحسستُ بشيءٍ يشبه الدُّوار. وفي صخب المشاعر التي كانت تجتاحني، أحسستُ بأنّني مرتبطٌ أكثرَ بهذه الأرض التي أمشي عليها. كأنّ وقوعَه فوق كتفي قد غرسني عميقًا في التراب.
في الصباح، حملتْه المُمرِّضة وعرضتْه أمام عينيَّ من وراء الزجاج. بدا لي قطعةَ لحمٍ حمراءَ، غبيّةً، مغلقةَ العينين، مفتوحةَ الفم، راعشةَ الكفّيْن. عينان أمامهما الكثيرُ لترياه، وفمٌ عليه أن يمضغ طويلًا، وكفّان لا يدري أحدٌ: أهما للعطاء، أمْ للأخذ، أمْ لكليْهما؟
قال لي الطبيب الواقف الى جانبي:
ــــ ما هو شعورك ؟
ــــ لا شعور لديّ.
ــــ أبدًا؟
ــــ أبدًا.
كأنّني كنتُ أقول لنفسي إنّ في الوقت متَّسعًا لملايين من المشاعر: متَّسعًا للغضب والفرح والمفاجأة والخيبة والسعادة والشقاء والضحك والأسى والحبّ والكره والانتظار والملل. ملايين من اللحظات المترعة بغزارةِ كلِّ ما في هذه الأرض من تناقض.
***
في الغرفة الأخرى كانت أمُّه ملقاةً فوق الفراش. لقد نسيتْ كلَّ الآلام التي اجترعتْها في سبيلِ أن يولد. نسيت الدموعَ التي أهرقتْها في العشرين ساعة الماضية. نسيتْ كلَّ شيء. كأنّ الحبَّ الجديد الذي ملأها فجأةً حين قالوا لها إنّها وضعت؛ الحبَّ الغزيرَ الذي لا يمكن أن يحمله إنسانٌ لإنسان إلّا الأمُّ لابنها؛ كأنّ هذا الحبّ قد غسل كلَّ شيء بيدٍ أسطوريّة.
وبينهما ــــ هو بين يدي الممرِّضة وراء الزجاج، وهي في سريرها غيرَ قادرةٍ على أن تخطو لتراه معي ــــ كنتُ أقف مغسولًا بالحبّ والخوف، صافيًا كأنّني من زجاج: ليس ثمّة أيُّ شيء أفكّر فيه أو أهتمّ له؛ مجرّد رجل يقف مثلَ ملايين الرجال الذين لا يعرفون حقيقةَ المستقبل؛ عاجزًا ضئيلًا صغيرًا أمام المجهول الذي يطوِّقه بزوجةٍ يريد أن يعطيها ماءَ عينيه، وولدٍ يريد أن يهبَه نبضَ شرايينه.
واقفًا هناك، كما لو أنّ المشاعرَ الجديرةَ بأن يحملها أثقلُ من أن يحملها، فتركها تحوم حوله كهواءٍ له صوتٌ، وله رائحةٌ، وله ثقل؛ تمسّه كما تمسّ الحجرَ، وتغوص في كيانه، حتى ليجهل: أهو الذي نفثها، أمْ هي التي نفثتْه.
وحينما أنامته الممرِّضةُ من جديد، خطوتُ عائدًا إلى غرفة زوجتي. ولكنْ ما إنْ سمعتُ صوتَ خطواتي، حتى عدتُ إلى عالمي: عالمٍ جديدٍ مطوَّقٍ بشيء اسمُه حبٌّ حقيقيّ. حبٌّ لا إلزامٌ فيه ولا جزاء. حبٌّ لِذاته، بلا تعويض، بلا بديل، بلا ثمن، بلا خوف. حبٌّ صافٍ لم أحسَّ به أبدًا من قبل، أبدًا، أبدًا. حبّ لذلك الطقل الذي وُلد منّي، بسببي، ومن أجلي. وكان ثمنَه حبّي لها، وحبُّها لي، ليس غير. حبٌّ لا غاية له ولا هدف. حبٌّ مترع بالعطاء، يطوف في صدري، حتى أحسّه ينسكب في جسدي كما لو أنّه ينضح ندًى، فيبتعث فيَّ فرحَ العطاء الحقيقيّ الذي لم يلوَّثْ بعدُ بتعقيدات الحياة، بقانون "خذ وهات،" وقانون "أنت وأنا،" وقانون "أين ولماذا وكيف."
مجرّد عطاءٍ محض، غير مشوب بأيّ سؤال أو طلب أو انتظار أو تلكّؤ أو تردّد. مثل ماذا؟ مثل لا شيء، مثل ذاته ليس غير. لو قُدِّر لنبعةِ الماء أن تحسَّ، إذن لأحسَّت ذلك الشعورَ: العطاءَ المحضَ، الذي يُخلق من جديد كلَّما شرب عابرٌ من مائها.
***
حين نظرتُ في عينيْ "آني" فهمتُهما. ولستُ أدري لماذا أوشكتُ أن أبكي. بل إنّني أحسستُ بالدموع تطوف في حلقي مثل الغصّة. وبذلتُ كلّ طاقتي لأقول أيَّ شيء. عبثًا! لم يكن في لساني إلّا ذلك التساؤلُ الغبيّ:
إذا أعطيتم الطفلَ حقَّ البكاء حين يولد، أفلا تعطونني هذا الحقَّ حين أولد أنا بولادته؟
أليست كلُّ الأيّام التي خلَّفتها وراء ظهري قد ذابت الآن؟
ألا يحقّ لي أن أفعل كلَّ الذي أشاء، وقد عثرتُ على قطعة السكّر في قاع الكأس التي اجترعتُ مرارتهَا كلَّ شبابي؟
***
ولكنّكَ كنت وراء الزجاج، يا فائز. بيني وبين لمسك مثلُ ما بين اليوم واليوم. نائمًا هناك في غطائك الأبيض، تعني للمستشفى رقمًا مربوطًا إلى زندك ليميِّزَكَ من بين عشرات المواليد الذين يشاطرونك الغرفة. وأمّا بالنسبة إليّ، فإنّك تعني الحياة المزدوجة: حياتَكَ، وحياتَنا، أمّك وأنا.
أوَتدري متى بدأتُ أفكّر بك؟
أقول "أفكّر بكَ" وقد أحسستُ بكَ كلَّ الوقت.
حدث ذلك حين دخلت المُمرِّضة لتأخذ أمَّكَ الى غرفةٍ أخرى:
ــــ لماذا؟
ــــ لأنّ هذه الغرفة خاصّةٌ بالدرجة الثانية، وأريد أن آخذ زوجتَك الى غرفة الدرجة الأولى.
عندها فقط جعلوني أحسُّ بأنّني فقير، وبأنّي لن أعطيك الحياةَ التي يستطيع غيري أن يعطيها ابنَه، ولأنّ هذا كلّه قد يعني لديكَ ـــ غدًا ـــ شيئًا.
لا تحسبْ أنّني لا أريد أن يعني هذا لديكَ أيَّ شيء! الأمر لا يتعلّق بك. إنّه يتعلّق بي، أنا فقط. لست أريد أن يشوب عطائي أيُّ ندم.
أنا، يا فايز، لا أطالبكَ بحقّ الأبوّة في المستقبل؛ هذا الحقّ الذي لا قيمة له إذا طالب المرءُ به. إنّما أطالبُ نفسي بحقّكَ عليَّ. وهذا هو كلّ شيء عندي الآن. لقد اكتشفتُ الآن فقط أنّ كلّ شيء سيبدو تافهًا لو طالبتُكَ بأن تعوِّض لي سعادتي بأبوّتي لك. ولكنّني لن أغفر لنفسي تقصيري بالمضيّ في هذه السعادة حتى آخر الشوط، بلا مقابل، بلا تعويض. هذه قضيّتي أنا. أتعرف معنى هذا؟
***
وأنا أخرج من غرفة أمّكَ، عرفتُ أيضًا معنى الهّم؛ ذلك العبءِ الذي يُثقل أكتافَ الرجال لأنه ينبع من الداخل، عميقًا من الداخل، ويعطي الحياةَ ذلك الحافزَ النبيلَ الذي يفتقر إليه رجلٌ لا يعرف معنى العبء الذي ينبع من الداخل.
*عثرت الآداب على هذه المقالة في بعض يوميَّات غسّان كنفاني ؛ وليس للمقالة عنوان. وقد نُشرتْ في الآداب في الذكرى العشرين لاستشهاده، ونعيد نشرها في ذكراه الـ46 اليوم.