لا تُشبه الحربُ في سوريا، منذ نشوبها ربيعَ العام 2011، سوى نفسِها. فما من بلدٍ إلّا وتدخّل، بشكل مباشر أو غير مباشر، في تفاصيل الصراع في سوريا، وعليها، ومعها.
كانت الأطراف المتصارعة تتحالف مع محاور إقليميّة ودوليّة متناقضة، وأحيانًا مع حلفاء أعدائها، في صراع البقاء. وقد تأرجحتْ أهدافُها بين الانتصار الكامل، وتقاسمِ السلطة، والحصولِ على الحدّ الأدنى من المكتسَبات، وخدمةِ أجندات الداعمين والمشغِّلين.
كان كُردُ سوريا أكثرَ مَن عانوْا ظلمَ الحكومات السوريّة المتعاقبة. فالآلاف منهم حُرموا جنسيّةَ بلدهم بعد إحصاءٍ استثنائيٍّ جائر في عهد الرئيس السابق ناظم قدسي عام 1962، ولم ينل سوى قسمٍ يسيرٍ حقَّه في الحصول عليها، وهؤلاء سُمّوا "أجانبَ الحسكة." وما زال الآلافُ منهم غيرَ مسجّلين في الدوائر الرسميّة بحجّة أنهم قدِموا إبّان الثورات الكرديّة في تركيا، وقد اصطُلح على تسمية هؤلاء "مكتومي القيد."
خلال الحرب السوريّة عام 2011 انقسمت الحركةُ السياسيّة الكرديّة بين تيّارين رئيسيْن:
ــــ الأول انخرط في صفّ الداعين إلى إسقاط النظام، وهو المجلس الوطنيّ الكُرديّ، المقرَّب من حكومة إقليم كردستان العراق ورئيسِه السابق مسعود البارزاني. وقد انضمّ إلى أطر المعارضة الرئيسة: بدايةً في المجلس الوطنيّ السوريّ، ولاحقًا في الائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة السوريّة، وأخيرًا في الهيئة العليا للتفاوض.
ــــ أما الطرف الثاني فكان حزب الاتحاد الديمقراطيّ، المرتبط إيديولوجيًّا بحزب العمّال الكًردستانيّ، وبزعيمه عبد الله أوجالان، الذي يقود نضالًا مسلّحًا ضد الحكومة التركيّة منذ العام 1984، واعتُقل سنة 1999 بعد عمليّة استخباراتيّة تركيّة ــــ أمريكيّة ــــ إسرائيليّة، ويقضي فترةَ سجنه مدى الحياة في سجن إيمرالي، الواقع في بحر مرمرة التركيّ.
نسّق الاتحادُ الديمقراطيّ مع الحكومة السوريّة في المناطق ذاتِ الغالبيّة الكُرديّة. وخاضا معارك مشتركة ضدّ فصائل المعارضة السوريّة المتشدّدة التي سعت إلى السيطرة على هذه المناطق.
كانت بداياتُ العام 2014 حاسمةً للعلاقة بين "وحدات حماية الشعب" (الذراع العسكريّة لحزب الاتحاد الديمقراطيّ) والجيش السوريّ. فتنظيم الدولة الإسلاميّة (داعش) سيطر على جلّ مساحة مدينة كوباني/عين العرب، ولم تلقَ دعواتُ "وحدات الحماية" إلى المساعدة أذنًا صاغيةً من الحكومة السوريّة، ما اضطرَّها إلى الاستنجاد بالأطراف الدوليّة. فكانت فرنسا أوّلَ من قدّم يدَ العون إليها في معركتها المصيريّة تلك، وتلتها في الدعم الولاياتُ المتحدة (التي فقدت صحفيَّها جيمس فولي نحرًا على يد داعش).
العمليّات المشتركة بين "الوحدات" والأمريكيين كانت بدايةَ علاقةٍ أقوى بينهما، ولاحقًا بين التحالف الدوليّ و"قوّات سوريا الديمقراطيّة" (التي تشكّل "الوحدات" عمادَها الرئيس)، وتُوِّجت بالسيطرة على مدن تل أبيض (الفاصلة بين منطقة الجزيرة ومدينة كوباني) ومنبج، والرقّة (عاصمة داعش)؛ بالإضافة إلى أجزاء دير الزور الواقعة شرقَ الفرات، والتي اعتُبرتْ حدًّا فاصلًا بين نفوذ الولايات المتحدة والاتحاد الروسيّ وفق تفاهمات كيري ــــ لافروف منتصفَ العام 2016.
العمليّات العسكريّة للكُرد تلك تزامنتْ مع إنشائهم الإدارةَ الذاتيّة الديمقراطيّة مطلعَ العام 2014، ولاحقًا الفيدراليّة الديمقراطيّة لشمال سوريا منتصفَ العام 2016، ومؤخّرًا الإدارة الذاتيّة لشمال وشرق سوريا أواخرَ العام 2018.
كانت العلاقة بين حزب الاتحاد الديمقراطيّ والأمريكيين تتناسب عكسًا مع علاقاته بالحكومة السوريّة. فتزامن تعزيزُ علاقتهما مع اشتباكات غير مسبوقة بين الجانبين في القامشلي والحسكة.
كانت الانعطافة الثانية في العلاقة بين الجانبين هي في إعلان الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب سحبَ جنوده من سوريا نهايةَ آذار من العام 2018. وقد شكّل ذلك بدايةَ حوار بين مجلس سوريا الديمقراطيّة (الممثِّل السياسيّ لقوات سوريا الديمقراطيّة والإدارات الذاتيّة في شمال سوريا وشرقها) والحكومة السوريّة على جولتين. لكنّ الحوار توقّف من حيث بدأ بسبب التباعد بين طروحات الجانبين، وتزامنًا مع إرجاء ترامب سحبَ قوّاته بعد تدخّل الرئيس الفرنسيّ.
كان الإعلان الأمريكيّ مؤشِّرًا على غياب أيّ أهمّية استراتيجيّة لسوريا في القاموس الأمريكيّ، إذ علّله ترامب حينذاك بغياب النجاعة الاقتصاديّة. ولم تكن العودةُ عن قراره ذاك سوى تأجيلٍ وحسب ــ ــ وهذا ما لم يضعه المتفائلون بالولايات المتّحدة في حسبانهم. ولم يستفقْ هؤلاء من غفوتهم سوى بعد الإعلان الأمريكيّ الثاني عن سحب الجنود الأمريكيين بشكل سريع وكامل من سوريا، وإصرارِ ترامب على تنفيذ خطّته هذه، مبرِّرًا ذلك بغياب أيّ سببٍ للبقاء، وبوصف سوريا بأنّها بلدُ رمال وموت،[1] وأنه سيسلّم ملفَّ شرق الفرات إلى حليفه التركيّ.
ترامب: أنا لا أريد البقاء في سوريا الى الأبد. إنها رمل وموت
التسليم الأمريكيّ المفترض ما كان ليفعله ترامب سوى لخلط أوراق دول ترويكا أستنة، المؤلّفة من روسيا وإيران وتركيا. وهو يهدف إلى إبعاد حليفة واشنطن المتمرّدة (أنقرة) عن العدوّ الاستراتيجيّ (موسكو)، وكذلك ضمِّها إلى محور الدول التي تحاصر طهرانَ بعد إلغاء الرئيس الأمريكيّ اتفاقَ سلفه (أوباما) مع الجمهوريّة الإسلاميّة أواسطَ العام 2015.
لكنْ يبدو أنّ المخطَّط الأمريكيّ لم يسِرْ كما أريدَ له؛ فالمصلحة التركيّة مع موسكو وطهران لم يكن التخلّي ليتمّ عنها بالسُّهولة التي طلبتْها واشنطن. وعليه، فقد أرجأت القيادةُ الأمريكيّة الانسحابَ حتى "استكمال المهامّ" ــ ــ وهو ما حدّدتْه بالقضاء على "داعش" وضمان عدم مهاجمة القوّات الكرديّة التي حاربته.
كانت استجابةُ الاتحاد الديمقراطيّ سريعةً إزاء قرار الانسحاب الأمريكيّ. فسارعتْ إلى فتح قنوات الاتصال مع موسكو ودمشق، وأنجزت اتفاقًا سريعًا بخصوص منبج (غرب الفرات)، مستبقةً أيَّ هجوم تركيّ مرتقب عليها. وهذا ما أربك حساباتِ واشنطن وأنقرة، اللتين لم تكونا لتسمحا للجيش السوريّ بتسلّم تركة الأمريكيين في سوريا. فواشنطن عارضتْ مرارًا التوصّلَ إلى اتفاق بين الكُرد والحكومة السوريّة، بهدف إبقاء الملف الكرديّ رهينةً لديها من أجل بيعه في نهاية المطاف بأثمانٍ باهظة. لذا تحوّل الهدفُ المشترك لواشنطن وأنقرة إلى إقامة منطقة آمنة تحفظ الهواجس التركيّة من وجود عناصر تابعة لحزب العمّال الكُردستانيّ داخلها، وتراعي أيضًا عدمَ استهداف مقاتلي "قوات سوريا الديمقراطيّة."
غير أنّ الهدف الرئيس من التنسيق التركيّ ــــ الأمريكيّ هو مناهضة التمدّد الإيرانيّ في سوريا ــ ــ وهذا هدفٌ يصعب على أنقرة، أو "قوات سوريا الديمقراطيّة،" القيامُ به. وعليه، فإنّ الاتحاد الروسيّ هو الطرفُ الأقدر على ملء الفراغ الأمريكيّ، وعلى طمأنةِ واشنطن وتل أبيب من الوجود الإيرانيّ في سوريا، وطمأنةِ تركيا من أيّ مشروعٍ كرديّ على علاقة بحزب العمّال الكُردستانيّ. كما أنّ الاتحاد الروسيّ هو الأقدر على إعادة سلطة الدولة السوريّة على كامل جغرافيّتها، مقابل سيناريوهات أخرى تكتنفها هواجسُ قد تفضي إلى تجدّد أوار الحرب التي خمدتْ بفضل اتفاقات خفض التّصعيد في أستنة.
الخيار الكرديّ المفضّل هو في إيجاد حلول عملانيّة مشتركة مع الحكومة السوريّة، يقلب الطاولة على كلّ السيناريوهات السيّئة الأخرى. فلدى الجانبين مشتركات عديدة، مقابل خلافاتٍ يجب ألّا تطغى على أيّ حلٍّ قادمٍ يمثّل الكرد السوريين في بلدهم ـ ــ وهم الذين كانوا من أوائل مَن دافعوا عن بلدهم إبّان الاحتلال الفرنسيّ، وساهموا في إنشاء الدولة السوريّة الوليدة في عهد الاستقلال. فالتمييز الذي عاناه كُرد سوريا من الحكومات السوريّة المتعاقبة يجب أن ينتهي مرةً وإلى الأبد، كما يجب التوصّل إلى اتفاق لتأسيس سوريا جديدة لكلّ أبنائها.