أستاذ التاريخ والعلاقات الدوليّة في الجامعة اللبنانيّة. من كتبه: صراع القوى الكبرى على سوريا، السياسة الخارجيّة التركيّة، سوريا ومفاوضات السلام في الشرق الأوسط.
لماذا يريد ترامب الإطاحة بمادورو؟
تبدو الولاياتُ المتّحدة عازمةً على الإطاحة بالنظام الاشتراكيّ الذي أسّسه الرئيسُ الراحل هوغو تشافيز في فنزويلّا، وبرئيسِ فنزويلّا نيكولاس مادورو، المعارضِ لسياساتها الساعية إلى الهيمنة على أميركا اللاتينيّة. وفي مؤشّرٍ على ذلك، بدأتْ طائراتٌ عسكريّةٌ أميركيّة في نقل "مساعدات إنسانيّة" إلى مدينة كوكوتا الكولومبيّة، القريبةِ من الحدود الفنزويليّة، والتي تزمع الولاياتُ المتّحدة جعلها نقطةَ انطلاقٍ لعمليّاتها "الإنسانيّة" ضدّ فنزويلّا. وهو ما دفع مادورو إلى إغلاق الحدود مع كولومبيا.
وقد رأى المحلّلُ السياسيّ الأميركيّ دونالد لاسكين[1] أنّ جهود واشنطن للإطاحة بالحكومة الفنزويليّة موجّهةٌ، بطريقة غير مباشرة، إلى موسكو، وذلك بعد تقاربها الأخير مع كاراكاس. واقترحَ "تنظيمَ أزمة كاريبيّة ثانية لمواجهة روسيا،" مقدِّرًا أنّ موسكو ستتردّد في دعم كاراكاس ضدّ واشنطن، ما يعطي الأخيرةَ الأفضليّةَ لإعادة بسط هيمنتها على منطقة البحر الكاريبيّ التي خرج قسمٌ منها عن إرادتها بعد وصول تشافيز إلى السلطة سنة 1999. وأضاف لاسكين: "سيكون من الغباء التفكيرُ في أنّ واشنطن تقتصر في تحقيق أهدافها على القوّة العسكريّة والعقوبات. فالولايات المتّحدة تلعب بنجاحٍ على التناقضات بين اللاعبين الآخرين، وتحقِّق في نهاية المطاف أهدافَها. الأوروبيّون يخافون تاريخيًّا من روسيا، ولذلك فهم يؤيّدون العقوباتِ المناهضة لروسيا ويساندون الموقفَ الأمريكيّ في فنزويلّا؛ ودولُ شرق آسيا تخاف من الصين؛ وبلدانُ أمريكا اللاتينيّة تاريخيًّا ينافس بعضُها بعضًا، لذلك فهي تقف إلى جانب الولايات المتّحدة في القضيّة الفنزويليّة؛ في حين تحرص الصين على مواصلة جني الأموال في أكبر سوق لاتينيّة، فتحاول بكين تدويرَ الزوايا في مشكلاتها الناشئة مع الولايات المتّحدة..." وهو ما يضع موسكو وحيدة في دعمها لكاراكاس.
ويتابع لاسكين أنّ واشنطن لا تمتلك حاليًّا سببًا مباشرًا لاستخدام القوّة العسكريّة ضدّ كاراكاس، إلّا أنه يمكنها خلقُ الظروف الملائمة لتبرير غزو عسكريّ لفنزويلّا في حال اتخاذ القرار بعمل عسكريّ هناك. ويستبعد أن تصل روسيا إلى حدّ المواجهة مع الولايات المتّحدة بسبب فنزويلّا، كما فعل الاتحادُ السوفياتيّ بسبب كوبا سنة 1962. وهذا يشير إلى أيّ حدٍّ يمكن أن تصل إليه واشنطن لإعادة بسط هيمنتها في منطقة الكاريبي.
لكنّ السؤال يبقى: لماذا؟
الخلفيّات التاريخيّة
منذ نهاية القرن التاسع عشر، وبعد سيطرة المستوطنين الأميركيّين على كامل البرّ الأميركيّ، وعقب إنشاء الفرنسيين مشروعًا لحفر قناةٍ في باناما تصل المحيطَ الأطلسيّ بالمحيط الهنديّ، بدأ المخطّطون العسكريّون والاستراتيجيّون الأميركيّون ينظرون إلى منطقة الكاريبيّ بعينٍ مختلفة. ويعود ذلك إلى أنّ الرأسماليّة الأميركيّة عدّت هذه المنطقة منطلقًا لها كي تتحوّل إلى قوّةٍ بحريّةٍ تفرض هيمنتَها على طُرق التجارة البحريّة، وتضمن للولايات المتّحدة منْفذًا إلى الأسواق العالميّة الضروريّة لصناعاتها المتنامية. وقد عبّر الأدميرالُ الأميركيّ ألفرد ثاير ماهان عن ذلك صراحةً في كتابه تأثير القوى البحريّة على التاريخ (1890).
ورأى ماهان أيضًا أنّ المواصلات البحريّة أفعلُ من المواصلات البريّة، وأنّ قناة باناما (التي كانت آنذاك حبرًا على ورق) ستشكّل بالنسبة إلى بلدٍ قارّيٍّ ضخمٍ كالولايات المتّحدة جزءًا أساسيًّا من الأمن القوميّ الأميركيّ، ولذلك دعا إلى السيطرة عليها من أجل ضمان مواصلاتٍ أفضلَ بين الضفّتين الشرقيّة والغربيّة للولايات المتّحدة. كذلك دعا إلى تحويل منطقة الكاريبي إلى حديقةٍ خلفيّةٍ للولايات المتّحدة للسببين الواردين أعلاه.
هكذا اعتبرتْ واشنطن المنطقة المذكورة جزءًا من أمنها القوميّ، وركيزةً لوحدتها ومستقبلها. وهذا ما دفعها إلى شنّ حربٍ ضدّ إسبانيا سنة 1898، أدّت إلى فقدان التاج الإسبانيّ آخرَ مستعمراته في كوبا وبورتوريكّو والفيليبين. وفي العام 1903 دعمت الولاياتُ المتّحدة حركةً انفصاليّةً في كولومبيا أدّت إلى سلخ باناما عنها. بعد ذلك فرضتْ على الجمهوريّة الحديثة الولادة إعطاءَ "جهاز الهندسة في الجيش الأميركيّ" حقَّ حفر القناة (وهو ما بدأ فعلًا في العام 1904 وأُنجز في العام 1914؛ كما فرضتْ على باناما منحَها امتيازَ السيطرة على القناة لمئة عام.
صناعة الهيمنة
الهيمنة الأميركيّة في الكاريبي
خلال قرنٍ كاملٍ من الزمن أظهرت الولاياتُ المتّحدة استعدادَها لاستخدام كافّة الوسائل لإبقاء سيطرتها على منطقة الكاريبي.
- هكذا حوّلتْ بورتوريكو إلى مستعمرةٍ وقاعدةٍ عسكريّة أميركيّة. ولا يزال البورتوريكيّون يطالبون باستقلالهم.
- كما عاملتْ كوبا كأنّها نصفُ مستعمرة. وعندما انتصرت الثورةُ الكوبيّة بقيادة فيدل كاسترو، ناصبتْها واشنطن العداءَ، فدعمتْ متمرّدين كوبيين انطلاقًا من دول عدّة في الكاريبي، وصولًا إلى تخطيط اجتياح الجزيرة في العام 1961. وردًّا على ذلك، طلب كاسترو دعمَ الاتّحاد السوفياتيّ، الذي نشر صواريخَ نوويّةً متوسّطةَ المدى في كوبا، ما أثار جنونَ واشنطن ودفعها إلى التهديد بحرب نوويّة ضدّ الاتّحاد السوفياتيّ نفسه. بعد ذلك فرضتْ واشنطن حصارًا على هافانا يرقى إلى مستوى الابادة الجماعيّة، ولا تزال مفاعيلُه ساريةً حتى يومنا هذا.
- وفي العام 1981 "سقطتْ" طائرةُ الرئيس الباناميّ عمر توريخوس، ما أدّى إلى مصرعه مع عدد من مساعديه. لكنّ توريخوس كان قد تمكّن في العام 1977 من إجبار الرئيس الأميركيّ جيمي كارتر على توقيع اتفاقيّةٍ تستعيد باناما بموجها السيطرةَ على قناتها. وقد وقع الحادث "المؤسف" بعد أسابيع قليلة من تسلّم الرئيس الأميركيّ الجديد رونالد ريغن مقاليدَ الحكم في البيت الأبيض. الجدير ذكرُه أنّ ريغن عُرف بتوجّهاته اليمينيّة الداعية إلى عدم التساهل إزاء المصالح الأميركيّة الحيويّة.
- في الفترة ذاتها دعمت الولاياتُ المتّحدة عصاباتِ الكونترا ضدّ الثورة الساندينيّة في نيكاراغوا.
- في أواخر العام 1983 دعمت الولايات المتحدة انقلابًا في جزيرة غرينادا، تمثّل في اغتيال الرئيس الوطنيّ لهذه الجزيرة الكاريبيّة موريس بيشوب، ثمّ اجتياح الجزيرة التي كانت قد بدأت تتقارب مع كوبا.
- في العام 1989 اجتاحت واشنطن باناما بذريعة مكافحة المخدّرات، وألغت اتفاقيّة كارتر – توريخوس، واستعادت سيطرتها على القناة.
- وخلال التسعينيّات ضيّقت الولايات المتّحدة الخناقَ على كوبا بهدف إحداث حالة إنسانيّة طارئة تُجبر الكوبيين على الخضوع لها. لكنْ من دون طائل.
بوليفار ومواجهة الهيمنة الأميركيّة
لا ينبع الاهتمامُ الأميركيّ بفنزويلّا من ثرائها النفطيّ وامتلاكِها أكبرَ احتياطيّ نفطيّ في العالم، فحسب. ففي بدايات القرن التاسع عشر شكّلتْ فنزويلّا القاعدةَ التي انطلقتْ منها حركةُ سيمون بوليفار لتحرير أميركا اللاتينيّة. وقد أفلح بوليفار في تحرير معظم هذه القارّة من التاج الإسبانيّ، وفي تشكيلِ اتحادٍ فدراليّ ضمّ الإكوادور والبيرو وكولومبيا وفنزويلّا وباناما. وكان في ذهن بوليفار تشكيلُ وطن أميركيّ لاتينيّ، يمتدّ من الأرجنتين جنوبًا إلى المكسيك شمالًا، ويشكّل قاعدةً لعالم جديد تحكمه القيمُ الإنسانيّةُ والعدالة. لكنّ مشروعَه واجه معارضةً من الأوليغارشيّة الأميركيّة اللاتينيّة (المدعومةِ من الأوليغارشيّة الأميركيّة التي فرضتْ هيمنتها في واشنطن بعيْد استقلال المستعمرات الأميركيّة عن بريطانيا سنة 1779). وتوزّعت تلك الأوليغارشيّة الأميركيّة اللاتينيّة على الليبراليين والمحافظين على حدّ سواء. ودخلتْ في صراع مع الحالم بوليفار، ودفعتْ في اتجاه انسلاخ الاكوادور والبيرو وكولومبيا عن الاتحاد الفدراليّ. ووصل الأمرُ بهذه الأوليغارشيّة إلى حدّ محاولة اغتيال بوليفار عدّة مرات. ومن الملاحظ أنّ وفاة بوليفار سنة 1830عن 47 عامًا فقط "تزامنتْ" مع إطلاق الرئيس الأميركيّ جيمس مونرو إعلانَه الشهير: "أميركا للأميركيّين" ــ ــ وقد تضمّن اعتبارَ أميركا الجنوبيّة حديقةً خلفيّةً حصريّةً للولايات المتّحدة.
مع بداية القرن العشرين اكتسبتْ فنزويلّا أهميّةً إضافيّةً بالنسبة إلى الأوليغارشيّة الأميركيّة، وذلك مع اكتشاف احتياطاتٍ ضخمةٍ من النفط في هذا البلد. ومن ثمّ أضحت أهميّة فنزويلّا بالنسبة إلى واشنطن ذات أبعاد ثلاثة.
- يتمثّل البعد الأول في أنّها إحدى الدول المهمّة المشاطئة لمنطقة الكاريبي، الحيويّةِ بالنسبة إلى الأميركيّين الأنغلوساكسون.
- ويتمثّل البعدُ الثاني في أنّها مفتاحُ أميركا اللاتينيّة الذي انطلقتْ منه إسبانيا في القرن السادس عشر لتسيطر على معظم القارة الأميركيّة الجنوبيّة، وفي أنّها منطلقُ أيّ حركة تحرّر أميركيّة لاتينيّة في وجه الهيمنة الأميركيّة الشماليّة.
- ويتمثّل البعدُ الثالث في أنّها أصبحت المصدرَ الرئيسَ للنفط في الولايات المتّحدة بعد نضوب معظم آبارها في النصف الأول من القرن العشرين؛ ومن ثمّ أصبح النفطُ الفنزويليّ عمادَ الصناعة الأميركيّة وآلةِ حربِها خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وخلال باقي الحروب التي شنّتها الولاياتُ المتّحدة الأميركيّة أيضًا. ولم يقلّل اكتشافُ النفط في السعوديّة وغيرها من دول الخليج، في الثلاثينيّات والأربعينيّات من القرن الماضي، من أهمّيّة النفط الفنزويليّ بالنسبة إلى واشنطن، على الرغم من سيطرة هذه الأخيرة على النفط العربيّ؛ فلقد مثّل النفطُ العربيّ مصدر تحكّم واشنطن بسوق النفط العالميّة، في حين بقي النفطُ الفنزويليّي مصدرَ الاستهلاك الأساسَ في السوق الأميركيّة بحكم قرب فنزويلّا من الولايات المتّحدة.
زمنُ تشافيز
على الرغم من ثراء فنزويلّا بالنفط، فإنّ الغالبيّة الساحقة من شعبها عاش في الفقر نتيجةً لاحتكار الأوليغارشيّة الحاكمة ثروةَ البلاد. وقد بقي الحالُ كذلك إلى أن انتُخب تشافيز رئيسًا لفنزويلّا في شباط 1999.
كان تشافيز من عائلةٍ متوسّطة، وانضمّ إلى الجيش الفنزويليّ ضابطًا في السبعينيّات. وكان هذا الجيش من القنوات القليلة التي يمْكن الفقراءَ في فنزويلّا ولوجُها للارتقاء الاجتماعيّ. وبحكم تشكّل الجيش من أبناء الأُسَر الفقيرة، فقد استشعر أفرادُه المعاناةَ التي يعيشها معظمُ الشعب الفنزويليّ. لذلك كان هذا الجيش عُرضةً للتأثيرات اليساريّة، التي انضمّ تشافيز إلى أحد فروعها، ما دفعه إلى الانقلاب سنة 1992، ليُزجّ به في السجن على إثْر فشله.
بعد أن أطلق سراحُ تشافيز نتيجةً لضغوط الحركة الاشتراكيّة في البلاد، ترأّسَ حركةَ المعارضة، وفازَ في الانتخابات في شباط 1999. وما إن أصبح رئيسًا حتى انفتح على كوبا، التي كان يَعتبر زعيمَها فيدل كاسترو مثالًا أعلى له. وقد جاهر تشافيز بسياساته المعادية للإمبرياليّة الأميركيّة، والمؤيِّدة لحركات التحرّر في العالم، ومنها حركةُ التحرّر الفلسطينيّة. وكان أوّل عمل قام به على الصعيد الداخليّ هو تأميم النفط الفنزويليّ وتوزيع عائداته على الشعب. وقد أدّى ذلك إلى طفرة اقتصاديّة في البلاد، نتيجةً لارتفاع أسعار النفط في بداية الألفيّة الجديدة إلى ما يقارب 150 دولارًا للبرميل.
كلُّ ذلك دفع بالأوليغارشيّة الفنزويليّة (التي فقدت امتيازاتِها)، وبالولايات المتّحدة، إلى اعلان العداء لتشافيز ولفنزويلّا. وقد وصل الأمرُ بأعداء تشافيز إلى محاولة الانقلاب عليه سنة 2002. لكنّ الجيش أفشل الانقلاب.
تشافيز عارض غزو العراق وأيّد المقاومتين اللبنانية والفلسطينية
عارض تشافيز غزوَ واشنطن للعراق سنة 2003، ودعَمَ المقاومةَ اللبنانيّةَ ضدّ العدوان الإسرائيليّ سنة 2006، وساند المقاومةَ الفلسطينيّةَ ضدّ العدوان الإسرائيليّ المتكرّر على قطاع غزّة. هذا وأدّى تحدّيه للولايات المتّحدة إلى تشجيع حركات اليسار في أمريكا اللاتينيّة، فتمكّن بعضُها من الوصول إلى السلطة: لولا دا سيلفا في البرازيل، وكيرشرنير في الأرجنتين، وايفو موراليس في بوليفيا، وكوريا في الاكوادور. وبدا وكأنّ أميركا اللاتينيّة باتت قاب قوسين أو أدنى من التفلّت كليًّا من الهيمنة الأميركيّة.
كما ترافق صعودُ نجم تشافيز مع صعود القوى الأوراسيّة، الصين وروسيا وإيران، كقوًى تتحدّى الهيمنةَ الأميركيّةَ على العالم. وبدأتْ هذه القوى في تجميع نفسها بدءًا من العام 1996، وذلك حين أعلن الرئيسُ الإيرانيّ الراحل هاشمي رفسنجانيّ إطلاقَ مشروع "طريق الحرير" لإقامة شراكةٍ بين إيران والصين. وتبعتْ ذلك إقامةُ "مجموعة شنغهاي الخماسيّة" في العام 1996، وضمّت روسيا والصين وثلاثَ دول في آسيا الوسطى. وفي حزيران 2001 انضمّت كازاخستان إلى المجموعة، فتحوّلتْ إلى "منظمة شنغهاي للتعاون."
اعتبرت الولايات المتّحدة أن المنظّمة موجّهة ضدّها، خصوصًا أنّها رفضت انضمامَ واشنطن إليها في العام 2006. فردّت باجتياح أفغانستان بعد خمسة أشهر، وذلك بذريعة الردّ على اعتداءات 11 أيلول التي قامت بها "القاعدة" ضدّ برجَي التجارة العالمييْن في نيويورك. وكانت أفغانستان تخوِّل الولايات المتّحدة أن تصبح قريبةً من وسط آسيا، وهي المنطقة الرخوة في الأمن القوميّ لكلٍّ من الصين وروسيا وإيران. وقد اتْبعتْ واشنطن ذلك بغزو العراق سنة 2003 بغية السيطرة على كامل منطقة الشرق الأوسط ومنعِ روسيا وإيران من الوصول إلى منطقة شرق المتوسّط أو المحيط الهنديّ، وبالتالي الوصول إلى طرق الملاحة البحريّة والتجارة الدوليّة.
كسر الهيمنة اليانكيّة
ردًّا على ذلك، أقامت الصين وروسيا "منظّمةَ البريكس،" لتكمل منظمةَ شنغهاي للتعاون. وقد ضمّت البريكس كلًّا من الهند وجنوب إفريقيا والبرازيل. وبذلك، كانت بكين وموسكو تحاكيان طريقَ ماجلّان، الذي دار حول العالم من النصف الجنوبيّ للكرة الارضيّة. وكانت لذلك دلالاتٌ كبيرة لجهة انتقال مركز الثقل العالميّ، لأوّل مرة منذ خمسة قرون، من المحيط الأطلسيّ إلى المحيط الهنديّ والنصف الجنوبيّ للكرة الأرضيّة.
وكانت البرازيل في ظلّ لولا داسيلفا، ومن بعده ديلما روسيف، تشكّل التهديدَ الأبرزَ للهيمنة الأميركيّة الشماليّة في النصف الغربيّ من الكرة الارضيّة. فالبرازيل، بمساحتها وثرائها وكتلتها البشريّة، كانت مؤهّلةً لكي تصبح قوّةً كبرى في أميركا اللاتينيّة. وقد بدأتْ تطلّعاتُها نحو دور عالميّ في البروز مع توجيه أنظارها نحو منطقة الكاريبي، التي تشكّل عقدةَ مواصلاتٍ بحريّة مهمّة. ولذا نسجت البرازيل علاقاتٍ وثيقةً مع فنزويلّا في ظل تشافيز، ومن بعده مادورو، واستثمرتْ مليارات الدولارات في تطوير مرفأ ماريال في كوبا.
كلّ ذلك كان يهدِّد احتكارَ الولايات المتّحدة للهيمنة على الكاريبيّ. وقد جرى ذلك في ظلّ حفر الصين قناةً في نيكاراغوا، تصلُ الكاريبيّ والأطلسيّ بالمحيط الهادئ، ما قد يبطل عمل قناة باناما ويجعل المواصلاتِ البحريّة في الكاريبي في يد البرازيل والصين.
في العام 2014 عُقدتْ قمّةُ البريكس في البرازيل، وأُطلق بنكُ التنمية الذي كان من المقرّر أن يكون بديلًا من البنك الدوليً الذي تهيمن عليه الولاياتُ المتّحدة ــ ــ وهو ما هدّد احتكارَها للمجال الماليّ العالميّ.
مع فشل الضغوط في إسقاط النظام البوليفاريّ دعمتْ أميركا رئيسَ البرلمان الفنزويليّ خوان غوايدو
هنا بدأتْ واشنطن في التحرّك، وتمكّنتْ في العام 2016 من دعم انقلاب ضدّ ديلما روسيف شكّل ضربةً قاصمةً لمنظّمة البريكس. وكانت، قبل ذلك بعام واحد، قد دعمتْ وصولَ ماوريسيو ماكري إلى السلطة في الارجنتين. كما دعمتْ لينين مورينو، الذي وصل إلى السلطة في الإكوادور سنة 2017 وانقلب على سياسات صديقه الاشتراكيّ رفاييل كوريا.
بيْد أنّ قلق واشنطن من تمرّد أميركا اللاتينيّة لم يكن ليهدأ ما دامت فنزويلّا خارج القبضة الأميركيّة. لذلك واصلتْ دعمَها لمعارضي تشافيز، ومن بعده مادورو، وصولًا إلى فرض عقوبات اقتصاديّة قاسية على فنزويلّا أدّت إلى أزمةٍ تفجّرتْ في البلاد قبل 4 سنوات. لكنْ مع فشل كلّ الضغوط في إسقاط النظام البوليفاريّ لجأت الولاياتُ المتّحدة إلى آخر ورقةٍ لها، وهي دعمُ رئيس البرلمان الفنزويليّ خوان غوايدو بمحاولة انقلاب قادها بإعلان نفسه رئيسًا لفنزويلّا.
ويبقى الصراعُ قائمًا... مع أرجحيّةٍ كبيرةٍ لانتصار مادورو بسبب الدعم الكبير الذي يتمتّع به من قبل الشعب والجيش معًا.
بيروت
أستاذ التاريخ والعلاقات الدوليّة في الجامعة اللبنانيّة. من كتبه: صراع القوى الكبرى على سوريا، السياسة الخارجيّة التركيّة، سوريا ومفاوضات السلام في الشرق الأوسط.