امتاز إضرابُ الجامعة اللبنانيّة الأخير بالتفاف الأساتذة الواسع حول "رابطة الأساتذة" ونواةِ التحرّك. هذا التحرّك بدأ تصاعديًّا، منذ منتصف العام الدراسيّ الماضي، للمطالبة بإعطاء الأساتذة في الجامعة "ثلاثَ درجات،" أسوةً بما حصل عليه القضاةُ بعد إقرار "سلسلة الرُّتَب والرواتب" للقطاع العامّ. إلّا أنّ ما كان مفترضًا التحرّكُ من أجله ذلك العامَ، أصبح واجبًا على الأساتذة المضيُّ به اليومَ، بعد أن أجّل مجلسُ الوزراء نقاشَ مطالب الأساتذة المحقّة عامًا كاملًا. ولأنّ الشيء بالشيء يُذكر، فقد أحال وزيرُ التربية والتعليم العالي الأسبق مروان حمادة، على المجلس النيابيّ، اقتراحَ قانون "معجّل مكرّر" بإعطاء الأساتذة الدرجات الثلاثَ، وقد وقّع عليه عشرةُ نوّاب يمثّلون كافّة الكتل النيابيّة، فتنصّل بعضُ النوّاب من تواقيعهم، ولم يسلك المقترَحُ طريقَه الطبيعيَّ المُفترض.
وكانت هناك أيضًا مطالبُ مزمنةٌ لأهل الجامعة، عالقة؛ ومنها قانونُ احتساب المعاش التقاعديّ للأستاذ. إضافةً إلى تعثّر ملفَّي التفرّغ والدخول إلى الملاك، وهما يعنيان شريحةً واسعةً من الأساتذة المتعاقدين والمتفرّغين. وما زاد حراجةَ الوضع في الجامعة الأخبارُ المتواترةُ عن خفض موازنة الجامعة.
كلّ ذلك حتّم على "رابطة الأساتذة المتفرّغين" إعلاءَ الصوت، والبدءَ بإضراباتٍ متقطِّعة، والمبادرةَ إلى طرح قضيّة الجامعة اللبنانيّة على وزير التربية والتعليم العالي الأستاذ أكرم شهيِّب.
وفي ظلّ تدهور الأوضاع الاقتصاديّة، ومؤتمر "سيدر" وشروطِه، وطلباتِ البنك الدوليّ المُلتبسة، كانت الأمورُ تزداد سوءًا يومًا بعد يوم. حتّى أتى الكلامُ على خفض المعاشات، وفرضِ ضريبةِ دخلٍ على المعاش التقاعديّ، وتخفيض مساهمةِ الدولة في صندوق تعاضد أساتذة الجامعة اللبنانيّة، وحسمِ 15 بالمئة على مساهمة الدولة في المِنح التعليميّة، لتكون هذه القراراتُ "القشّةَ التي قسمتْ ظهر البعير."
كلُّ هذه العوامل دفعتْ بالأساتذة إلى الانتقال إلى الهجوم، والدفعِ نحو خطوة الإضراب المفتوح. وهو ما أوجد تحدّياتٍ كبرى، أهمُّها: مصير العام الدراسيّ، ومصلحةُ الطلّاب.
التحدي الأكبر الذي واجه الإضراب: مصير العام الدراسيّ، ومصلحةُ الطلّاب
***
تحاملت السلطةُ على أساتذة الجامعة بتصويرهم من "أصحاب المعاشات العالية" نسبةً إلى ما يقدّمونه من عمل. ثمّ جاءت ردودُ بعض السياسيين تارةً عبر المطالبة بتأديب هؤلاء الأساتذة، وطورًا عبر محاسبتهم الإداريّة لمخالفتهم قانونَ الموظّفين بإعلانهم الإضراب، لتشدَّ عضدَ الأساتذة، ولتعطيَ انتفاضتَهم دفعًا وزخمًا، فيلتفّوا حول رابطتهم لأنّهم شعروا أنّ كرامةَ الأستاذ الجامعيّ قد أهينتْ وأصبح استقرارُه الوظيفيّ مهدّدًا.
افترشَ الأساتذةُ الساحاتِ والميادينَ، متّكلين على وحدة مطالبهم، أكانوا من أساتذة الملاك أمِ التفرّغ أمِ التعاقد بالساعة. وقد تظهَّر ذلك في بيانات الرابطة.
هنا حدث ما كان متوقّعًا، إذ انقسم الأساتذةُ حول الإضراب:
- فئة التزمتْ بقرارات أحزابها، ورأتْ أنّ الإضراب المفتوح كان خطوةً ناقصة، ولا أفق له، ومن ثمّ تجب العودةُ عنه فورًا.
- وهناك فئة كبيرة أخرى، بينهم حزبيون، وبينهم مستقلّون، رأتْ أنّ العودة عن الإضراب انتحارٌ للجامعة ولقضاياها في المستقبل.
فرض الفريقُ الأوّل رؤيتَه على رابطة الأساتذة المتفرّغين، التي أعلنتْ تعليقَ الإضراب المفتوح، وأحالتْ هذا القرارَ على مجلس المندوبين لنقضه أو المصادقة عليه. وتبعتْ ذلك استقالةٌ من رئيس الرابطة وبعض أعضائها. أمّا الأساتذة الداعون إلى استمرار الاضراب، فقد نظّموا صفوفَهم وحشدوا أنصارَهم. إلى أن كانت الجلسةُ التاريخيّة لمجلس المندوبين (في 22 حزيران من هذا العام)، فنقضتْ قرارَ الرابطة، ومن ثم تمّت العودةُ مجدّدًا إلى الإضراب المفتوح. وهذا الحدث يُعتبر الانعطافةَ الأهمّ التي رسمت المرحلةَ المقبلة، إذ فرض أساتذةُ الجامعة أنفسَهم على طاولة مفاوضاتٍ جديدة... لكنْ هذه المرة بكرامةٍ ورأسٍ مرفوع.
***
أثبتَ أساتذةُ الجامعة اللبنانيّة أنّهم حريصون على طلّابهم ومصلحتهم، إذ بادروا ـــ من منطلق القوّة ـــ إلى تعليق الإضراب في اللحظات الحرجة حتّى لا يضيع العامُ الدراسيّ الحاليّ.
وبغضّ النظر عن النقد الذي وُجّه إليهم وإلى رابطتهم، فقد أعاد هذا الإضرابُ إلى الحياة النقابيّة في الجامعة وهجَها، ودفع السلطةَ إلى طاولة المفاوضات بعد رفضها استقبالَ "الرابطة" أكثرَ من سنة.
إنّ ما تمّ تحصيلُه من مطالب كان "أفضلَ الممكن" في هذه الظروف الصعبة. وقد تمخّضتْ المفاوضاتُ مع وزير التربية والتعليم العالي الحاليّ عن ورقة تفاهم، عُرفتْ بـ"المطالب السبعة،" وأهمّها:
- المادّة 93 من قانون الموازنة، إذ شُطبتْ منها عبارةُ "الخفض التدريجيّ لمِنح التعليم"؛
- المادّة 89، التي باتت تعطي مَن يخدم 15 سنةً وما فوق الحقَّ في المعاش التقاعديّ؛
- المادّة 83، التي باتت تسمح باستمرار العام الأكاديميّ للمتقاعد؛
- المادّة 79، التي استُثني فيها أساتذةُ الجامعة من منع التوظيف؛
- المادة 23، التي خُفضتْ فيها ضريبةُ الدخل على المعاش التقاعديّ إلى النصف، علمًا أنّ هذه الضريبة ظالمة جدًّا في حقّ المتقاعدين.
وتبقى هناك مطالبُ أساسيّة متمثّلة في مشروعَي الخمس سنوات والـ3 درجات، وملفَّي التفرّغ والملاك.
إنّ الإضراب، وما وصل إليه من نتائج، مقدِّمة لاستمرار النضال من أجل الهدف الأكبر، ألا وهو: إصلاحُ الجامعة، ومحاربةُ الفساد فيها، واسترجاعُ الصلاحيّات التي صادرها مجلسُ الوزراء (من قبيل حصر تعيين أساتذة الجامعة وإدخالهم إلى مَلاك الدولة من قبَل مجلس الوزراء)، ووقفُ التدخّلات الحزبيّة أو السلطويّة فيها.
وبعيدًا عن المطالب، فإنّ أكبر نصرٍ لأساتذة الجامعة هو إعادةُ الاعتبار إلى موقع الأستاذ على الخارطة النقابيّة. فقد كان الأساتذةُ، في أغلبهم، واقعين تحت سلطة المكاتب التربويّة الحزبيّة، التي كانت تديرُهم طبقًا لمصالحها. وكانوا ممرًّا آمنًا للتوظيف العشوائيّ، غيرِ المبنيّ على الكفاءات الأكاديميّة والشفافيّة في الاختيار (ولقد كان زرعُ المحاسيب والولاءات في كلّ المفاصل القياديّة في الجامعة من أكبر مشاكل الجامعة وما يزال). وفي المقابل، نجح الحراك الأخير في تحرير الأساتذة من سطوة هذه المكاتب.
***
ومع ذلك، فقد شاب الإضرابَ الكثيرُ من نقاط الضعف، أهمُّها:
- عدمُ وضوح المطالب في بداية التحرّك. ومثالُ ذلك اللغطُ حول تقليص موازنة الجامعة، وتصريحُ الرابطة عن التقليص، ونفيُ وزير التربية، وعدمُ توضيح إدارة الجامعة للأمر.
- عدمُ التكامل بين الهيئات الإداريّة والنقابيّة في الجامعة. فهذا أضعف التحرّكَ في بعض مراحله. مثال ذلك: إصدار رئاسة الجامعة بياناتٍ في ذروة الإضراب تطالب بوقفه، وبتقليص منح التعليم الخاصّة بصندوق تعاضد الأساتذة.
وكشف الإضرابُ عن ضرورة وضع قانون عصريّ وجديد لرابطة الأساتذة المتفرّغين. ذلك أنّ التضارب في الصلاحيّات بين مكوّنات الرابطة (مثال ابتداع صلاحيّات لمجلس المندوبين غير منصوص عليها في القانون)، وسوءَ تفسير بعض موادّ القانون (الدعوة إلى هيئة عامّة، والفرق بينها وبين الجمعيّة العامّة)، أدّيا إلى بلبلةٍ كادت أنْ تطيح بالتحرك وتأخذَه إلى مكان آخر.
أمّا في موضوع الطلّاب، فقد أظهر الإضرابُ أنّ هذه الشريحة هي الحلقة الأضعف، التي وقعتْ بين سندان مطالب الأساتذة ومطرقة تعنّت السلطة. لقد لعب الطلّاب دورًا محوريًّا في التحرّك فور إعلانه، إلّا أن الأمور لم تسرْ على ما يُرام بشكل دائم. تفاوتتْ مواقف الطلّاب من الإضراب، لكنّ أغلبهم وقفوا ضدّ الإضراب في ما بعد، لاعتقادهم أنّ الأساتذة لا يهتمّون إلّا بمطالبهم ومصالحهم، وأنّهم لم يقفوا معهم يومًا خلال تحرّكاتهم المطلبيّة المحقّة.
لذلك، أصبح راسخًا لدى الأساتذة اليوم أنّ تحقيقَ المطالب في الجامعة يجب أنْ يشملَ حاجات الطلّاب ــ من أبنيةٍ جامعيّةٍ لائقة، وكافيتريات، وملاعب، ومطالب أخرى مزمنة.
وبكلمة أخيرة، فإنّ مطالب الأساتذة، الحياتيّة والماليّة والصحّيّة والتنظيميّة، يجب أن تتكامل مع المطالب التصحيحيّة الأخرى، التي تعني الجميعَ من أساتذة وموظّفين وطلّاب. وقد نكون بحاجة إلى تهيئة أنفسنا للمعركة المقبلة، التي تتطلّب مقوّمات الصمود، من أجل استقلاليّة الجامعة، وتطهيرها من مشكلاتها المزمنة.
بيروت