من أشهر العادات اليوميّة استخدامُ الرموز والأيقونات التعبيريّة على وسائل التواصل الاجتماعيّ، وصفحات الويب، كاستخدام الوجه المُبتسم أو الوجه العبوس بدلًا من الحروف. وصانعو هذه الرموز والأيقونات يواكبون تحوّلات مستخدمي الاتصال الرقميّ، ثقافيًّا واجتماعيًّا؛ ما يجعلها باقيةً إلى يومنا كلغة كونيّة. وهي أيضًا تواكب التطوُّر التقنيّ المتسارع في الحواسيب والهواتف النقّالة والبرمجيّات الحديثة. بل هي تُستخدم للدعاية لمنتجات الشركات والشبكات والمحالّ التجارية.
لهذه اللغة الرمزيّة أصولٌ ممتدّةٌ منذ ما قبل ابتكار الإنسان للكتابة. وقد تناول الكثيرُ من الكتابات تاريخَ استخدام الرسوم والصور والنقوش في الاتصال والتعبير الإنسانيّيْن فوق ألواح الطين والأحجار والمعادن والشموع وجدران الكهوف. وقد وجد الباحثون والعلماء الكثيرَ من تلك الآثار في اللغة المصريّة القديمة (الهيروغليفيّة)، والسومريّة القديمة (المسماريّة) في جنوب العراق، وفي حضاراتٍ أخرى. وما نحن بصدده في هذه المقال هو استجلاءُ استعمال الرموز الرقميّة، واستجلاءُ الاستجابة لها كاستعاراتٍ متعدّدة المعاني.
***
تعود أحدُ أصول الرموز الرقميّة إلى مصطلح "الإيموجي." وأصلُ الكلمة نُحِتَ من: E أيْ صورة، وMOJI أيْ حرف أو رمز. وهذا المصطلح ابتكره اليابانيّ شيجتاكا كوريتا، الذي كان يعمل حينها في فريقٍ للاتّصالات الرقميّة. وتختلف الإيموجي عن الإيموشن (التعبيرات الانفعاليّة الرمزيّة) التي ابتكرها عالِمُ الكمبيوتر، الأميركيّ سكوت فالهمان، في العام 1982. وفالهمان هو مَن اقترح استخدامَ الرموز التعبيريّة التي تحمل معاني الحزن والفرح.
شيجتاكا كوريتا إبتكر مصطلح إيموجي
في حقل علم النفس التحليليّ، ربط عالِمُ النفس سيغموند فرويد الرموزَ بالرغبة، وبغيرها من المشاعر، أو بمأزقٍ معيَّن نابع من ذكرياتٍ لاواعية. فقد يلجأ المرءُ، مثلًا، إلى التعبير عن سَخطه من الاضطهاد، وإلى رغبته في التحرّر منه، بالاستعارة الرمزيّة، وذلك بسبب الموانع التي يعيشُها في بلده أو محيطه الاجتماعيّ.
ويُصرُّ فرويد على أنّ الرمز ليس سوى مادّةٍ مكبوتةٍ سوف يُفصح عنها الإنسانُ في نهاية المطاف، ولكنْ في صورٍ وأشكالٍ تعبيريّةٍ رمزيّة: كالأحلام، وزلّات اللسان، والتماهي، والتسامي (وهو أنْ يعبّر الشخصُ عن دوافعه غير المقبولة بصورة تبدو "مقبولةً" للمجتمع).
وفي رأيي أنّ الأشكال الرمزيّة الرقميّة ليست منفصلةً عن الحياة الواقعيّة التي نحياها، بل تحمل أحاسيسَنا وتجاربَنا وسلوكَنا ووعيَنا وسياقَ حياتنا الاجتماعيّ والثقافيّ.
***
غير أنّ الرموز الرقميّة ليس لها جانبٌ معياريٌّ واحد يمكن الأخذُ به مقياسًا لتفسير حالة مستخدِمها. فقد يبدو لنا شكلُ الرمز واضحًا، ومضمونُه مباشرًا؛ لكنه قد يبدو أيضًا غامضًا، يصعب تعريفُه أو شرحُه بدقَّة.
ولنوضّحَ هذه المسألة أكثر، تنبغي الإشارةُ إلى أنّ تلك الرموز كثيرًا ما تُستخدم بديلًا للغة المكتوبة، أو للإضافة إليها. فعلى سبيل المثال، عندما تسأل إحدى الأمّهات على صفحتها على الفيسبوك "متى يبدأ العامُ الدراسيّ الجديد؟" فإنّ معنى سؤالها سيختلف تمامًا إنْ وَضعتْ بجانبه رمزَ وجهٍ عَبوسٍ، أو غاضبٍ، أو غامزٍ، أو ضاحك. فالرمزان الأوّلان سيدفعانك إلى الظنِّ أنّها لا تريد أنْ تفارق طفلَها؛ في حين سيدفعك الرمزان الثالثُ والرابعُ إلى الاعتقاد أنّها ضجرتْ من سلوكه، فهي تستعجل عودتَه إلى المدرسة؛ وغير ذلك من التفسيرات. فهل سيستجيب القارئ في تلك الحالة إلى الوجه الذي بجانب الجملة، أمْ إلى الجملة نفسها؟
لكي نعي المعنى غير المألوف لاستخدام الرمز في الاتصال الرقميّ، يَلزَم أنْ نعرفَ جانبًا من حياة الشخص المألوف في الواقع. وهذا الأمر يتوقّف على نمط العلاقة بين المتصلين رقميًّا، وإلّا بقي الكثيرُ من تلك الرموز غامضًا ويحتمل تأويلاتٍ لا حصر لها. أمّا عندما تضيع المسافةُ المُقترنة بين الدالّ ومدلوله، فستختلط المعاني بعضُها ببعض، وتتحوَّل إلى فوضى، وتفقد الرموزُ ارتباطها بالمعنى الذي أريدَ له الوصولُ بهذا المدلول.
***
وإذا انتقلنا من علم النفس إلى علم الألسنيّة، فسنجد أنّ الأخير اهتمّ بدراسة المعنى في تطوُّره وكيفيّة تشكيله واختلافه عند الانتقال من المُرسِل إلى المستقبِل. وبهذا ستكون لهذا العلم ودارسيه، إلى جانب علم النفس، ريادةُ السعي إلى البحث في دلالة الرموز الرقميّة، كهدف أوّل وأخير من استخدام تلك اللغة.
مصر