بدا الهواء ثقيلًا وكثيفًا. شعرتُ بوخز في صدري، وغصّة في حلقي. أحسستُ أنّني أختنق، وكأنّما أتنفّس ماءً لا هواءً. ثمّ انفكّتْ عقدةُ لساني، وانطلقتْ كلمة "أنا" مجلجلة وكأنّها نصّ يثبت وجودي:
- سيّدتي القاضية، أنا موجودة هنا لأنّه لا يمكنني أن أكون في مكان آخر، بحكم جنسيّتي؛ فأنا بلا هويّة، لا تستقبلني أيّ دولة.
ساد الصمتُ للحظات. أنهت القاضيةُ المحكمة. كنت أنتظر أن تطرق الطاولة بمطرقة الخشب قائلةً "رُفعت الجلسة!" لكنها لم تفعل، بل نزلت من على المنصّة، بينما كنتُ ما أزال جالسةً أكفكف الدمع. كان المحامي إلى جانبي مشغولًا بلمِّ الأوراق المبعثرة، ووضعِها في حقيبته، التي أخرج منها مناديلَ ورقيّةً وضعها أمام كفّي. كنت مذعورةً كعنكبوت يحيك شبكةً لامرئيّةً من حوله ليحمي نفسَه. يداي تهبطان من كتفيَّ الذابلتين كأنّهما فرعا عريشةٍ بلا مسند، وأصابعي متشابكةٌ لأخفي التوتر. هممتُ بالخروج كما الجميع، لكنْ أصابني دُوارٌ بسيط، كالدُوار الذي أصابني عند دخولي القاعة، وسببُه ألوانُ الجدار التي أظنُّها مقصودةً، وهي تتدرّج من الأخضر الفاتح إلى الأصفر.
أصوات الأحذية على الأرضيّة تتضاعف، وكأنّها ضربات على جذع شجرة، كنتُ أسمع كلمة "محكمة" تتكرّر ويتردَّد صداها كأنّني في حلم.
لكنّه لم يكن حلمًا، بل يوم محكمتي التي انتظرتُها بقلق وتوتّر، وأنا أتساءل: كيف آلت بي الأمور لأمثُلَ أمام المحكمة؟ما هو جرمي؟
أتّجه نحو المرآة الملصقة فوق حافّة السرير. أوبّخُ وجهي: "شايفتك رح تنْجنّي! هدّي حالك! لك هي محكمة لجوء يا هبلة، مو جنايات!" تتغيّر ملامحي في المرآة وأردّد: "صحيح أنّي لاجئة حتّى قبل أنْ تلدَني أمّي؛ فهذا مصير كلّ جنين فلسطينيّ. أي نعم، لاجئة مولودة في دمشق، ويريدون هنا، في أوروبا، أنْ يقرّروا إذا كانت صفة اللجوء تنطبق عليَّ!"
في ذلك اليوم قبل محكمتي لم آكل، ولم أنم، ولم أشرب. كنت أمشي في غرفة سكن اللجوء. الغرفة صغيرة، ومساحة توتُّري أكبر منها.
أعيد السيناريو الذي رسمتُه ليوم غدٍ. ستدخلين المحكمة ظهر الغدِ برفقة المحامي وصديقك المخرج الهولنديّ. لن تكوني وحيدة. ستسألك القاضية بضعة أسئلة وتغادرين.
- قاضية!
- نعم قاضية. امرأة. هذا كلّ ما أعرفه عنها.
- طويلة؟ شعرها قصير؟ أشقر؟ رماديّ؟ كبيرة؟صبيّة؟
- ما همّك بذلك؟ المهمّ أن تكون عادلة.
- نحن في أيّ يوم من أيام الأسبوع؟ كلّ ما أعرفه أنَّ غدًا هو أوّل أيّام عيد الأضحى، وأنّي سأساق كالشاة إلى المسلخ.
- أيّ شاة وأيّ مذبح؟ عليك ألّا تبالغي في تضخيم مخاوفك. الموضوع مجرّد سماع آراء للحكم في طلب اللجوء. طلب اللجوء لا يُعتبر جريمة. وصولك إلى محكمة في أوروبا لا يُعتبر أنك متّهمة.
- لا يُعتبر ذلك؟
- قطعًا لا!
أتنفّس الصعداء. لكنْ ما إنْ تمضي خمسُ دقائقَ حتّى أتذكّر كلماتَ والدي: "نحن الفلسطينيّين ما لنا إلّا شهاداتنا. ادرسوا. ما رح تنفعكم إلّا دراستكم!" اليوم، حُرمنا الدراسةَ نفسَها. ابنتاي لا تستطيعان الدراسة في الدول العربيّة.
أيّ جرم ارتكبناه؟ كنّا، وما نزال، شمّاعة الدول. وأيّ تخريب يحصل يُلصق بظهر الفلسطينيّ. تشتّتْنا في أصقاع الأرض. حفرت الأحزانُ قلوبنا. لكن... يجبْ أنْ أنام ولو قليلًا. الفجر على وشك البزوغ.
جاء اليوم التالي. كان المخطَّط أنْ أذهب إلى مكتب المحامي أوّلًا لنناقش بعض الأمور، وبعدها نذهب إلى المحكمة، ثمّ ينضمّ إلينا صديقي المخرجُ الهولنديّ.
كنت أعرف الطريق إلى مكتب المحامي شبرًا شبرًا. إنّه حيّ هارلِمْ. بيوت قرميديّة رائعة من الطراز القديم. أبنية تاريخيّة تحوَّلتْ إلى مسارح ومراكز ثقافيّة، وكنائس بقمم مُذهّبة باتت مراكز لتعليم الموسيقى. كأنّما الزمن عاد 400 سنة إلى الوراء. كان وجهي يلتقط أدقَّ التفاصيل طوال الطريق. كأنّ وجهي الحقيقيّ بقي عالقًا بالمرآة الصغيرة في غرفتي، وحلّ مكانه وجهٌ يستعير تفاصيلَ المكان.
وصلتُ مكتب المحامي الذي كان ينتظرني. كنت اسميه "صاحب الظلِّ الطويل" تيمّنًا بشخصيّة رواية جين ويبستر. بعد نصف ساعة وصل المخرج. كان مرحًا جدًّا كعادته. تناقشنا بالأسئلة المتوقّع طرحها، ثمّ انطلقنا مشيًا على الأقدام إلى المحكمة، التي كانت تبعد خمس عشرة دقيقة. كانت الشمس حارقة في أواخر شهر أغسطس. وكنت أرقب ظلّ المحامي الطويل ونحن نمشي بجوار الأبنية يتسلّق الجدران ليصل إلى الطابق القرميديّ. كانا يسبقانني. استدار المحامي ليسألني إذا كان من الأفضل أنْ يبطئ مشيته، فأجبتُه بأنّ الوضع مريح. كانت حقيبته منتفخة من أوراق ملفّي.
وصلنا المحكمة. كان البناء قديمًا كأنّه متحف. لوحة فنيّة لا يمكن وصفها. دخلنا المحكمة، فارتدى المحامي ثوبًا أسود فضفاضًا. شعرتُ بالدوار نتيجةً للألوان وتصميم الجدار. انتهت الجلسة بعد نصف ساعة، وكان آخر ما نطقته القاضية: "سنأخذ ما قلتِه في الاعتبار. بعد ستّة أسابيع سيصدر الحكم. حظًّا موفّقًا!"
استقللتُ أوّل قطار إلى مسْكني. في المحطّة كانت ابنتاي تنتظرانني بصحبة بعض الفتيات من مركز اللجوء. سألتني الكبرى:
- كيف كان الوضع؟ هل سيمنحوننا إقامة؟
- الجواب بعد ستة أسابيع.
- كيف كانت القاضية؟
- كانت متوسطة العمر. أظنّها في مثل عمري. وشعرها أسود، ومتوسّطة الطول، مثلك.
- ماما أقصد أكانت لطيفة؟ ألم تجرحْكِ؟
- لا أبدًا، تمنّتْ لي حظًّا طيّبًا.
انتهت الستّة أسابيع، ولم أحصل على جواب. وتأجّل القرار مرّات عدة.
تسعة أشهر مرّتْ. لا شيء جديدًا. لو أنّ قضيتي امرأةٌ حاملٌ لولدتْ ولأسميت المولود: صابر... لا، صامد يناسب وضعي أكثر. وما زلتُ كلّ صباح أصحو على صوت مطرقة القاضية التي لم تدقّ، ولم تقل: "محكمة! حكمت المحكمة بما يلي..."
إلّا أنّ صوت ابنتي أيقظني وهي تصيح: ماما كم الساعة الآن؟ أجاء وقت النهوض إلى المدرسة؟
- نعم يا حبيبتي. استعدّي للذهاب. لن تنفعك إلّا شهادتك. نحن الفلسطينيّين ما لنا إلّا دراستنا.
هولندا ـــ اوترخت