مضى أسبوعٌ على زيارتي منزلَ عمّي في حمص، حيّ عكرمة القديمة، وما زالت تفاصيلُ هذه الزيارة عالقةً في ذاكرتي.
يعمل عمّي عاملًا في معمل الأسمدة صباحًا، وبائعًا في متجرٍ كبيرٍ للغذائيّات عصرًا. وتعمل زوجتُه خيّاطةً في ورشةٍ قريبةٍ من المنزل. وأولادُهم طلّاب في المدرسة.
عندما زرتُ عمّي، فوجئتُ بقطّةٍ بيضاءَ فرنسيّة في منزلهم. وأصابتني الدهشةُ عندما عرِفتُ أنّها تقيم معظمَ أوقاتها في الحمّام. وقد علمتُ بتفاصيل قصّتها من زوجة عمّي وأولادهِ.
القطّةُ تُدعى جولي، وقد انتقلتْ إلى منزلهم منذ العام 2015، وذلك حين هاجر جارُهم الطبيب فاضل مع عائلته إلى فرنسا، وطلب من عمّي أنْ يعتنيَ بقطّته ريثما ينقلها إلى فرنسا. ومنذ ذلك الوقت ما تزالُ جولي تنتظر، وكأنّها عالقةٌ في صالة الترانزيت داخل المطار: لا تدري متى ستعود إلى عالمها القديم، أو متى ستنتقلُ إلى العالم الجديد.
كانت جولي مدلَّلةً لدى عائلة الطبيب فاضل. فقد كانت تعيش في عمارةٍ مكسوّةٍ بالرخام الأبيض، وكان لها طعامُها الخاصّ، وألعابُها الخاصّة. باختصار، كانت جولي تعيش حياةً رغيدةً، حياةَ ما تبقّى من الطبقة الوسطى.
لكنّي ما زلتُ أجهلُ سببَ قضائها معظمَ الأوقات داخل الحمّام. وقد كان تفسيرُ حنان، زوجةِ عمّي، أنّ هذه القطّة لديها إحساسٌ بالتعالي أو الفوقيّة. فهي تعتبر أنّ الحمّام أنظفُ مكانٍ في المنزل، على الرغم من أنّ المنزل نظيف، ولكنّها لا تريد أنْ تنزلَ من برجها العاجيّ وتحتكَّ بأهل الدار. أمّا عمّي، فقد كان يبرّرُ جلوسَها داخل الحمام بأنّها خائفةٌ من قطّهم برغل، وأنّها لم تألفِ المكان الجديد بعد.
***
يمكننا القول إنّ برغل قطٌّ بلديّ. فهو، على عكس جولي، اعتاد طعامَ المنزل. ولعبتُه المفضّلة هي كرتهُ الورقيّة المصنوعة من بقايا كرّاسات الأطفال.
وقد علِمتُ من الأولاد أنّ هناك ذكرى تجمعُ بين جولي وبرغل، وتعود إلى العام 2014. ففي أحد أيّام الصيف، كان برغل والأولاد يطاردون فأرًا، ودخل الفأرُ العمارةَ التي تسكن فيها جولي، فطارده برغل. لكنْ، عند الطابق الثاني، توقّف مرعوبًا، بعد أن ظهرتْ جولي عند باب منزلها وهي ترمقهُ بنظرةٍ شرسة، وكأنّها تقول له: "كيف تسمح لنفسك بأنْ تدخل مملكتي؟"
حاول برغل التقرّبَ من جولي مرارًا وتكرارًا، لكنّها كانت ترفضهُ بشدة. فقرّر الابتعادَ عنها تجنّبًا المشاكل.
***
في شتاء العام 2018 اختفتْ جولي عن المنزل، وباءت محاولاتُ البحث عنها بالفشل. غضب عمّي من حنان لأنّها قالت له: "انت دائمًا تنظر بهيبةٍ إلى الطبيب فاضل وكأنّه قائدٌ يحمل رايةَ العلم والنور، وأنت مجرّدُ مجنَّدٍ لديه. أنتَ خائف من أن يغضب منك، وكأنّ ابنتَه هي التي ضاعت!"
خفّفتْ عودةُ جولي إلى المنزل في نهاية اليوم نفسه من حدّة الموقف. واندهش الجميعُ لرؤيةِ ما حلّ بها؛ فقد ذهب بياضُها الناصع، وحلّت محلَّه بقعٌ سوداءُ من تجوالها في الشارع.
بعد هذا اليوم، تغيّرتْ جولي مع أهل الدار، فأصبحتْ أقربَ إليهم. كأنّها نسيتْ عالمَها القديم، وبدأتْ تألفُ عالمَها الجديد. وهذا بدوره جعل عمّي سعيدًا.
أمّا الأسعد بين الجميع فكان برغل. فقد تقرّبتْ جولي منه، ودخلتْ إلى عالمه، وشاركته اللعبَ بكرته الورقيّة.
فيينا