:
فاجأت انتفاضةُ الشارع اللبنانيّ الكثيرَ من المراقبين، في الداخل والخارج، من حيث زخمُها ومنحاها الثوريُّ الوطنيُّ الشامل. صحيح أنّ لبنان سبق أن شهد تحرّكاتٍ في الشارع، أطلق عليها البعضُ توصيفَ "ثورة،" لكنّها كانت في معظمها مرتبطةً بالاصطفافات السياسيّة الداخليّة، وبديناميّات الصراع بين القوى السياسيّة الطائفيّة الحاكمة التي تتصارع من أجل أن تتصالح... ثمّ تقتسم الغنائم.
- ففي إطار دورة "التصادم – التصالح – المحاصصة" هذه، التي شكّلت العمودَ الفقريَّ للتركيبة السياسيّة اللبنانيّة منذ نهاية الحرب الأهليّة - - وبشكلٍ أوضح وأشمل، منذ انسحاب الجيش السوريّ من لبنان سنة 2005 - - كان الشارع ورقةَ ضغطٍ يستعملها طرفٌ للضغط على الطرف الآخر من أجل تحسين شروط التسوية الحتميّة. ومع انقسام الشارع إلى مخيّميْن عُرفا بـ8 و14 آذار، نسبةً إلى مظاهرتيْن حاشدتيْن سنة 2005 بعد مقتل رئيس الوزراء رفيق الحريري، تكرّستْ مقولةُ "الشارع يقابله شارع" عقب سنواتٍ من الصراع المرير بين الطرفيْن. وقد أدّى ذلك إلى تسويةٍ تكون الحكوماتُ بموجبها دومًا "حكوماتِ وحدةٍ وطنيّة،" يترأّسُها طرفٌ، ويمتلك فيها الطرفُ الآخرُ ثلثًا معطِّلًا من الوزراء، ومن ثمّ يَفرض الإجماعُ نفسَه آليّةً للحكم.
- ومع اندلاع الحرب السوريّة وانقسام اللبنانيين حول الموقف منها وتورّطهم بها - أكان تدخّلًا عسكريًّا مباشرًا أمْ تمويلًا - أصبح من المسلَّمات أنّ الاصطدامَ بين كتلتَيْ آذار داخل لبنان سيؤدّي إلى فوضى قد يَنْتج منها انتقالُ الحريق السوريّ إلى داخل لبنان. ومن هنا أصبح هاجسُ الحفاظ على تسوية "حكومات الوحدة الوطنيّة" أقوى من قبل.
فماذا حصل لينتفضَ الشعبُ اللبنانيُّ على هذه التركيبة، متحرِّرًا من قبضة الآذاريين؟
في السياق العامّ
الشعب اللبنانيّ دعم التركيبة الطائفيّة القائمة، وأنتخبها، ووالاها على مرّ عقود، ولم يبنِ حتى اللحظة هويّةً على أسس المواطَنة الفاعلة. غير أنّه، في الوقت ذاته، ليس تابعًا كلّيًّا للسلطة: فالحُكم في لبنان تنتجه انتخاباتٌ، تربحُها الأطرافُ أو تخسرُها، بناءً على ازدياد شعبيّتها أو انخفاضها. لكنّ هذه الديناميّة السياسيّة تحصل في إطار وعاءٍ طائفيّ، لا وطنيّ. فالشيعيّ ينافس الشيعيَّ، والسنّيُّ ينافس السنّيَّ، والمارونيُّ ينافس المارونيَّ، وهلمّجرًّا.[1] في لبنان لا توجد ديكتاتوريّة بالمعنى الحقيقيّ للكلمة، بل معاركُ تتمّ داخل كلّ طائفة، ويجري فيها التلاعبُ بالديمقراطية. وقد فرض هذا المنطقُ حُكمًا ذا طابعٍ كونفدراليّ طوائفيّ، تُبنى الشرعيّةُ بموجبه على أساس توكيل الطائفة لممثّليها أوّلًا، لا على أساس توكيل الشعب ككلّ؛ وبعد ذلك تأتلف الطوائفُ - ممثَّلةً في قواها الرئيسة - في حكومة. ومن طبيعة كلّ أنظمة الحكم الطوائفيّة أن تتّبعَ المحاصصة، فتُسقطَ مفهومَ "الكفاءة" عند اختيار كبار الموظَّفين في الإدارات العامّة. وهذا ما يؤدّي إلى انخفاض الأداء، وانتشارِ المحسوبيّات، وحمايةِ المقصِّرين والفاشلين والفاسدين تحت ذريعة "حماية مصالح الطائفة وضمان حصّتها." وفي إطار هذا النظام يُفسَّرُ أيُّ نقدٍ موجَّهٍ إلى مسؤولٍ مقصِّرٍ أو فاشلٍ أو فاسدٍ بأنّه "استهدافٌ للطائفة،" وأنّه يصبّ "في مصلحة الطوائف الأخرى." ومن خلال آليّة تجييش العصبيّة الطائفيّة هذه، يعتاش النظامُ السياسيُّ اللبنانيّ، ويحافظ على زخم الدعم الشعبيّ له.
يعتاش النظامُ السياسيُّ اللبنانيّ من خلال العصبيّة الطائفيّة
مع استشراء الفساد والبطالة والنهب الممنهج، ومع فشل الدولة في تأمين المقوِّمات الأساسيّة للعيش الكريم (من طبابةٍ وتعليمٍ وبنيةٍ تحتيّة كالكهرباء والماء)، تغوَّلَ القطاعُ الخاصُّ، الذي تملُكه (أو هي شريكة فيه) الطبقاتُ ذاتُها التي تهيمن على البنية السياسيّة للدولة وتقودُها إلى الفشل. صحيح أنّ هذا القطاع قدّم بدائلَ لفشل الدولة، غير أنّ هذه البدائل جاءت بأسعارٍ عاليةٍ خنقتِ المواطنَ وأفقرتْه وانتهكتْ كرامتَه ودمّرت البيئةَ.
إضافةً إلى ذلك كلّه، فقد تواصل ربطُ الصحافة، اليسارية بشكل خاصّ، للفساد بالمحاصصة الطائفيّة. وقد وصل ذلك الربطُ إلى وسائل التواصل الاجتماعيّ، فأصبح حديثًا دسمًا للشارع اللبنانيّ، مشكّلًا بذلك وعيًا جمعيًّا عند اللبنانيين. إلّا أنّ هذا الوعي لا يعني بالضرورة انعتاقَ غالبيّة اللبنانيّين من العباءة الطائفيّة، أو يَحُول دون انسياقهم وراء التجييش الطائفيّ.
مولدُ الحراك الثوريّ اللبنانيّ وتمدّدُه
مع اندلاع الثورات العربيّة نهايةَ العام 2010 وبدايةَ العام 2011، انتقلتْ عدوى الثورة إلى لبنان، فأَطلقتْ مجموعاتٌ متفرّقةٌ حملةً تحت شعار "الشعب يريد إسقاطَ النظام الطائفيّ." وضمّت الحملةُ حينها ناشطين وناشطاتٍ من خلفيّاتٍ متعدّدة، يساريّة وقوميّة ومنظّمات مجتمع مدنيّ، إلى جانب شخصيّاتٍ مستقلّةٍ وفنّانين، وقطاعاتٍ مهنيّة، وصفحات فيسبوك، وحملاتٍ مطلبيّةٍ مختلفة. ونتج من كلّ ذلك حراكٌ نجح، في بدايته، في حشد عشرات الآلاف من اللبنانيين في الشوارع تحت سقفٍ وطنيٍّ لاطائفيّ.
ولكنْ سرعان ما برزتْ تبايناتٌ عديدة، خصوصًا في تعريف المعركة، لا سيّما بين مَن يدعو إلى "إسقاط النظام" ومن يدعو إلى إسقاط كلّ الرموز. فانقسم الحراك على ذاته، وفقد الزخمَ الشعبيّ.
إلّا أنّ نواةَ الحراك الصلبة لم تنكسر، بل اكتسبتْ خبرةً مهمّة، وشكّلتْ شبكاتٍ ذاتَ علاقاتٍ واسعة. واستمرّت هذه النواة، المتصارعة داخليًّا، بتطوير ذاتها وبتوسيع أطرها في مواجهة النظام. ومع اشتداد الأزمة البنيويّة في النظام، وتساقُطِ أوراق التين عن عوراته، بدأ الحَراكُ يعود إلى الحياة تدريجيًّا، وإنْ بمظاهرَ وهيئاتٍ مختلفة. حتّى انفجرتْ أزمةُ النفايات منذ بضعة سنوات، وفجّرتْ معها الشارع برمّته. حينها، أيْ في العام 2015، نجح الحراكُ في تقمّص الملفّ البيئيّ، وتحديدًا الجانب الذي يمسّ بكرامة الإنسان وصورتِه لذاته. فلم يَطرح شعارَ "إسقاط النظام الطائفيّ،" بل طرح عناوينَ مثل #طلعت_ريحتكم و#بدنا_نحاسب. فالمواطن اللبنانيّ، المقموع فعليًّا من سلطته اقتصاديًّا وسياسيًّا، يحتفظ بصورةٍ عن ذاته وبلده، غلافُها حضاريٌّ وراقٍ ونظيف. وعندما تراكمت النفاياتُ في الشوارع، لم يعد في الإمكان ولو خداع الذات من خلال الاحتفاظ بهذا الغلاف. فعمّ الاستياءُ، ونزل مئاتُ الألوف إلى الشارع خلف الحراك كقيادة شبابيّة.
في العام 2015، نجح الحراكُ في الجانب الذي يمسّ بكرامة الإنسان
وقتها، كان المشهد ثوريًّا، وأحيانًا عنيفًا. إلّا أنّ تأييدَ الحراك لم يخفُتْ شعبيًّا أو إعلاميًّا، وهرعت السلطةُ للبحث عن حلول سريعة. لكنّ ظهور قيادةٍ للحراك، روّجتْها وسائلُ الإعلام، فسح المجالَ أمام السلطة للإضاءة على مواقفَ نافرةٍ لبعض رموزه من قضايا دينيّةٍ واجتماعيّة، وأفلحتْ من ثمّ في تنفير المجتمع منها.
مع حلول "الترقيع" الرسميّة، ونفورِ الشعب من بعض قيادات الحَراك آنذاك، انتهى المشهدُ الثوريّ مجدّدًا. لكنّ "الثورة ضدّ النفايات" هذه أثبتتْ مرّةً جديدةً أنّ حالةَ النقمة قادرةٌ على تظهير نفسها شعبيًّا، وبشكل كبير. وكما في المرّة السابقة، فقد تعلّم شبابُ الحراك الجديد دروسًا قيّمةً من أسلافهم، واتّسعت مروحةُ التشبيك بين مكوّناته، وتوصلوا إلى قواسم مطلبيّة مشتركة.
في الدوافع المباشرة لثورة 17 تشرين
في إطار التوافق بين كتلتَيْ 8 و14 آذار، انصاع لبنان إلى إملاءات الدول المَدِينة، وأقرّت الحكومةُ جملةً من الإجراءات التقشفيّة التي تطول الضماناتِ الاجتماعيّة، وفرضتْ ضرائبَ جديدةً مباشرةً وغيرَ مباشرة يتحمّل كاهلَها المواطنُ العاديّ من الطبقات الفقيرة والمحدودة الدخل، من دون المسّ برؤوس الأموال المكدَّسة. هذه السياسات النيوليبراليّة هي من بنات أفكار الحريريّة السياسيّة، إلّا أنّها اتُّخذتْ هذه المرّة بإجماع كلّ أطراف السلطة الممثَّلة في حكومة الوحدة الوطنيّة المزعومة. وهذا خلق استياءً كبيرًا في الشارع اللبنانيّ.
وكالعادة، اقتضى تفجيرَ الشارع انبثاقُ قضيّةٍ ذاتِ طابعٍ رمزيٍّ ومهين. وهذا ما حصل مع اندلاع الحرائق في تشرين الأول من هذا العام (2019). هذه الحرائق التهمتْ مساحاتٍ واسعةً من لبنان، وأدّتْ إلى سقوط قتلى وجرحى، وإلى حصار الناس في منازلها. وقد أثار ذلك كلُّه استياءً وغضبًا واسعيْن، نظرًا إلى ظهور عجز الدولة من جديد عن تأمين أبسط أشكال الوقاية والنجدة. رؤيةُ النيران وهي تلتهم ما تبقّى من غابات لبنان كان مشهدًا صدم الوجدانَ الجمعيَّ اللبنانيّ بشكلٍ يشبه ما حصل خلال أزمة النفايات، وأدّى إلى حالة غليانٍ جديدة.
هذه الحالة بقيتْ نارًا تحت الرماد. إلى أنْ كانت الضريبة التي أزمعت الحكومةُ فرضَها على تطبيق الواتساب. فاستجاب المئاتُ، ثمّ الآلافُ، لدعوة بعض الحملات الحقوقيّة من كتلة الحَراك الثوريّ الجديد. ونشبتْ صداماتٌ مع القوى الأمنيّة في محيط السراي الحكوميّ. وازدادت الأعداد، وتدحرجت التحرّكات إلى المناطق كافّةً، وبشكلٍ لم يسبق له مثيل، وانبلج مشهدٌ ثوريّ بكلّ ما في الكلمة من معنى.
في بلورة المطالب والآليّات
خلال الأيّام الأولى من الحراك الجديد، تسابق المسؤولون إلى إعلان "دعمه" و"تفهُّم" مطالبه. وسرعان ما أُلغيتْ "ضريبةُ الواتساب" أملًا في إخماد ذلك الحريق. إلّا أنّ قضيّة الواتساب لم تكن إلّا القطرةَ الأخيرةَ التي فاضت بها الكأسُ. وظهر ذلك جليًّا من خلال السقف العالي للمطالب الشعبيّة، الذي استهدف الطبقةَ السياسيّةَ برمّتها تحت شعار "كلّن يعني كلّن،" وطالب باستقالة الحكومة وإحلال حكومةٍ مستقلّةٍ ونظيفةٍ محلّها.
هنا استشعرت الأحزابُ الطائفيّة ضرورةَ لملمة شارعها، فسارعتْ إلى الهجوم على الحراك معنويًّا. هكذا اتهمته بأنّه مسيَّس، ومموَّل من السفارات، ومجحِفٌ في حقّ السياسيين النظاف الكفّ، وغير ذلك من التهم المعلَّبة والجاهزة التي تعيد الأنظمةُ العربيّةُ اجترارَها كلّما واجهتْ نقمةً شعبيّةً حقيقيّة.
استشعرت الأحزابُ الطائفيّة ضرورةَ لملمة شارعها، فسارعتْ إلى الهجوم على الحراك
غير أنّ ذلك لم يؤدِّ إلّا إلى تزخيم الثورة، وزيادةِ منسوب الحشد في كلّ الساحات. وعمد الثوّار إلى قطع الطرق كتكتيك ثوريّ مؤلم وقادر على شلّ البلد ومرافقه ومؤسّساته. وتعاطى الجيشُ اللبنانيّ مع هذا الأمر برويّة، وقام بحماية الثوّار، على الرغم من ضغوط جزءٍ من الطبقة السياسيّة عليه لدفعه إلى فضّ الاعتصامات وإزالة حواجز الطرق بالقوّة.
وهنا ظهر التفاوت بين القوى السياسيّة:
- فقوى 8 آذار وحلفاؤها اتّخذتْ موقفًا عدائيًّا من الحراك، وإنْ تفاوتتْ هذه العدائيّةُ بين مكوّناتها. حزبُ الله، مثلًا، قلقٌ على سلاحه، ويخشى التغلغلَ الأميركيّ بشكل خاصّ. أمّا "التيّار الوطنيّ الحرّ" فيعتبر نفسَه مظلومًا ومستهدَفًا، ويرى في نفسه الخطَّ الإصلاحيَّ السياسيَّ الحقيقيّ. وأمّا حركة أمل فتخشى على تجارتها ومكاسبها في بازارات المحاصصة.
- قوى 14 آذار رأت في الحراك فرصةً لتسجيل نقاط سياسيّة ضدّ غريمتها التقليديّة، وحاولتْ ركوبَ موجته للوصول إلى هذه الغاية. وقد ساعد على ذلك انفلاتُ شارع 14 آذار، وتصاعدُ أزمته مع قيادته، وبخاصّةٍ جمهور "تيّار المستقبل." هذا في مقابل استمرار ولاء جمهور حزب الله وحركة أمل والتيّار الوطنيّ الحرّ لزعمائه؛ فهالةُ القدسيّة التي يتمتّع بها حسن نصر الله ونبيه بري وميشال عون عند جمهورهم لا نجد مثلها في علاقة جمهور تيّار المستقبل بالحريريّ الابن، ولا في علاقة جمهور الحزب الاشتراكيّ بوليد جنبلاط.
التحقتْ بالثورة فئاتٌ واسعةٌ من جمهور 14 آذار التقليديّ، ونسبةٌ أقلُّ بكثير من جمهور 8 آذار. وساهم هذا في هيمنة شعاراتٍ معاديةٍ لجبران باسيل، الشخصيّةِ الأكثر خلافيّةً واستفزازًا وشعبويّة في تحالف 8 آذار. وأدّى هذا التركيز على باسيل في المراحل الأولى للثورة إلى نفور جمهور 8 آذار منها. إلّا أنّ ما غاب عن أذهان البعض هو أنّ 17 تشرين تؤسِّس لوعي سياسيّ جديد ولهويّة سياسيّة جديدة: فمن كان منتميًا إلى الصفّ الآذاريّ بشقّيْه والتحق بالثورة، يتحوّل اليوم إلى ثائر لبنانيّ خارجٍ عن الانتماء الطائفيّ، أو في طور الخروج عنه.
ومع قرب استقالة الحكومة وتحقيق المطلب الأوّل للثورة، بدأ قطعُ الطرق يفقد شعبيّته ويخلق توتّرًا في الشارع. وقد قدّم ذلك إلى شبّيحة حركة أمل ومناصريها ذريعةً لشنّ هجومٍ على مراكز الاعتصام وتكسيرها وحرقها وضربِ المتظاهرين، بما يعيد إلى الإذهان "معركةَ الجمل" خلال ثورة 25 يناير في مصر. كما ظهر جليًّا بعد استقالة الحكومة أنّ فئاتٍ حزبيّةً تابعةً لقوى 14 آذار حاولت السيطرةَ على الحواجز المُقامة بهدف الضغط على قوى 8 آذار بغية تحصيل مكاسب في المرحلة القادمة. فكان قرارُ الثوّار الحكيمُ بفتح الطرق، وتوجيهِ التحرّك ضدّ الفاسدين والمرافق الحيويّة والأماكن الرمزيّة.
وكان هذا التحوّل ناجحًا بشكل كبير، إذ أعاد تظهيرَ البعد الطبقيّ لهذه الثورة، وأعاد تظهيرَ الملفّ الاقتصاديّ، وملفَّ مكافحة الفساد - - وكلُّها ملفّاتٌ تحظى بإجماع وطنيّ كبير عابرٍ للكتل السياسيّة. فزادت أعدادُ المشاركين في التحرّكات، مع ظهور متميّز لطرابلس المنتفضة كلّيًّا على الحالة الحريريّة وعلى صورة طرابلس كـ"بؤرة إرهابٍ وتزمُّت." والتحق طلّابُ المدارس والجامعات بالثورة، وبدأتْ ملفّاتُ الفساد المتراكمة في الظهور، وأُجبر المتّهمون بالفساد على تراشق التّهم، وباشر القضاءُ بالتحرّك.
ولكنّ مماطلةَ الطبقة السياسيّة، وعجزَها عن تشكيل حكومة إنقاذٍ تلبّي مطالبَ الثوّار، وعنجهيّةَ رئيس الجمهوريّة ورئيسِ مجلس النوّاب وعدائيّتَهما للثورة، أدّتْ إلى نفاد صبر الثوّار وعودتِهم إلى قطع الطرق. وحصلتْ مشادّةٌ على أحد حواجز الشويفات بين المتظاهرين، وعقيدٍ في مخابرات الجيش اللبنانيّ، فما كان من مُرافق هذا الأخير إلّا أنْ أطلق النار، فاستشهد علاء أبو فخر. اللافت أنّ العقيد والشهيد "محسوبان" على النائب وليد جنبلاط، إلّا أنّ الثاني خرج من عباءة الزعيم التقليديّ وبات يدور في فلك 17 تشرين، بينما الأوّل ما زال يفكّر ويتصرّف بعقليّة النظام الإقطاعيّ الطوائفيّ اللبنانيّ ويدور في فلك آذار.
ماذا الآن؟
شكّل استشهادُ علاء أبو فخر لحظةً مفصليّةً في حياة هذه الثورة، وهو أعطى بدمه رمزًا موحّدًا للثوّار، وخلق وعيًا ثوريًّا أشدَّ شراسةً. إلّا أنّ المرحلة دقيقة وخطيرة. ومع استمرار قطع الطرق تظهر خروقٌ حزبيّةٌ من جديدٍ في أكثر من مكان، وهذا قد يحوّل المعركةَ عن مسارها الحقيقيّ. إلّا أنّ الثورة لا قيادةَ عموديّةً لها. ومطلبُ تشكيل قيادة، وإنْ بدا منطقيًّا للبعض في البداية، قد بات مرفوضًا، بل بالإمكان اعتبارُه فخًّا. الإجماع في الوسط الثوريّ حاليًّا هو على استمرار القيادة الأفقيّة، النابعة من شرعيّة الساحات والميادين، وعلى رفض التفاوض والمساومة. فالثورة تطالِب ولا تفاوِض. والمطالب واضحة، وهي تبدأ بتشكيل حكومة مستقلّة تنال ثقةَ الشارع، لا ثقةَ البرلمان والطبقةِ السياسيّة. وهذه الحكومة ستأخذ على عاتقها وضعَ آليّات الإصلاح ومحاربةِ الفساد، ووضعَ خريطة طريق لتحوّل ديموقراطيّ نوعيّ نحو الدولة المدنيّة، بعيدًا عن مزرعة المحاصصة الطائفيّة، وتحت عين الثوّار الساهرة والمراقِبة.
مهمّة الثورة اليوم هي الصمود والتصعيد والضغط. وهي ستُنتج آليّاتِها بناءً على حيثيّات كلّ مرحلة، ومن خلال الجدل الاجتماعيّ في الساحات والميادين وعلى وسائل التواصل الاجتماعيّ، وبالتناغم مع المفكّرين الثوريين الذين يعكسون مطالبَ الشارع كمرآةٍ ولا يقودونه. وهذا كفيلٌ بإسقاط أجندات الأحزاب المتسلِّلة والمتسلّقة، مع وجوب الاحتفاظ بشعار "كلّن يعني كلن" وعلى رأس هذا "الكلّن" ثلاثيُّ جنبلاط - بريّ - الحريريّ ومتفرّعاتُه، الذي هو مثلثُ برمودا الفساد والنهب والهدر في لبنان منذ انتهاء الحرب الأهليّة.
بروكسل
[1] تجدر الإشارة إلى أنّ قوانين الانتخاب في لبنان أتاحت غيرَ مرّةٍ أنْ ينافس المسيحيُّ المسيحيَّ بالصوت الشيعيّ أو السنّيّ. أي إنّ القوانين لم تكن محصورةً بالطوائف حكمًا، بل وُظّفتْ فيها أصواتُ الجماعات الطائفيّة الصغرى من أجل منافسة الأحزاب الكبرى في الطوائف داخل الدائرة الانتخابيّة الواحدة.
: