يُبنى النظامُ التربويّ والتعليميّ في أيّ بلدٍ وفقًا لتوجيهات النظام السياسيّ القائم فيه. ومن هنا، جاءت مناهجُنا التربويّة، مع كلّ الأسف، صورةً طبق الأصل عن نظام لبنان السياسيّ والطائفيّ، الذي لا يختلف أكثرُنا على فشله في بناء وطنٍ حرٍّ ينعم فيه أبناؤه بحقّهم في الحياة الكريمة.
ولا يقتصر دورُ المناهج التربويّة على تحديد عمليّة التعليم بما يتناسب مع التطوّرات العلميّة فحسب، بل ينبغي أنْ يُعنى ببناء شخصيّة الطالب أيضًا. وعليه، فإنّ من واجب مناهجنا، بشكلٍ خاصّ، بناءَ شخصيّة الطالب الوطنيّة المقاومة للاحتلال الصهيونيّ، وذلك من خلال فهم أطماع هذا العدوّ، ورفضِ التطبيع معه لاحقًا، انطلاقًا من المصلحة الوطنيّة، ومن ضرورة الحفاظ على كياناتنا من الضياع والتبعيّة.
المشكلة أنّ المناهجَ التربويّة اللبنانيّة ابتعدتْ عن مقاربة أيّ عبارةٍ تسمِّي الاحتلالَ الصهيونيَّ للبنان بشكلٍ مباشر. والسبب أنّ هذه المنهجيّة خضعتْ لوجهات نظر بعض التربويّين في "مركز البحوث والإنماء،" وهو المؤسّسة الحكوميّة الرسميّة التابعة للدولة اللبنانيّة والمَنُوط بها وضعُ المناهج وتعديلُها، فرفضتْ تسميةَ "العدوّ الإسرائيليّ" بالتحديد في الأهداف العامّة لهذه المنهجيّة. ولأنّ لبنان بلدُ "الديموقراطيّة التوافقيّة،" فقد صُرف النظرُ عن ذلك تحت ذريعة كونه "موضوعًا خلافيًّا" - - وكأنّ الاحتلالَ أو العمالةَ له أو التطبيعَ معه وجهةُ نظرٍ يفرضها بعضُ التربويّين أو السياسيّين على الأهداف التربويّة! وهذا ما حصل فعلًا أثناء مناقشة الأهداف العامّة للمنهجيّة في لجنة اللّغة العربيّة:
فقد عارض بعضُهم، وهم تابعون لجهةٍ سياسيّةٍ طائفيّةٍ معيّنة آنذاك، إدراجَ أيّ عبارةٍ ذاتِ علاقةٍ بالكيان الصهيونيّ. وهو ما عاد وحصل مجدّدًا في مناهج اللّغة العربيّة، ولاسيّما في المرحلة الثانويّة، عندما كانت المقاومةُ في عزّ مواجهتها للاحتلال الصهيونيّ للبنان، إذ غاب عنها الأدبُ المقاوم - - شعرًا ونثرًا وقصّةً ورواية.
وفي التفاصيل نقول إنّ مفاهيمَ "السلام" و"التسامح" و"التصالح" المطروحة في نقاشات المنهجيّة يمكن أن تنطبق على الخلاف الوطنيّ والاجتماعيّ الداخليّ بين المكوِّنات اللبنانيّة، ولكنّه لا يجوز أن ينطبق على صراعنا مع العدوّ المحتلّ لأرضنا وثرواتنا. وهذا الأمر سوف ينعكس بشكلٍ مباشرٍ على بناء شخصيّة المتعلِّم وتكوين مواطنيّته؛ إذ كيف لواضعي هذه المناهج ألّا يعرِّفوا هذا المتعلِّمَ إلى العدوّ الحقيقيّ المغتصِب للأرض، ويحثّوه على إنزال العقاب به بطرده منها؟
هنا نستطرد قليلًا لنشير إلى أنّ هذا النوعَ من الانقسام الداخليّ حول هويّة العدوّ ليس جديدًا في تجارب الشعوب عندما تتعرّض للاحتلال. ففي فرنسا مثلًا إبّان الاحتلال النازيّ، انقسم الفرنسيّون حوله، لكنْ في النهاية انتصر موقفُ المقاومة الوطنيّة الفرنسيّة، وبقيت النازيّةُ عدوًّا أزليًّا للفرنسيِّين. وعند تحرير فرنسا أُعدِم في محاكمَ ميدانيّةٍ كلُّ مَن تعامل مع النازيّة.
علينا في لبنان، إذًا، ألّا نجدَ حرجًا في أن نسمّي الاحتلالَ الصهيونيَّ بالاسم، وأن ننشرَ أخبارَ جرائمه وعنصريّته على الملأ، حفاظًا على هويّتنا ومقاومتنا وتاريخنا، ومن أجل بناء شخصيّة المتعلّم على أساسٍ وطنيّ متكامل، كي يستطيع بعد ذلك أن يميِّز:
- بين عدوٍّ لا يسالمه أو يستسلم له؛
- وخصمٍ داخليّ يختلف معه على قضايا حياتيّة داخليّة، لكنّهما في النهاية يتّفقان عند أيّ احتلال خارجيّ يواجهانه معًا. وكل ما سوى ذلك يُعتبر خيانةً وطنيّة.
علينا في لبنان ألّا نجدَ حرجًا في أن نسمّي الاحتلالَ الصهيونيَّ بالاسم
هنا لا بدّ من الإشارة إلى مخالفة "مركز البحوث والإنماء" للبيانات الوزاريّة للحكومات اللبنانيّة المتعاقبة، وهي بيانات دأبتْ على الحديث عن ضرورة مقاومة الاحتلال لتحرير الأرض. فقد جاء مثلًا في البيان الوزاريّ لحكومة الرئيس الشهيد رفيق الحريري في السنة التي أُقرّ فيها العملُ في الخطّة التربويّة والهيكليّة الجديدة والبدء بوضع المناهج ما يأتي:
"... إنّ استمرارَ احتلال "إسرائيل" لجزءٍ من الأراضي اللبنانيّة، ومواصلةَ اعتداءاتها على شعبنا الآمن، يبقيان في طليعة اهتماماتِ الحكومة، التي تَعتبر أنّ مسألةَ تحرير أرض الوطن ضمن أهدافها الوطنيّة والسياسيّة. إنّ الحكومة اللبنانيّة تتمسّك بحقّ لبنان، حكومةً وشعبًا، في التصدّي للاحتلال الإسرائيليّ، والعمل لتحرير الأرض اللبنانيّة بكلّ الوسائل." [1]
فكيف بمقدور واضعي هذه المنهجيّة، التي ضمَّنتْ فلسفتَها هدفيْن أساسيّيْن، وهما بناءُ شخصيّة الفرد وتكوينُ المواطن، بناءُ شخصيّة المتعلّم وتكوينه من دون تعريفه بعدوّه الذي يحتلّ أرضَه ويقتل شعبَه؟
وأين دورُ هذه المنهجيّة في إنتاج المعرفة؟
وأيَّ "معرفةٍ" أنتجتْ هذه المنهجيّةُ سوى تلك المعرفةِ التقليديّة المتَّصلة بالعلاقات الاجتماعيّة المعروفة؛ معرفةٍ لا تمتلك هويّةً وطنيَّةً واضحة، بل تُسهم في إبعاد المتعلِّمين عن هويّة العدوّ الحقيقيّ وعن مقاومة المحتلّ؟
المناهج التربويّة: نموذج المرحلة الثانويّة
كيف قاربت المناهجُ التربويّةُ اللبنانيّة في مادّة اللّغة العربيّة مسألةَ الاحتلال الصهيونيّ؟ وما هي حصّةُ الأدب المقاوم والمناهض للتطبيع مع العدوّ فيها؟ وأين هم شهداءُ المقاومة في المنهجيّة الجديدة؟
- كتاب التعليم الثانويّ، السنة الأولى، اعتمد مبدأ الموضوعات في إطار الأعصر الأدبيّة. فاختار أبرزَ الإشكاليّات التي شغلت النقّادَ والأدباءَ عبر العصور، مستلهِمًا المنهجَ الواقعيَّ في فهم علاقة الأدب بالحياة، ودور الأدب في التوجيه وبناء الشخصيّة.
غير أنّ "المركز التربويّ" استبعد من كلّ محاور الكتاب أيَّ نصٍّ يشير إلى العدوّ الصهيونيّ بالاسم، بما في ذلك المحورُ الوحيدُ المتّصل بهذا الموضوع، عنيْنا محورَ "التحرير والتحرُّر،" الذي كان من المفترض أن يكون المدخلَ الأساسَ إلى إبراز الأدب المقاوم للاحتلال الصهيونيّ.
الجدير ذكرُه أنّ نصوص هذا المحور هي: 1) قصيدة "الشهداء" لرشيد سليم الخوري، وقد نظَمها إثر الإعدامات التي نفّذها جمال باشا في حقّ الأحرار اللبنانيّين والسوريّين الذين دافعوا عن الحريّة والاستقلال في وجه الاستعمار التركيّ. 2) قصيدة "بعد النكبة" لعمر أبو ريشة، وقد نظمها إثر النكبة الفلسطينيّة عام 1948 وإعلان "دولة إسرائيل." 3) قصيدة "إلى طغاة العالم" لأبي القاسم الشابّي، وتميَّزتْ بنبرةٍ ثوريّةٍ مناهضةٍ للظلم بكلّ أشكاله.
اللافت أنّ القصيدة الأولى ذكرت الاحتلالَ التركيّ، وذكرتْ شهداءَ الحريّة الذين واجهوه (وهذا منطقيّ وضروريّ ومهمّ)، وأنّ القصيدة الثانية ذكرت الاحتلالَ الصهيونيّ لفلسطين. ومع ذلك فقد استُبعدت النّصوصُ المتعلّقة بالمقاومة وشهدائها في لبنان.
- وفي كتاب التعليم الثانويّ، السنة الثانية، في فرعيْها الإنسانيّات والعلوم، جرى التّركيزُ على مَحاور ذات صلةٍ معرفيّةٍ بعلاقة الإنسان بمجتمعه، وبالحبّ، والفنّ، والأدب العالميّ، وغير ذلك. لكنْ غابت القضيّةُ الوطنيّة اللبنانيّة المتمثِّلة في الاحتلال الصهيونيّ غيابًا كلِّيًّا.
- وفي كتاب التعليم الثانوي، السنة الثالثة، ابتعدت المنهجيّةُ في كلّ الفروع عن ذكر الاحتلال الصهيونيّ، وخلت جميعُها من الأدب المقاوم. لا بل ثمّة ما يشير، في فرع الاقتصاد والاجتماع، المستحدَث في المنهجيّة الجديد، إلى تأثّر بعض كتّاب النصوص المدرَجة بوهم "السلام الشامل" الذي نشره الرئيس رفيق الحريري وغيرُه آنذاك.
في كتاب التعليم الثانوي، خلت المنهجيّةُ جميعُها من الأدب المقاوم
ففي المحور السابع، "الإنسان واستشراف المستقبل،" ورد في النصّ الأوّل من محاضرةٍ مكتوبة للدكتور سمير مقدسي، وهو وزيرُ الاقتصاد في العام 1992، ما يأتي: "... انطلاقًا من بناء لبنان الجامعة، وسط تطوّراتٍ متسارعةٍ في النطاق الإقليميّ، ومنافسةٍ بين دول المنطقة، ومن ضمنها إسرائيل، في ميادين التربية والثقافة؛ منافسة ومصير يقرّران دورَ دول المشرق العربيّ، بعد التوصُّل إلى السلْم الشامل."[2]
خاتمة
بعد هذه القراءة لمناهج اللّغة العربيّة وآدابها في مرحلة التعليم الثانويّ الحسّاسة جدًّا، نجدها ابتعدتْ عن وعي الخطر الصهيونيّ ومناهضة التطبيع معه، ولم تأتِ على ذكر احتلاله للأرض اللبنانية والسوريّة ولو بإشارةٍ بسيطة. كما أبعدت المتعلّمين عن فهم خطره وعن تعزيز هويّتهم الوطنيّة، التي يُعتبر في أساس تكوينها العداءُ له. وهذه جريمةٌ تربويّةٌ وأخلاقيّةٌ يجب تصحيحُها على الفور: فالمقاومة حرَّرت الأرضَ، وشهداؤها أنجزوا بدمائهم الاستقلالَ والحريّة، ونصوصُ الشعراء والأدباء المقاومين يجب أن تكون في صلب المنهجيّة التربويّة، وإلّا اعتُبر ذلك تهاونًا في مواجهة العدوّ الصهيونيّ؛ تهاونًا يسهّل التطبيعَ معه في مراحلَ لاحقة.
والحقّ أننا، نحن اللبنانيّين، أكثرُ المستفيدين من مواجهة العدو الصهيونيّ وعدم التطبيع معه أو الاعتراف به، ولو اعترف به العالمُ بأسره. فالاعتراف بدولة دينيّة عنصريّة على حدودنا يساهم في تقسيم وطننا لبنان، ويؤسِّس لدويْلاتٍ دينيّةٍ فيه (والبعض قد راوده ذلك "الحلمُ" في الماضي فعلًا)؛ وفي ذلك خيانةٌ وطنيّة فاضحة. أمّا الاعتراف بكيانٍ اغتصب أرضَ فلسطين العربيّة، فهو تخلٍّ عن فلسطين، قدسِ أقداسنا؛ وفي ذلك خيانةٌ قوميّة كبرى.
بيروت
[1] البيان الوزاريّ لحكومة الرئيس رفيق الحريري الأولى في عهد الرئيس إلياس الهراوي، وقد استقالت بتاريخ 25/5/1995.
[2] كتاب الاجتماع والاقتصاد في المنهجيّة التربويّة الجديدة، التعليم الثانويّ، السنة الثالثة، ص 162.