خلال الأسابيع الأولى من تفشّي وباء كورونا في مقاطعة وُهان الصينيّة، وفي بلدانٍ أوروبيّةٍ وآسيويّةٍ وفي أمريكا، أَظهرتْ نداءاتُ منظّمة الصحّة العالميّة وتصريحاتُها عجزَ الدول الغربيّة الغنيّة عن التجاوب بالحزم والاستعداد المنشوديْن. ولم تستطع التآزُرَ لمواجهة خصمٍ جديدٍ ظهر في مملكة الفيروسات، التي صَنعتْ على كوكبنا البشريّ، عبر الزمن، الحياةَ والموتَ.[1] وتراوحتْ ردّاتُ الفعل الأولى بين الإهمال، والتذمُّر، وتحميلِ الصين جُرمَ انتشار الفيروس.
بعد أقلّ من شهر، بدأتْ هذه الدولُ تطبيقَ إجراءاتٍ وقائيّةٍ خجولة، تاركةً لشركات النقل والمطارات والمدارس والمستشفيات والبلديّات هامشًا واسعًا من حرّيّة التصرُّف. كما استبعدتْ في ذلك الوقت وضعَ حدٍّ للسفر إلى الخارج.
في منتصف آذار (مارس) بدا جليًّا أنّ فيروس كورونا لا يهدِّد سلامةَ ملايين المواطنين في هذه الدول فحسب، بل يقوم أيضًا بتعريةِ إداراتها الاقتصاديّة والبيئيّة وبعضِ أنظمتها الصحّيّة والتنمويّة وما يتخلَّلها من تمييزٍ طبقيّ وعنصريّ.
في جوٍّ خياليّ - واقعيّ أُفرِغَتْ فيه الشوارعُ والمطاعمُ والحدائقُ من الناس، وخفتتْ حركةُ الحافلات ومحطّات الميترو إلى حدّ كبير، وقع جدلٌ مهمٌّ على مستوى النُّخب والفعّاليّات العامّة حول مجموعةٍ من القيم الليبراليّة الغربيّة، وأهمُّها: الحريّةُ الفرديّة، والعدالةُ الاجتماعيّة-الاقتصاديّة.
فقد عمد عددٌ من المفكّرين الغربيّين والسياسيّين والصحافيّين إلى إطلاق أوصافٍ نمطيّةٍ، إنْ لم نقل عنصريّة، على الصين، حاصرين سببَ نجاحها في السيطرة على انتشار الفيروس بـ"الديكتاتوريّة" لا غير. واتَّهم بعضُهم الصينَ أيضًا بـ"تسييس الكارثة،" وبقسر اهتمامها على رفع حظوظها السياسيّة لا على سلامةِ مواطنيها، وانتقدَ دورَ هيئاتِها العسكريّة في فرض قوانينَ قاسيةٍ عليهم، ليَخلُصَ إلى أنّ مثلَ هذه الإجراءات لا تناسبُ المجتمعاتِ الغربيّة.[2]
وشجب آخرون أيَّ محاولةٍ لاقتباس الإجراءات الصينيّة، أو للإشادةِ بما حقَّقتْه، خوفًا على "الحرّيّة الفرديّة" - - هذه الحرّيّة التي قُيِّد لها أن تلعبَ دورَ البطلة التي لا تُحرَق ولا تُغرَق في مسلسل الاقتصاد الحُرّ والحدِّ من سلطة الدولة.
انتَقد أَغامبين إقدامَ حكومات الغرب على حجزِ الناس في بيوتهم واتَّهمها بالتهويل المدروس
من أهمّ الأصوات التي ارتفعتْ في هذه الفترة صوتُ المفكِّر الإيطاليّ جيورجيو أَغامبين. فقد انتَقد بشدّةٍ إقدامَ الحكومات الغربيّة على حجزِ الناس قسرًا في بيوتهم، واتَّهمها بالتهويل المدروس، وبتضخيمِ خطر الفيروس كي تُوسِّعَ دائرةَ سلطتها على المجتمع المدنيّ وآليّاتِه الديمقراطيّة.[3]وتغنّى أغامبين بإنجازات الإنسان الفنّيّة والفكريّة خلال التاريخ، زاعمًا - من دون تقديم دلائلَ مقْنعة - أنّها ستندثر في ظلّ الحَجْر الصحّيّ. كما سخر من فيروس كورونا، معلنًا أنّ عوارضَ الإصابة به طفيفةٌ لا تختلفُ كثيرًا عن عوارض الإنفلونزا.
لكنّ أغامبين لم يوفَّقْ في إقناعنا بأنّ حكومات الغرب تستفيد من الترويج للخراب من خلال إحلالِ "حالةِ طوارئ هستيريّةٍ لاعقلانيّةٍ" كما وصفها، خصوصًا أنّها ترى خساراتِها الاقتصاديّة تتكدّس بسرعةٍ مخيفة. لم يَسبِرْ أغامبين هنا أبعادَ حريّة الفرد تجاه حريّة الآخر، وإمكانيّةَ تضاربهما في جوٍّ من الانفلات الجمعيّ والأنانيّة والتملُّص من المسؤوليّة. كما تغاضى عن الأبعاد الفلسفيّة الأخرى التي ترتبطُ بالحَجْرِ الصحّيّ، وأهمُّها: أولويَّةُ البقاء على قيد الحياة، وتفادي العنفِ المجتمعيّ الذي يولِّدُه فشلُ الدولة في فرض القوانين والعقوبات.
استنادًا إلى ذلك، برزَ في أعقاب انتشار فيروس كورونا مفكِّرون ليبراليُّون يخالفون أغامبين وغيرَه الرأيَ، معبِّرين عن حاجة المواطن إلى الإجراءات الحكوميّة، مؤكِّدين أنّ أنواعًا عديدةً من الضَّبط والمراقبة لا تؤدّي إلى سيطرة الدولة الكاملة على المجتمع.[4]كما طالبوا حكوماتِهم، المنتخبةَ ديمقراطيًّا، بإعادة تنظيم الحرّيّة الفرديّة للحفاظ على سلامة المواطنين واستمراريّة المجتمع.[5]
لكنّ ليبراليّين آخرين دعْوا إلى إنهاء حالة الحَجْر، وإلى تطبيقِ سياسةِ "مناعة القطيع" كي يأخذَ الفيروسُ مداهُ الطبيعيَّ في الانتشار، وإنْ أدَّى ذلك إلى زيادة نسبةِ الوَفَيات بين المسنّين، وأصاب 60% بالمئة من المواطنين بحيث يطوِّرُ بعضُ هؤلاء مناعةً له. وينسى أصحابُ هذه النظريّة الواهية، التي حاربتْها الفئاتُ الشعبيّةُ في بريطانيا، أنّ أنواعًا متفاوتةً من الحَجْر الصحّيّ واكبت الكوارثَ الوبائيّةَ على مدى التاريخ. فالوقايةُ، التي يقعُ في خانتها الحجْرُ الصحّيّ، جزءٌ لا يتجزَّأ من بناء المناعة بشكلٍ تدريجيٍّ لا يسمحُ بطغيان الكارثة على العنصر البشريّ، خصوصًا على الطاقم الطبّيّ المتخصِّص.
واعتبر المفكِّرُ الأميركيّ نوام تشومسكي الخطابَ السلبيَّ حيال الصين مؤشِّرًا إلى النائباتِ والخسائر التي ستتكبَّدُها البلدانُ الغربيّةُ في المستقبل بسبب استهتارها بالواقع البيئيّ-الصحّيّ العالميّ.[6] فقد كان بالإمكان تفادي الانتشار السريع للوباء في أواخر كانون الأوّل (ديسمبر) 2019، كما قال، حين قدَّمَت الصينُ إلى منظّمة الصحّة العالميّة معلوماتٍ عن طبيعة الفيروس وأعراضِه؛ ولكنْ لم يحرِّك المسؤولون ساكنًا في أغلب الدول الأوروبيّة والأميركيّة.[7]وأشار تشومسكي إلى الأنانيّة في التعاطي مع الفيروس في ألمانيا، وإلى العجزِ الذي ظهر في بريطانيا، وأعلن أنّ النموذجَ الأسوأ في التصدّي لهذا الوباء كان حكومةَ الولايات المتَّحدة.
تشومسكي: الخطاب السلبيّ حيال الصين مؤشِّر إلى الخسائر التي سيتكبَّدُها الغرب
العزلة، والبطالة، وغياب التأمين الصحّيّ
في الوقت الذي تحرَّكتْ فيه الصينُ، دولةً ومجتمعًا، للحدّ من الإصابات، كان بوريس جونسون، رئيسُ وزراء بريطانيا، يمشي متعثِّرًا نحو خطَّةٍ لاستيعاب التطوّرات، واندفع بنَزقٍ قائلًا إنّ جيليْن من البريطانيّين سوف يواجهان أسوأَ أزمةٍ صحّيّةٍ في حياتهم، وأنْ لا مناصَ لهما من رؤية فِلْذاتِ أكبادِهما "يموتون قبل الأوان!"[8]
قبل ذلك، كانت الحكومةُ البريطانيّةُ ، خلافًا لحكومتيْ إيطاليا وأسبانيا، قد رفضتْ إقفالَ مراكز التجمّعات البشريّة الأساسيّة، مثل المدارس والمطاعم، وعَبَّرَتْ عن شَكِّها في أن تَحُدَّ هذه الإجراءاتُ من انتشار الوباء.
أمّا الإيرلنديّون والإسكتلنديّون فهزئوا من جونسون وباشروا - - مجتمعاتٍ مدنيّةً وهيئاتٍ دينيّةً ولجانًا حكوميّةً وطبّيّة - - بإقفال مراكز التجمُّعات البشريّة، وحَدُّوا من التنقُّل والسفر، وطبَّقوا الحجْرَ الصحّيّ.
في أمريكا ظهرتْ تحوّلاتٌ جديدة في تصريحات الجمهوريّين عن مسؤولية الدولة تجاه الكارثة. وازدادت حدّةُ الانتقادات الموجَّهة إلى السياسات النيوليبراليّة، وما إذا كانت الضامنةَ الحقيقيّةَ للمجتمع والإنسان. فخطابُ "الحرّيّة الفرديّة" يتلوّن بتلوُّنِ الظروف التاريخيّة: يصبُّ أحيانًا في مقاومة السياسات القمعيّة التعسُّفيّة؛ ويُشَكِّلُ أحيانًا أخرى غطاءً يختبئُ وراءه جشعُ رأسِ المال، وتبريرُ الأغنياءِ لحرمان الفقراء حقَّهم من التأمين الصحِيّ والطبابةِ المجّانيّة وإعادة توزيع الثروات. هذا الخطاب، الذي يلقى آذانًا صاغيةً في حالات السِّلْم، يهتزُّ في حالات الحرب، كما يفعل الآن في معركةٍ عالميّةٍ ضدَّ فيروس لا يميِّز بين غنيّ وفقير، وشماليٍّ وجنوبيّ، وسوداءَ وبيضاء. هكذا ارتفعتْ أصواتُ بعض السياسيّين، مطالبةً ترامپ بالحماية الشاملة والتعويض المادّيّ والإنسانيّ لكلِّ شرائح المجتمع بلا تمييز.[9]
تتوجَّه أنظارُ الفئات الشعبيّة في الولايات المتَّحدة نحو ركنٍ من أركان الرأسماليّة، أَلا وهو الرعاية الاجتماعيّة-الاقتصاديّة، وتَبِعاتِ الوباء عليه في ظلِّ حكومة ترامپ. هنا، في أحد أهمِّ مراكزِ صنع القرار في العالم، نجدُ أعلى نسبةٍ لتفشِّي فيروس كورونا، وقد تركتْ أثرًا كارثيًّا في الملايين من الأميركيِّين. وفي هذا الأسبوع تحديدًا، يصلُ عددُ الذين فقدوا حياتَهم من جرّائه منذ بدء الأزمة إلى أكثر من 40 ألف مواطنة ومواطن.[10]أمّا خلال السنوات الماضية، فقد حُرمَ حوالى 30 مليون أميركيّ أيَّ نوعٍ من التأمين الصحّيّ، وحصلَ 44 مليون آخرون على تغطيةٍ جزئيّة.
يُعتبرُ النظامُ الصحّيّ الأميركيّ، الجائرُ والمليءُ بالتعقيدات الإداريّة، سببًا أساسًا في انتشار الوباء ومعاناةِ الملايين للكوابيس المعيشيّة. فقد ساهم ترامپ في خلق عقباتٍ كبيرةٍ أمام التأمين الصحّيّ للفقراء، انعكس في سياسات الرِّعاية الفيدراليّة. والأدهى من ذلك أنّه قام بإغلاق برامجَ إنمائيّةٍ يستطيعُ المرضى ذوو الدَّخلِ المحدود الاستفادةَ منها. فهؤلاء، وإنْ شعروا بعوارضِ الإنفلونزا التي يتطابقُ بعضُها مع عوارضِ فيروس كورونا، ستمنعهم أحوالُهم المادّيّةُ من استشارةِ طبيب، ناهيكم بالخضوعِ لفحوصاتِ فيروس كورونا واختباراتِها الباهظة الثمن. ومن الطبيعيّ أن يشعروا بأنّ تأمينَ القوت اليوميّ لهم ولأولادهم أجدى بدولاراتِهم الشحيحة من المعاينة الطبّيّة.
تراوحتْ تصريحاتُ ترامپ الأولى عن خطَّته في التصدّي للفيروس بين التهريج والتضليل. تارةً يتمتم قائلًا: "ليس هناك من كارثة. فهو [فيروس كورونا] يشبه الإنفلونزا،" وتارةً أخرى يعلنُ أنّ اهتمامَه ينصبُّ الآن على حملته الانتخابيّة.[11]ولقد رفضَ إعادةَ فتحِ "برنامج التبادل الفيدراليّ" الذي يمْكنُه أن يرفعَ نيرَ العجزِ المادّيّ والتأزُّمِ النفسيّ عن كاهل عشرة ملايين عاطل وعاطلة عن العمل.[12]وبعد أن تعرّض للانتقادات اللاذعة من الحزب الديمقراطيّ ومن بعض أفرادِ حزبِه الجمهوريّ، اقترحَ على المنكوبين تقديمَ طلباتِ المساعدة من خلال برنامج "أوباماكير" الذي كان يسعى هو نفسُه إلى اقتلاعه في الأساس. لم يقدِّمْ ترامپ إلى أحدٍ منهم، في هذا السياق، ضماناتٍ بالتغطية الصحّيّة، كاملةٍ أو مجزَّأة، بل أشار إلى ضرورةِ توفُّرِ "عناصر محدَّدة" في طلباتهم لتحقيق المساعدة.[13]وقد صَرَّحتْ "مؤسّسةُ السياسة الاقتصاديّة" مؤخَّرًا أنّ حوالي 3.5 مليون أميركيّ آخرين خسروا التغطيةَ الصحّيّةَ في أواخر آذار (مارس) من السنة الحاليّة.
غيابُ التأمين الصحّيّ العادل والشامل انعكس في لبِنةِ النظام الرأسماليّ الأميركيّ
على أنّ هذه الصورة القاتمة في أمريكا ليست ناتجةً من ممارسات حكومة ترامپ فحسب، وإنْ مثّل هذا الأخيرُ أكثرَ مظاهرِها رعونةً وغِلظةً. فغيابُ التأمين الصحّيّ العادل والشامل انعكس في لبِنةِ النظام الرأسماليّ الأميركيّ. ومع ذلك، فقد تمكَّن الهلعُ الذي زرعه فيروس كورونا من دفع بعض الجمهوريّين إلى التراجع عن شعارات "الاعتماد الذاتيّ" و"الفرديّة الخلّاقة،" مناشدين حكومتَهم دعمَ الفحوصات الطبّيّة المجّانيّة للجميع.[14]
فعلى سبيل المثال، طالبَ ميت رومْني، عضوُ مجلسِ الشيوخ، الحكومةَ بتوزيع المساعدات المجّانيّة على الأميركيّين، وهو الذي سبق أن قال إنّ 47% من الأميركيِّين طُفيليّون يشكِّلون عبئًا على الحكومة. كما ازداد عددُ المدافعين في الكونغرس عن برنامج أوباماكير، والمطالبين بتوسيع نطاقه لمساعدة المنكوبين.
انقسامات دوليّة، صراعات بين الجنوب والشمال، مقاومة العولمة الاقتصاديّة
تحوّلت الحربُ العالميّةُ ضدّ الوباء في فترة قصيرة إلى حروب جيوسياسيّة وقوميّة ومناطقيّة، وإلى منافساتٍ شرسةٍ يتخلَّلها تبادلُ التُّهم بين أمريكا من جهة، والصين وروسيّا وإيران من جهةٍ أخرى، باستخدام أسلحةٍ بيولوجيّة. وعلى الرغم من نداءات المنظّمات الطبّيّة وهيئاتِ الإغاثة العالميّة، فقد فشلتْ أهمُّ الدول التي تحرِّك النظامَ العالميّ في التكاتف الحقيقيّ وتبادلِ المعرفة والخبراتِ واللوازم الطبّيّة بشكلٍ فعّال.
من مظاهر هذه التداعيات: قيامُ حكومة ترامپ بمنع شركة 3M من تصدير أقنعةِ التنفُّس N95 إلى كندا وأمريكا اللاتينيّة، مستندةً في ذلك إلى قانونِ "الإنتاج الدفاعيّ الوطنيّ" الذي ارتبط تطبيقُه سابقًا بالحرب ضد كوريا.[15] وكانت هذه الشركة تُصنِّع ما يقارب 100 مليون قناع شهريًّا يصفِّي الهواءَ التنفّسيّ من حوالي 95% من الفيروسات. واللافت للنظر أنّ ما يقرب من ثلثي الأقنعة يُنتَج خارج الولايات المتّحدة، ويعتمد على عمالةٍ صينيّة. بعد نقدِ ترامپ اللاذع لهذه الشركة وتراجُعِ رؤسائها عن قرارهم، عقد اتّفاقًا جديدًا معها يسمح بإرسال كمّيَاتٍ محدودة من الأقنعة إلى الخارج. وظهر أثرُ هذا الصراع في مقاطعة أونتاريو (كندا) التي تقوم بمحاولاتٍ يائسةٍ للحصول على الأقنعة، مناشدةً المواطنين ألّا يشتروها من الأسواق كي تكون في متناول العاملين في القطاع الصحّيّ والمستشفيات. ولقد هدَّد جوستان ترودو، رئيسُ وزراء كندا، الرئيسَ الأميركيّ بشكلٍ مبطَّنٍ حين لمّح إلى أنّ كندا قادرةٌ على منع مئات الأطبّاء الأميركيّين الذين يعيشون في جنوب أونتاريو من عبور الحدود إلى مقاطعة ميشيغان الأميركيّة كما يفعلون يوميًّا. وذكَّر الحكومةَ الأميركيّة بأنّ كندا تنتج (من خلال شركات مثل هارماك پاسيفيك) بعضَ الموادّ الأساسيّة التي يحتاج إليها الأميركيّون لصنع معدّاتهم الطبّيّة. بعد أيّام تراجعت حدّةُ الخطاب بين البلدين، وأعلن ترودو - الذي يبدو الأضعفَ في هذه المعادلة - أنّه لن يعاملَ حكومةَ ترامپ بالمثل ويميل إلى حلِّ النزاع بطريقة سلميّة.
هذا، وقد فَرض الوباءُ والصراعاتُ الناتجةُ منه الاعتمادَ على الطاقات المحلّيّة والإقليميّة، ودعمَ الإنتاج المقاومِ للعولمة الاقتصاديّة. إلى جانب ذلك، ارتفعتْ بعضُ الأصوات التي تطالب بإعادة النظر في التبادلات الاقتصاديّة عبر القارّات، بل داخل أوروبا وأمريكا الشماليّة أيضًا. وفي هذا السياق صرَّح دوغ فورد، رئيسُ وزراء أونتاريو، قائلًا: "من الآن فصاعدًا، لن نعتمدَ أبدًا على بلدانٍ حول العالم أو شركاتٍ حول العالم لتحقيقِ سلامة الشعب الكنديّ وعافيته."[16]
في هذا الجوّ من الاضطراب وتوجُّس المكروه، تعزَّزتْ أيضًا صراعاتٌ داخليّةٌ في عدد من البلدان الغربيّة. فمنذ الأسابيع الأولى لانتشار الفيروس، شعر الإيطاليّون الجنوبيّون، الذين يعانون الفقرَ وتضاؤلَ فرص العمل، بأنّ روما وسياسيّيها متحيِّزون إلى الشمال، ولا يقدِّمون الدعمَ اللازمَ إلى مواطني الجنوب. وكان حاكمُ منطقة كامپانيا الجنوبيّة قد ناشد الحكومةَ الإيطاليّةَ إرسالَ أقنعةٍ ولوازمَ وآلاتِ تنفُّس. وأشار بعضُ المحلِّلين إلى مخاوفَ حقيقيّةٍ من اندلاع حرب أهليّة خصوصًا حين يجد الجنوبيّون أنفسَهم عاجزين عن تأمين لقمة العيش![17] تجدرُ بنا الإشارةُ هنا إلى أنّ هويّةَ الجنوبيّين ارتبطتْ تاريخيًّا بمقاومةِ هيمنةِ الشمال وعنصريّته. وانعكس هذا الجوّ المحتقن على خطابات رؤساء بلديّات الجنوب الإيطاليّ، الذين ناشدوا بناتِ ولاياتهم وأبناءَها العائدين إلى بيوتهم من الشمال أن يرجعوا من حيث أتوْا كي يحموا الجنوبَ من الفيروس الذي تفشّى بدايةً في الشمال.
في ظلّ هذه العزلة الإقليميّة والمناطقيّة التي يعيشها كثيرٌ من الغربيّين اليوم، والشعور بأنّ كلَّ منطقةٍ تسعى إلى خلاصِ ذاتها والاعتماد على إمكانيّاتها المحلّيّة، يَصْعب تحقيقُ تعاونٍ أمميٍّ تقدميّ كالذي أشار إليه جيجك؛ ذلك لأنّ مثل هذا التعاون يعتمد على تبادل المعلومات في إطارٍ من المساواة، وعلى تنظيمِ حملاتٍ شاملةٍ بين الشعوب للتصدّي للفيروس.[18] فقد صرَّح جيجك أنّ فيروس كورونا عاملٌ مهمٌّ الآن في إحياء الآمال الشيوعيّة.[19]وأضاف هذا المفكِّر، الذي لا يخلو من التناقض والغموض، أنّ الشيوعيّة التي يتحدّث عنها ليست وصفةً جاهزة، بل علينا القيامُ بصنعها، ومن سماتها العامّة في هذه المرحلة: المطالبةُ بتدخُّلٍ أكبر للدولة في تنظيم المجتمع، وإرساءُ أسسٍ جديدةٍ للتعاون بين هيئاته المدنيّة والسلطة. ونوَّه بضرورة التضامن عبر الحدود مع دولٍ أخرى، واستنهاضِ الشعوب؛ ذلك لأنّ المعركة ضدَّ فيروس كورونا أشبهُ بمعركة عسكريَّة تتطلَّب المشاركةَ في المعلومات والبحوث والدفاع.[20]
في نهاية المطاف، حين يُنْبئنا رئيسُ منظَّمة الصحّة العالميّة، تيدروس أدهانوم غيبريس، أنّ التزامَ البلدان الغنيّة بمواجهة الأزمة جاء متأخِّرًا ودون مستوى الخطر المحيق بها وبالعالم،[21]ندرك أنَّنا لسنا مُهيَّأين لمواجهةِ خطرٍ أكبرَ من فيروس كورونا وإنْ تغلَّبنا عليه وخرجنا إلى شوارعنا ومسارحنا وجامعاتنا وحقولنا سالمين. فما زالت القراراتُ المصيريّةُ في قبضةِ قادةٍ عديمي الكفاءة والصِّدق والمسؤوليّة، لا يتوانوْن عن تصفية حساباتهم العسكريّة ضدَّ بلدان أخرى، في الوقت الذي يجدرُ بهم التهيُّبُ أمام الوباء والاهتمامُ بمساعدة شعوبهم وشعوب العالم.
إنّ محاربة الأوبئة، بل مواجهةَ الكوارث البيئيّة في المستقبل، ستحتاجان إلى جهودٍ واعيةٍ ومنسَّقةٍ ومتَّحدةٍ وشاملة. فإنْ لم تتغيَّرْ سياساتُ الحكومات المهيمنة على القرار العالميّ، ولم يرتفعْ مستوى وعيها للأخطار المُحيقة بالعالم، فسوف نسير جميعًا نحو الهاوية.
مونريال
[3]Giorgio Agamben,”On coronavirus: “The enemy is not outside, it is within us,” March 16, 2020, http://bookhaven.stanford.edu/2020/03/giorgio-agamben-on-coronavirus-the-enemy-is-not-outside-it-is-within-us/; Slavoj ŽiŽek, “Monitor and Punish? Yes, Please!,” The Philosophical Salon, March 16, 2020, http://thephilosophicalsalon.com/monitor-and-punish-yes-please/
[12]Joseph Zeballos-Roig, op. cit.
[14]Zeeshan Aleem, op. cit.
[18]Slavoj ŽiŽek, op. cit.