باقون في حيفا.. قاعدون في حيفا!
09-11-2017
الكاتب/ـة :

 

"أواعي عُتُق للبيع! طناجر عُتُق للبيع! نحاس مصدّي للبيع!

أشتري المتاع القديم، المتروك والمنهوب.

أصلّحه وأبيّضه وأبيعه، ولكنّني لا أبيع كنوزي.

أنا هند، يا بشر! أنا هند، يا غجر!

بيتي ما له باب، ولكنّه قايم، وأنا قاعدة فيه

وإنْ نسيوني، أنا ما نسيتهم.

زوجي أخذ أولادنا ورحل، وأنا ما رحلت.

قالوا عنّي: يا مجنونة يا عاشقة. ما رحلت.

قالوا عنّي: خاينة. ما رحَلت.

ولما جنّ الليل تسلّلوا إلى بيتي على حساب إنّي خاينة.

خاينة مع مين يا بَقَر؟!

هند، بنت الفرّان، بنت العيش والملح، خاينة؟!

تتشحططوا في بلاد البَعْر وتقولوا عن هند خاينة؟!

عشرين سنة وسفينتي مُبحرة نحو كنوز الملك سليمان.

لا وصلت ولا بقي حطب إلّا أكلته النيران.

كل شيء بعته سوى كنوزي. كنوزكم".

(إميل حبيبي،  أُمّ الروبابيكيا - هند الباقية في وادي النسناس)

***

حين تزور صفد أو طبريّا، اللتيْن هُجّرتا في العام 1948، تَحْضرك شخصيّةُ دوف/خلدون، الطفل الفلسطينيّ في رواية غسّان كنفاني، عائد إلى حيفا، الذي تركه ذووه رضيعًا في بيتهما في حيفا، وعادوا بعد عشرين عامًا، بعد نكسة العام 1967، ليجدوه مجنَّدًا في الجيش الإسرائيليّ، وقد امّحت هويّتُه الفلسطينيّةُ بالكامل.

فالحال أنّ حجارةَ صفد وأزقّتَها لا تختلف كثيرًا عن حجارة حيفا والناصرة وأزقّتهما، وقبّةَ الجامع في طبريّا تشبه قبّةَ جامع الجزّار في عكّا وحسن بيك في يافا. ولكنّ البلاد، كما البيوت، "تموتُ إذا غاب سكّانُها." أمّا هند، التي أطلقتْ صرختَها في أيلول 1967، فهي امرأةٌ رحل زوجُها وأولادُها عنها، ولكنّها بقيتْ في حيفا، تبيع النحاسَ والخردوات لتؤمّن قوتَ يومها، ولكنّها لا تفرّط بـ"الكنوز."

بعد نكبة العام 1948 بقي نحو 150 ألف فلسطينيّ في نطاق "الدولة اليهوديّة" في الجليل والمثلَّث والنقب والساحل ومرج بن عامر، واضطرّت هذه الدولةُ إلى منحهم جنسيّتَها، واضطرّوا هم إلى قبولهما - الدولة وجنسيّتها - على مضضٍ، لكي يضمنوا بقاءهم وعدمَ ترحيلهم. أكثر من ذلك: في مطلع الخمسينيّات، خاض أهلُنا في الجليل ما عُرف بـ"معركة الهويّات الحمراء،" إذ قامت السلطاتُ الإسرائيليّة بمنح بعضهم بطاقةَ هويّةٍ حمراء، خلافًا للهويّات العاديّة، تمهيدًا لترحيلهم باعتبارهم "متسلّلين." فكأنّنا "كافحنا" من أجل الحصول على المواطَنة الإسرائيليّة، لا حبًّا بالكيان والصهيونيّة، بل حبًّا لأرضِنا وقرانا ووطننا الذي لا وطنَ لنا سواه.

وبقينا إلى العام 1966 تحت الحكم العسكريّ، خائضين منذ ذلك الحين مقاومةً سياسيّةً وثقافيّةً متصاعدة.[1] فكانت الانتفاضةُ الشعبيّة الأولى في أيّار 1958 حين حاولت السلطاتُ الإسرائيليّة إخراجَ مشهدٍ يبدو فيه الفلسطينيّون داخل فلسطين 48 وكأنّهم يحتفلون، أمام الإعلام الأجنبيّ، بالذكرى العاشرة لـ"استقلال" الدولة، فرحين وغارقين بنِعم "واحة الديمقراطيّة" في الشرق الأوسط. لكن اندلعتْ مواجهاتٌ داميةٌ، اعتُقل خلالها المئاتُ في الناصرة وأمّ الفحم وغيرهما.

وتواصلت المحطّاتُ النضاليّة، حتى بلغتْ ذروتَها في ملحمة "يوم الأرض" في الثلاثين من آذار 1976. ومن عندنا خرج "شعرُ المقاومة"[2] بأقلام محمود درويش وسميح القاسم وسالم جبران ونايف سليم وتوفيق زيّاد.

تَعتبر الحركةُ الصهيونيّةُ بقاءنا في وطننا خللًا استراتيجيًّا، باتوا يحذِّرون منه على نحوٍ مطّرد في العقود الأخيرة. فقد قال بنيامين نتنياهو في مؤتمر هرتسليا عام 2003: "إنّ مشكلتنا الحقيقيّة ليست العربَ في المناطق [المقصود: المناطق المحتلّة عام 1967 ــــ ر.ز.] بل العرب في إسرائيل [فلسطين 48]." وأضاف أنّه إذا وصلتْ نسبةُ الفلسطينيّين داخل دولة إسرائيل إلى 40 % من المواطنين "فستُلغى الدولةُ اليهوديّة."

إنّ مجابهة الصهيونيّة، في حالتنا وفي موقعِنا داخل بلدنا، ليست مسألةَ رأي سياسيّ أو موقفٍ فكريّ وأخلاقيّ فحسب، بل هي مسألة وجوديّة أيضًا نواجهها يوميًّا في كلّ مناحي حياتنا. فنحن نواجه الصهيونيّةَ حين نتمسّك بلغتنا وانتمائنا وانحيازنِا إلى قضيّة شعبنا، وعندما نوسِّع مسطَّحَ قرية، أو ننشئ منطقةً صناعيّةً، أو نحافظ على مقبرةٍ في مدينةٍ ساحليّة أو قريةٍ مهجّرة. ونواجه الصهيونيّةَ عندما نلتحق بالجامعة ومكانِ العمل من دون بطاقة "جندي مسرَّح."[3] ونواجه الصهيونيّةَ حين نقطف الزعترَ والميرميّة والعكّوب بعيدًا عن عيون "سلطة حماية الطبيعة" وغراماتها. وقد نواجه الصهيونيّةَ بمجرّد سماع أغنيةٍ لأمّ كلثوم، أو جوزيف صقر، في منتصف جادّة بن غوريون في حيفا، رغم أنف أعلام "الاستقلال" المنصوبة عنوةً فوق المقاهي، والمحروسة بكاميرات المراقبة!

"المواطَنة،" إذن، هي الساحة التي تدور بين رحاها مواجهتُنا الدائمةُ والبنيويّةُ مع الصهيونيّة، مؤكّدين دومًا أنّ مواطَنتَنا هذه مشتقّةٌ من وطننا، من بقائنا فيه وانتمائنا إليه وحقِّنا عليه، لا من مكارم "أخلاق" الحركة الصهيونيّة وإسرائيل؛ ومصرّين دومًا أنْ لا تعايشَ بين قيم العدالة والسلام والمساواة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان، وبين الصهيونيّة فكرًا وممارسة. فالصهيونيّة تقوم على أنّ هذا الوطن كان بلا شعب، وتقوم أيضًا على "العمل العبريّ،"[4] وعلى ضرورةِ "تخليص الأرض" من العرب، وعلى أنّ العرب الموجودين هنا طارئون وغيرُ منتمين إلى فلسطين ولا عمقَ حضاريًّا وتاريخيًّا لوجودهم هنا.[5]

ومن هنا أيضًا أهميّةُ "الاشتباك الثقافيّ"؛ أيْ إرغام الصهيونيّة على التعاطي مع الإنسان الفلسطينيّ والأدب الفلسطينيّ والثقافة الفلسطينيّة. وكلّما صعّدنا نضالَنا من أجل حقوقنا أجّجْنا من تناقض الصهيونيّة مع أبسط القيم الكونيّة والديمقراطيّة، وأمطْنا اللثامَ عن وجهها العنصريّ الشوفينيّ وعن جوهرها الرجعيّ الاستعماريّ.

وعلى هذا المنوال، يُجنّ جنونُ وزيرة الثقافة العنصريّة حين تُقرأ قصيدةٌ لمحمود درويش في مهرجان، فتنسحب منه بفظاظة. وتحاول هذه الوزيرةُ حجبَ التمويل الحكوميّ عن المسارح والمؤسّسات الثقافيّة الفلسطينيّة العربيّة لأنّها تنتمي إلى هموم شعبها وروايتِه الوطنيّة، ولأنّها "غير موالية" للدولة وليهوديّتها.

***

من الأهميّة بمكانٍ، في هذا الصدد، أن نوضحَ أنّ الفلسطينيّين داخل فلسطين 48، ومنذ سبعين عامًا، يقاطعون، بمحض إرادتهم، أكثرَ من ثلث ميزانيّة الدولة المرصودة لوزارات الحرب ("الدفاع") والخارجيّة والهجرة. ولكنّنا لا نستطيع مقاطعةَ وزارة الصحّة أو التعليم أو الثقافة، بل على العكس: نناضل لانتزاع حقوقنا منها. وفي وثيقة "مبادئ ومعايير تطبيق المقاطعة الأكاديميّة والثقافيّة لإسرائيل من قِبل الجماهير الفلسطينيّة في أراضي العام 1948،"[6] وكنّا قد وضعناها سنة 2012، جاء تحت باب "خصوصيّة فلسطينيّي 48" ما يأتي:

"لا يمكن في الوقت الحاليّ مقاطعةُ مؤسّسات الدولة التي تقدِّم خدماتٍ لدافعي الضرائب (صحّة، تعليم، خدمات اجتماعيّة، خدمات ثقافيّة، إلخ). إنّ هذه الخدمات تُعتبر حقًّا لفلسطينيّي 48، كدافعي ضرائب، كما كانت بالنسبة للسّود في جنوب أفريقيا تحت الأبارتهايد".

وجاء كذلك:

" كما في تجارب الهند وجنوب أفريقيا وغيرها، لا يوجد تناقضٌ بين دعوة المجتمع المدنيّ الدوليّ لمقاطعة إسرائيل ومؤسّساتها المتواطئة، و[بين] عدمِ قدرة مواطني 48 على مقاطعتها أو على مقاطعتها بالدرجة نفسها في ظل نظام الأبارتهايد القائم."

في العقديْن الأخيريْن تطوّرت مصادرُ دعم فلسطينيّة وعربيّة للثقافة الفلسطينيّة في أراضي 1948. ولكنها لم تزل متواضعةً ومحدودةً وغيرَ قادرة على تلبية كلّ الاحتياجات وتمكيننا من الاستغناء عن التمويل الحكوميّ الإسرائيليّ، الذي غالبًا ما ننتزعه بكرامةٍ كمواطنين أصحابِ حـقّ. لكنْ بقيت الإشكاليةُ الكبرى في مجال السينما: فقد جرى تعديلُ القانون بحيث يُشترط ذلك الدعمُ الحكوميّ بذكر وزارة الثقافة الإسرائيليّة ودمغُ الفيلم كـ"فيلم إسرائيليّ" (كما حدث مع فيلم أمور شخصيّة) وإنْ كانت قصّتُه فلسطينيّةً ومخرجُه وطاقمُه وكادرُه فلسطينيّين كلَّهم! هذا من جهة.

ومن جهةٍ أخرى، فإنّ البديل، الوحيد تقريبًا، للتمويل الحكوميّ الإسرائيليّ، والمتاحَ أمام المخرجين السينمائيّين الشباب مِن فلسطينيّي 48، هو تمويلٌ مصدرُه أنظمةٌ عربيّةٌ تطبِّع مع "إسرائيل" سرًّا وعلانيةً، وأبرزُها النظامُ القطريّ. والثمن السياسيّ والأخلاقيّ لهذا التمويل معروف، وهو سكوتُ المثقفين والمبدعين عن تطبيع تلك الأنظمة وتواطُئها مع "إسرائيل" ضدّ القضيّة الفلسطينيّة وضدّ حركات المقاومة العربيّة. وفي بعض الأحيان تغطّي تلك الأنظمة تطبيعَها بالفتات الذي تمنحه فلسطينيّي الداخل.

وفي كلّ الأحوال، نأمل أن تقوم صناديقُ ومؤسّساتٌ عربيّة مستقبلًا برصد موارد أكبر لدعم السينما الفلسطينيّة في أراضي 1948، بمعزل عن الأنظمة العربيّة المطبّعة.

إنّ موقعَنا يقتضي، أحيانًا، أن نتجرّع "عصارةَ المأساة" كي نصلَ إلى "مشتل الأحلام عند منابع السيل،" كما فعل شاعرُنا توفيق زيّاد؛ أو أن نتنازل عن "النحاس المصدّي،" كما فعلت "أم الروبابيكيا،" حفاظًا على "الكنوز."

وفي هذا الإطار، قد يجتمع رئيسُ بلديّة عربيّ، مثلًا، مع وزير المواصلات الإسرائيليّ (الذي كان جنرالًا في الجيش) لكي ينتزعَ حقًّا لبلدته. وقد يجتمع نائبٌ عربيّ في البرلمان (الكنيست) برئيس الحكومة لدرء قانون عنصريّ، أو لطرح قضايا ومطالب. وقد يجلس طالبٌ جامعيّ عربيّ في حافلةٍ تُقلّه إلى الجامعة إلى جانب جنديّ إسرائيليّ. لكنْ، ولئلّا يُساءَ الفهمُ، فإنّ لدينا ضوابطَ لهذه العلاقات:

فنحن نميِّز، مثلًا، بين لقاءٍ ضروريّ يأتي في سياق انتزاع حقّ، ولقاءٍ يغلب عليه طابعُ العلاقات العامّة ويهدف إلى تبييض وجه السياسة العنصريّة الإسرائيليّة. ونميِّز بين ظهور فنّان فلسطينيّ على مسرح إسرائيليّ كتحدٍّ للصهيونيّة واشتباكٍ معها، وبين تمثيل فنّان فلسطينيّ لدولة إسرائيل في نشاطٍ دعائيّ في الخارج[7] بغيةَ "أنسنة" دولة الاحتلال والعنصريّة.

                                                          (الصورة لمحمد بدارنة)

إنّ سياقنا السياسيّ والقانونيّ يُملي علينا ممارسةً وخطابًا سياسيّيْن مغايريْن لِما هو متاحٌ في العالم العربيّ، يتّسمان بالانتماء الوطنيّ الناصع وغير الخاضع للمساومات الإسرائيليّة من جهة، وبعدم التورّط بما لا طاقة لنا به من جهةٍ ثانية. فنحن، على سبيل المثال، نحرص على أن يكون نضالُنا مدنيًّا وشعبيًّا، لا عسكريًّا. ولا ندعو مثلًا إلى "محو إسرائيل من الخارطة" بل إلى "كنس الاحتلال وتفكيك حالة الأبارتهايد." ولا نقول "العدوّ الصهيونيّ" بل نقول إنّ الصهيونيّة عدوٌّ لنا لأنّها تعادي وجودَنا وحقوقَنا في وطننا.

وعلى أشقّائنا في العالم العربيّ أنْ يَفهموا أنّنا لا نفعل ذلك استرضاءً لإسرائيل وللصهيونيّة، بل حفاظًا على مناعة جماهيرنا من الصهيونيّة. فالاقتصاد الفلسطينيّ في الداخل [المقصود داخل فلسطين 48 ــــ الآداب] هشٌّ وتابعٌ تمامًا للاقتصاد الإسرائيليّ. وإذا كلّفْنا أهلَنا أكثرَ من وسعهم وخرجنا عن توازننا السياسيّ الدقيق، فربّما حظينا بتصفيقٍ حارٍّ عبر بعض الفضائيّات العربيّة، ولكنّ النتيجة ستكون انزلاقَ كثيرين إلى أحضان الصهيونيّة لضمان لقمة عيشهم أو مكانِ عملهم.

***

هذا هو واقعُنا، وهذه هي الظروف الدقيقة التي نناضل ضمنها، والتي قد تلتبس حيثيّاتُها على المُتابع اللبنانيّ أو المصريّ، أو على الفلسطينيّ نفسه في أراضي العام 1967 وفي الشتات. ومن الأهميّة بمكانٍ في هذا الصدد أن نقرأ التطوّرَ الكبيرَ في موقف جريدة الأخبار اللبنانيّة، على سبيل المثال، التي اتّخذتْ موقفًا ضدّ أمسية الشاعر محمود درويش في حيفا سنة 2007، بينما رعت زيارةَ الفنّان محمد بكري مؤخّرًا إلى بيروت.[8]

وبحكم موقعنا، أيضًا، نتحالف ونتعاون مع يهودٍ معادين للصهيونيّة. وهؤلاء قلّةٌ قليلةٌ كمّيًّا في المجتمع الإسرائيليّ، لكنّهم قطبٌ مؤثِّرٌ نوعيًّا في الحيّز الثقافيّ والأكاديميّ. وقد يُفاجأ البعضُ بأنّ الأكثريّة الساحقة للمحاضرين الجامعيّين الذين يجاهرون بدعم المقاطعة الأكاديميّة هم من هؤلاء اليهود المناوئين للصهيونيّة،[9] في حين يرتضي بعضُ المحاضرين العرب لعبَ دور "ورقة التوت" لتبييض وجه الجامعات الإسرائيليّة في المحافل الأكاديميّة الدوليّة.

لقد جاء في الوثيقة الختاميّة التي أصدرها مؤتمرُ "المقاطعة وفلسطينيّو الـ1948 ــــ بين الأصداء الدوليّة والسياقات المحلية"[10] (الناصرة، شباط 2016) ما يأتي:

"إنّ المسعى الأساسيّ لناشطي حركة المقاطعة في الداخل هو تحويلُ موقعهم الخاصّ من نقطة ضعفٍ، حاولت المؤسّسةُ الإسرائيليّة استغلالَها لمحاربة حركة المقاطعة، من خلال برهنة ’ديمقراطيّة‘ دولة الاحتلال والقمع والعنصريّة، إلى نقطة قوّة ودليلٍ ملموسٍ على الجوهر العنصريّ للنظام الإسرائيليّ حتى تجاه مَن يحملون المواطَنة الإسرائيليّة. كما يسعى النشطاءُ في أراضي العام 1948 إلى الشراكة والتشبيك مع نشطاء ومثقفين وأكاديميين يهود معادين للصهيونيّة، لدحض المحاولات الإسرائيليّة لدمغ حركة المقاطعة بـ ’معاداة السامية‘."

والحقيقة أنّ موضوعة "المقاطعة" في حالتنا مركّبةٌ جدًّا،[11] وتعجّ بالتفاصيل التي كثيرًا ما تكمن فيها الشياطين. فالنشاط الذي قد يكون شرعيًّا ومطلوبًا في الناصرة وأمّ الفحم وحيفا قد يكون، هو ذاتُه، نشاطًا تطبيعيًّا مرفوضًا في بيروت أو برلين أو رام الله نفسِها. إذ يمكننا في الداخل [فلسطين 48]، مثلًا، أن نلتقي وننشطَ مع قوى يهوديّةٍ مناهضةٍ للاحتلال في أراضي العام 1967، لكنْ لا موقفَ واضحًا لديها في تأييد حقّ العودة، ثمّ نستغلَّ هذا الاحتكاكَ أو هذا "الاشتباكَ" لاستقطابها إلى جانب قضايانا العادلة. وهذا جانبٌ نعتقد أنّه في صلب دورنا السياسيّ كجزءٍ من الشعب الفلسطينيّ ذي الاحتكاك اليوميّ بالمجتمع الإسرائيليّ وبخواصره الرخوة، خلافًا لسائر أجزاء شعبنا.

ولدينا اجتهاداتٌ ومفارقاتٌ كثيرة أخرى، تداني العبثَ في بعض الأحايين، وينطبق عليها مثلُنا الشعبيّ: "كثر الشدّ بيرخي." فبعضُ القوى السياسيّة في الداخل تصرِّح بأنّها ترفض أيَّ حوار وأيَّ احتكاكٍ سياسيّ بالإسرائيليّين، لكنّها غالبًا ما تنخرط في تحالفاتٍ محليّةٍ تفضي إلى ظواهر مخالفة لتصريحاتها: مثل حالة رئيس بلديّة الناصرة الحاليّ، الذي يهادن ويداهن السلطة الإسرائيليّة، ولكنّه كان قد انتُخب بتأييدٍ من أحزابٍ قوميّةٍ وإسلاميّة.

إنّ توسيعَ الفجوة بين الموقف المعلن (تجاه العالم العربيّ) والممارسة الفعليّة (على أرض الواقع في داخل فلسطين 48) يؤدّي في نهاية المطاف إلى زعزعة الثقة وتعميق البلبلة وخلط الأوراق حول دور فلسطينيّي الداخل. وكثيرًا ما يقوم الفلسطينيُّ المهمَّشُ في الداخل بإعادة إنتاج القوالب النمطيّة التي يصنعها مركزُ القوّة العربيّ لنا وعنّا ("أبطال مقابل خونة")، تمامًا كما يحدث مقابل مركز القوّة الإسرائيليّ ("معتدلون مقابل متطرّفين"). ونحن، في معظمنا، لسنا بأبطالٍ ولا خونة.

ومثلما أنّنا لا نطلب أن نَفرضَ معاييرَنا على العالم العربيّ أو نحمِّله أوزارَ خصوصيّتنا وظروفنا الاضطراريّة؛ فحريٌّ بالعالم العربيّ أن يَفهمَنا ويقْبلَنا كما نحن، وألاّ يَفرض وصايتَه علينا.

***

هذا غيضٌ من فيض!

أما بعد، فسنبقى نردّد مع هند الباقية في وادي النسناس، قبل أن يُسدل الستار:

"يا أهل البلد، يا أهل البلد! حكايتي ما انتهت، والعمر بعد فيه مَتَكِه،[12] وبعد عندي كنوز، وعندي ذكريات، وعندي ولادي، وحكايات.

يا حبايبي. بس سلّموا لي عليه، سلّموا لي عليه، وقولوا له: هند الغالية، ترعى عزّ وتقعد غزّ، مثل جبالنا العالية.

زاروني والاّ ما زاروني، أنا قاعدة. وهاي قعدة."

فلسطين

 

[1] للاستزادة حول أبرز محطّات فلسطينيّي 48 النضاليّة: http://arab-education.org/?p=1038

[2] لغسّان كنفاني دراستان لعبتا دورًا طليعيًّا في رصد هذه الحالة. الأولى، أدبُ المقاومة في فلسطين المحتلّة (بيروت: دار الآداب، 1966). والثانية، الأدب الفلسطينيّ المقاوم تحت الاحتلال (بيروت: مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، 1968). إضافةً إلى كتاب الناقد المصريّ غالي شكري، أدب المقاومة (القاهرة: دار المعارف، 1970).

[3] سعيًا إلى استدراج شبابنا إلى خدمة العسكريّة في جيش الاحتلال أو في ما يسمّى "الخدمة المدنيّة،" ومن أجل قوننة التمييز العنصريّ، تمنح السلطاتُ الإسرائيليّة خرّيجي الجيش (الجنود المسرّحين) "أفضليّات" و"تسهيلات" في القبول لمعاهد التعليم العالي وأماكنِ العمل ومشاريعِ السكن وغيرها من الخدمات والأمور الحياتيّة. للاستزادة:  https://www.adalah.org/ar/content/view/1312  ، https://www.adalah.org/ar/content/view/901 .

[4] تشكّل مفاهيمُ مثل "العمل العبريّ" و"احتلال العمل" مدماكًا أساسًا في الفكر الصهيونيّ، أطلقته الحركةُ العمّاليّةُ العبريّةُ في فلسطين في فترة "الهجرة الثانية" (1914 ــــ 1904) بهدف دعوة اليهود إلى السيطرة على العمل في الميادين كافّةً استعدادًا لاستيعاب آلافٍ من المهاجرين الجدد الذين سوف يُجلبون إلى فلسطين، وكذلك بهدف السيطرة على أماكن العمل بعد إعلان الانتداب البريطانيّ على فلسطين. وفي السنوات الأخيرة قامت عدّة مبادرات صهيونيّة لإحياء فكرة "العمل العبريّ" وطردِ العاملين العرب واستبدالهم بعاملين يهود، وبلغ الموضوع أروقةَ المحاكم التي قضت بعدم قانونيّة هذه الإجراءات https://972mag.com/sorry-ben-gurion-israeli-court-says-hebrew-labor-is-i...  .

[5] يجدر التنويه هنا إلى تصريح لإميل حبيبي يقول فيه إنّ أحدَ الأسباب التي دفعته إلى كتابة رواية المتشائل كان التساؤل الساخر لأحد قادة حزب "مباي" يغئال ألون: "إذا كان هناك شعبٌ فلسطينيّ، فأين أدبُه وميراثُه الحضاريّ المتميّز؟" ومعروفٌ في هذا السياق قولُ غولدا مائير: "لا يوجد شعب فلسطينيّ."

[7] كما حدث في قضيّة المغنّية ميرا عوض ومشاركتها في أنشطة وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة http://www.pacbi.org/atemplate.php?id=357

 [8] مقال بيار أبي صعب عام 2007: http://www.al-akhbar.com/node/140741 ومقال إبراهيم الأمين عام 2017: http://www.al-akhbar.com/node/283947.

[9] من أبرزهم الدكتورة عنات مطر، المحاضرة في قسم الفلسفة بجامعة تل أبيب.    http://www.dirasat-aclp.org/arabic/files/Anat_Matar_Kitab_Dirasat_2010.pdf

[10] قدّمتُ في هذا المؤتمر مداخلةً بعنوان "معايير المقاطعة والتطبيع وتجربة لجنة BDS48"   https://www.facebook.com/BDS48/videos/1058815984174792

 [11] للاستزادة حول واقع المقاطعة وإشكاليّاتها في الداخل: https://goo.gl/hGSbNj

[12] "مَتَكِه" باللهجة العامّيّة الفلسطينية تعني: بقية، أو فائدة، أو طعمة.

رجا زعاترة

كاتب وناشط فلسطينيّ. مواليد حيفا (1978). درس الحقوق في جامعة حيفا، وترأّس الاتحاد القطْريّ للطلّاب الجامعيّين الفلسطينيّين في الداخل (2000 ــــ 2001). عمل محرّرًا في صحيفة الاتحاد (2004 ــــ 2011)، وناطقًا بلسان لجنة متابعة قضايا التعليم العربيّ (2002 ــــ 2015). عضو إدارة مسرح "الميدان" (2009 ــــ 2013). من مؤسّسي لجنة "BDS48" للمقاطعة في الداخل عام 2012، وأحد قادة النضال ضدّ تجنيد الشباب الفلسطينيّين في الداخل لجيش الاحتلال الإسرائيليّ. سكرتير الحزب الشيوعيّ في منطقة حيفا، وعضو المكتب السياسيّ للجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة.