في هذا المقال سنستعرض مسألتيْن إنسانيّتيْن قبل أن تكونا أخلاقيّتيْن، تعرّض لهما المجتمعُ الغربيُّ أثناء جائحة كوفيد-19. ففي خضمّ هذه الظروف الاستثنائيّة التي تمرّ بها البشريّة، لا بدّ من التفكير في معاييرَ أخلاقيّةٍ لا تُقدِّم السنَّ أو الاقتصادَ أو الثراءَ أو الواسطةَ على حياة البشر وكرامتِهم.
المسألة الأولى: التسوّقُ الهستيريّ
بعد إعلان حالة الوباء، وتضارُبِ الأخبار عن الخطوات المستقبليّة، ومن ثمّ خوفِ الناس من المجهول، هرع الكثيرُ من مواطني المملكة المتّحدة إلى الأسواق لشراء كمّيّاتٍ كبيرةٍ من السلع الغذائيّة واللوازمِ البيتيّة وأدواتِ التنظيف. وأكثرُ ما ركّز المتسوِّقون على شرائه كان مناديلَ الحمّام الورقيّة؛ ما دفع الكاتبةَ الإخباريّةَ كلير سيبثورب إلى التساؤل: "فيروس كورونا؛ لماذا ذُعْرُ الشراء ولماذا المناديلُ الورقيّة؟"[1] مشيرةً إلى رأي الخبير في العلوم السلوكيّة في جامعة كلّيّة لندن، الدكتور ديميتريوس تسيفريكوس، وهو أنّ المرء يميل إلى شراء ورقِ مراحيض بكثرةٍ زمنَ الأزمات نتيجةً لأمريْن:
- صلاحيّة استخدامه مدّةً أطولَ من صلاحيّة موادّ غذائيّةٍ كثيرة؛
- وظهوره "الكبير" أمام المستهلِك بسبب المساحة الكبيرة التي يحتلّها على رفوف المحلّات ("فكلّما كبر حجمُه، شعرْنا بأنّه أهمّ!").
كذلك أشارت سيبثورب إلى رأي الأخصّائيّة النفسيّة كاثارينا ويتغنز التي تعتقد أنّه كلّما وقف الإنسانُ في المتْجر أمام رفوفٍ فارغةٍ، "ظنّ أنّ البضاعة ستنفد، فيشتري أكثرَ بكثيرٍ ممّا يحتاجُه."
هذا الذعر الذي أصاب الناسَ، بمختلف مستوياتهم التعليميّة والثقافيّة، أدّى إلى أزمةٍ حقيقيّةٍ في غضون أيّامٍ قليلة. فقد فرغت الأسواقُ من البضائع الضروريّة، وارتفعت الأسعارُ، فانهارت ثقةُ الناس - لاسيّما مَن نذروا حياتَهم لإنقاذ أرواحِ المرضى - بقدرة السوق على تلبية احتياجاتهم اليوميّة. وفي هذا الصدد، تداولتْ وسائلُ التواصل الاجتماعيّ ما جرى للممرِّضة الإنجليزيّة دونْ بيلبرو (51 سنةً) من جزعٍ وبكاءٍ حين شاهدت الهجومَ الجنونيَّ على شراء المستلزَمات اليوميّة، حتّى إنّها لم تجدْ ما تأكلُه من فاكهةٍ وخُضرٍ بعد أن أكملتْ خفارتَها في العناية الفائقة بالمستشفى طوال 48 ساعةً متواصلة. نُشر هذا الخبر في بعض الصحف المحلّيّة (راجع الصحيفة الشعبيّة ديْلي ميْل[2] بتاريخ 25/03/2020)، ما دفع إداراتِ الأسواق الكبرى إلى فرض إجراءاتٍ جديدةٍ للحدّ من شراهة الناس في الشراء والتقنين، واضطرّ الناسُ إلى الاصطفاف ساعاتٍ طويلةً منتظرين دورَهم للدخول إلى المتاجر للتبضّع، بحسب تقرير الصحافيّ فيليب وايتسايد لـسكاي نيوز.[3]
فيروس كورونا؛ لماذا ذُعْرُ الشراء؟
ما أثاره وايتسايد يدفعنا إلى التمعّن في مفهوم "الأنانيّة." ينقل الأب ميشال نجم عن جورج منزريذي، في كتابه الأخلاق المسيحيّة، أنّ الأثَرَة (الأنانيّة) نتيجةٌ لتغرّب الإنسان الكيانيّ، أيْ تغرُّبه عن الله.[4] ذلك أنّ تعلّقَ الإنسان بالله، والتزامَه الحقيقيَّ بالتعاليم السماويّة، يجعلان منظومتَه الأخلاقيّةَ تُحبِّب في كلِّ جميلٍ وتَنْهَى عن كلِّ قبيح، ويشجّعان على البذل والتضحية. فهناك وعودٌ من ربّ السماء بثوابٍ وحسنات، وبجنانٍ عرضُها السماواتُ والأرضُ أُعِدّت للمتّقين. أمّا البُعدُ عن الله، وعدمُ الالتزام الدينيِّ الحقّ، فيتركان الإنسانَ محكومًا بتنشئة المجتمع، التي غالبًا ما تكون محكومةً بالقانون الوضعيّ، الذي بغيابه تَظْهر الأثرةُ ويغيب إيثارُ الآخرين - - وهو ما جرت مشاهدتُه فعلًا.
إنّ تراجُعَ بريطانيا المطَّرِدَ في الاعتقاد الدينيّ منذ الحرب العالميّة الثانية (أكثرُ من نصف المجتمع يقول انْ "لا دينَ له")[5] قد يكون أحدَ العوامل التي أثّرتْ سلبًا أثناء الأزمة الحاليّة. لا يدّعي كاتبُ هذا النصّ بتاتًا أنّ كلَّ مؤمنٍ صاحبُ أخلاق، وإنْ كان هذا مطلوبًا من الإيمان والالتزامِ بالرسالة: فالإنسان في النهاية غيرُ معصوم، ودرجةُ تطبيق الإيمان على أرض الواقع (من خلال العمل الصالح والسلوك القويم) تتفاوت من إنسانٍ إلى آخر.
ولو راجعنا القرآنَ الكريم، فسنرى استخدامَه لفظ "الُمفْلحون" للّذين يُؤْثِرون الآخرين على أنفسهم، ولو كان بهم حاجةٌ أو خَصاصة: {وَٱلَّذِينَ تَبَوَّأوا ٱلدّارَ وَالْإِيمانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ ولا يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حاجَةً مِّمّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ ولَوْ كان بِهِمْ خَصَاصةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ}.[6]
إنّ سلوكَ أفراد المجتمع السليم في ظروف الأزمة يتمثّل في أن يؤمِّن كلُّ فردٍ منهم حاجاتِ عيشه الضروريّة، فيأخذَ منها ما يكفي للعيش، ويفكّرَ في بقيّة أفراد المجتمع لضمان بقاء النسيج المجتمعيّ السليم، بدلًا من أن يفكّر على طريقة "ومن بعديَ الطوفان"! فلو انتهج ذلك الأسلوبَ عامّةُ المجتمع، لعمّت الراحةُ النفسيّةُ والطمأنينةُ حتى في أحلك الظروف، عملًا بقوله تعالى: {وَتَعاوَنُوا عَلى ٱلْبرِّ وٱلتَّقْوَى ولا تَعاوَنُوا عَلى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوانِ}.[7]
المسألة الثانية: الحدُّ من تقديم الرعاية الصحّيّة إلى المرضى المُسنّين
القضيّة الأخلاقيّة الثانية التي تثيرها بعضُ التصرفات الغربيّة هي الالتفاتُ إلى معالجة صغار السنّ، ورفضُ معالجة ذوي الأعمار التي تتجاوز 70 عامًا. فبعد أن اجتاح الوباءُ إيطاليا، وتزايَدَ عددُ الإصابات بشكلٍ سريع، وتفاقَمَ عددُ الوفَيات على نحوٍ غيرِ متوقَّع، استُهلِك الكثيرُمن الموادّ الصحّيّة، ولم يعد في مقدور الأطقم الطبّيّة أن تُوفِيَ بواجباتها تجاه المرضى، ومسّتِ الحاجةُ إلى أجهزة التنفّس الصناعيّ. هنا أُخبر الأطبّاءُ الإيطاليّون، على ما تقول ممرِّضةٌ بريطانيّةٌ في مستشفى غافزّاني، بوجوب حجْبِ تلك الأجهزة المحدودة عن مرضى الفايروس الذين تزيد أعمارُهم عن 70 سنةً،[8]وانصبّ الجهدُ الطبّيُّ على الفئات العمريّة الأصغر سنًّا.
هنا نطرح جملةً من الأسئلة الأخلاقية: لماذا استُهدفتْ فئةٌ عمريّةٌ (ما فوق 70 سنةً) دون غيرها (72 سنةً وما فوق مثلًا)؟ أليس لتلك الفئة الحقُّ في الرعاية الصحّيّة كالآخرين، خصوصًا أنّ البلد بُنِيَ على أكتافها ووَصل بفضلها إلى ما وصل إليه من تقدّمٍ وازدهارٍ قبل هذه الجائحة؟ هل يحقُّ لصغار السن أن يَحْرموا الكبارَ حقَّهم في العيش؟
نحن، إذًا، أمام معضلةٍ أخلاقيّةٍ فريدة. نتفهّم وضعَ الأولويّات عند اتّخاذ القرار، ونتفهّم محدوديّةَ الأجهزة الطبّيّة، ولكنّ السؤال الملحّ الذي نكرّر طرحَه: على حسابِ مَن يُتَّخذ القرار؟!
هل يحقُّ لصغار السن أن يَحْرموا الكبارَ حقَّهم في العيش؟
في العام 2006، نشر الطبيبان غريغ نيمان وشارلين بابكوك في مجلّة طبّ الطوارئ الأكاديميّ مقالةً يتحدّثان فيها عن إمكانيّة تحوير جهاز التنفّس الاصطناعيّ (الإنعاش الرئويّ) بحيث يتمكّن أربعةُ أشخاص، لا شخصٌ واحدٌ فقط، من استخدامه.[9] اليوم، بعد 14 عامًا من سنوات الرخاء، لم يتمّ إيجادُ نظامٍ بديلٍ لمواجهة أزمة من هذا النوع؛ ما دفع جايسون كوتكي في 19/3/2020 إلى الحثّ على تنفيذِ ما اقترحه الطبيبان سنة 2006 في مواجهة فيروس كوفيد-19 لإنقاذِ ما يمكن إنقاذُه في هذا الوضع الكارثيّ.[10]
أصبح واجبًا، إذًا، فعلُ أيِّ شيءٍ ممكنٍ لإنقاذ الأرواح، بدلًا من جعل العمر سببًا لعدم تقديم الخدمة اللازمة. وهنا قد يتوجّب اتّخاذُ مبدأ "مَن يحتاج أولًا أحقُّ بتقديم الخدمة." وفي هذا الصدد نذكِّر بما ورد عن النبيّ الأكرم: "المؤمنون إخوةٌ تتكافأ دماؤهم."[11] فلعلّني أفهمُ من ذلك أنْ لا تقديمَ لأحدٍ على آخرَ بحسب العمرِ أو أيّ عاملٍ آخر؛ فتكافؤُ الدماء يعني تكافؤَ الأرواح، إذ ليس عدلًا التمييزُ بين المرضى، أيّهم يعالَجُ وأيّهم يُحرَم العلاجَ، وهم في ظروفٍ متماثلة!
ولا بأسَ، عند تناول معضلة "التفاضل في العلاج،" في أن نشيرَ الى روايةٍ تتناقلها بعضُ كتب الحديث: "مَن سَبَقَ إلى ما لم يسبقْه إليه مسلمٌ، فهو أحقُّ به." وهذا يعني أنّه إذا سبق أحدُهم إلى الجلوس في مكانٍ من المسجد، أو النزولِ في الرباط، وصدق عليه أنّه سبق إلى ما لم يسبقْ اليه مسلمٌ، فهو أوْلى بذلك المكان. وهذا بخلاف حقِّ الحيازة وحقِّ التحجير؛ إذ ليس قبل الحيازة والتحجير حقٌّ لأحدٍ في المحاز أو المحجر. وهذا يعني أنّ المحتاجَ إلى العلاج له السبقُ في ذلك.
هذا المبدأ يتوافق مع مبدأ التكافؤ، السابقِ الذكر. وتتجسّد هذه الفكرةُ في الإجراء الذي اتّخذه أميرُ المؤمنين عليّ، عليه السلام، إزاء رجلٍ مسنٍّ نصرانيّ كان يستجدي مساعدةَ الآخرين لعجزه عن العمل بسبب ذهاب بصره، إذ قال عليّ: "استعملتموه، حتى إذا كبر وعجز منعتموه!"[12] ثمّ أَمر بأن يُصرَفَ له من بيت المال. المغزى من هذه الإشارة هو أنّ المُسِنَّ يجب ألّا يُصرفَ النظرُ عن رعايته الطبّيّة؛ فلولا الجهودُ التي بذلها، هو وغيرُه من أفرادِ جيله، في خدمة أوطانهم، ولولا تضحياتُهم في مرحلةِ شبابهم، لما تنعّمنا بما نحن عليه اليوم.
***
إنّ المجتمعات ترتقي في الأزمات بحسب قربها من الله، روحيًّا ومعنويًّا وعمليًّا. وهذه دعوةٌ إلى محاربة النفس والهوى، وإلى العودة إلى الله؛ فهو الخالق وهو المبدِئ وهو المُعيد، وهو الطبيبُ الشافي، بيده المُلْك، وهو على كلّ شيءٍ قدير. أمّا الإدارةُ الحكيمة للقائمين على رأس النظام، فلها دورٌ كبيرٌ في نَظْم أمور العامّة، ومن ثمّ كسبِ ثقتهم، وإحلالِ الأمن والاطمئنان، ودفعِ الفوضى والارتباك. وأمّا موضوعُ تقديم الحالات المَرَضيّة بحسب العمر والوظيفة والوساطة، فأجدُه يصطدم ببعض معايير الإنسانيّة، وأوّلُها العدلُ والإنصاف. لذا، أحثُّ على اعتماد نظام تقديم الخدمة على حسب السَّبْق، والكلُّ سواسِية، لا أن يُقدَّمَ شخصٌ على آخر.
في المسألتيْن الآنفتَي الذكر، لا بدَّ من تسليط الضوء على الدور الرئيس للأخلاق من أجل تحقيق العدالة بين الجميع عند سنّ القوانين أو الإرشادات أو اتخاذِ القرارات، في حال الشدّة أو الرخاء. يجب أن تكون للأخلاق محوريّةٌ مقدّسةٌ، لا أن تكون آليّةً تعامليّةً فقط تذوب أمام الوصول إلى المصلحة.
إنّ غيابَ البعد الأخلاقيّ عند اتخاذ القرارات سيترك ظلمًا هنا أو هناك. لذا، أَهيبُ بالعلماء وذوي الاختصاص بحثَ هذه المسألة بشيءٍ من التفصيل. واللهُ من وراء القصد.
مسقط
[11] الشيخ علي النمازي، مستدرك سفينة البحار، الجزء 9، ص 126
[12] زهير الأعرجي، النّظام الصحّي والسّياسة الطبّيّة في الإسلام، ج 1، ص 63.