نقلتْها إلى العربيّة: جِنان الخَوْلي
بدأت الحكايةُ كلُّها في العام 1607، عندما أسّستْ "شركةُ فيرجينيا في لندن" أوّلَ مستوطنةٍ إنكليزيّةٍ في أميركا الشماليّة في جايْمستاون. هذه الشركة كانت مِلْكًا للطبقة البرجوازيّة الإنكليزيّة الساعيةِ إلى توسيع ثرواتها من خلال استعمار أراضٍ بعيدةٍ، على غرار الأمثلة المُرْبحة التي أرستها إسبانيا والبرتغالُ آنذاك. كان المخطَّطُ يقضي، ببساطة، بالسيطرة على الأراضي، واستعبادِ العمّال، بهدف استجرار الموارد، تمثُّلًا بما أفلح فيه الإسبانُ في معظم مناطق أميركا اللاتينيّة. بيْد أنّ العائقَ الأساسَ الذي واجه المستعمِرَ الإنكليزيَّ هو أنّ القبائلَ الأصليّةَ كانت بدوًا رُحّلًا، أو كان ترحالُها شبهَ دائم، بحيث صعُب استعبادُها بسبب قدرتها على الهروب والتحرّكِ بسهولةٍ في أراضٍ وعرةٍ وغيرِ مأهولةٍ إلّا قليلًا، خلافًا لما كانت عليه الحالُ في الولايات المتحدة الأميركيّة وكندا. وفي المقلب الآخر، كانت شعوبُ "الإنكا" في البيرو و"الأزتيك" في المكسيك إمبراطوريّاتٍ حضريّةً ومنظَّمةً إلى درجةٍ عالية، ما سهّل على الإسبان إيجادَ أنماطِ استغلالٍ اقتصاديٍّ أجبرتْ مئاتِ الآلاف من الشعوب الأصليّة على السّخرة في المناجم والسهول.
بقيتْ هذه الأنماطُ الإنتاجيّة، القائمةُ على الرقّ والسخرة، سائدةً. إلى أن قضت الأمراضُ على ما يقارب التسعين في المئة من الشعوب الأصليّة بحلول العام 1600، الأمرُ الذي أرغم المستعمِرين الإسبانَ والبرتغاليين (في البرازيل) على استقدام العبيد من أفريقيا. وقد قُدِّر عددُ الوفَيات، بحلول ذلك العام، بحوالى 56 مليون نسمة، في ما يُمْكن أن يشكّل أسوأَ إبادةٍ جماعيّةٍ في التاريخ البشريّ.[1]
في البدء واجه الإنكليزُ مشكلةَ إيجاد عمالةٍ قابلةٍ للاستعباد والاستغلال في الزراعة وسائرِ الأنشطة الاقتصاديّة. لكنْ، مع بداية العام 1619، جرى توثيقُ وصولِ أوّل رقيقٍ قادمٍ من أفريقيا إلى مستوطنة جايمستاون. وهذا الأمر مَهّد لنمط إنتاجٍ قائمٍ على العبوديّة، بدءًا بزراعة التبغ، ومن ثمّ زراعةِ القطن؛ ما شكّل قاطرةً لانطلاق الثورة الصناعيّة في إنكلترا، التي بدأتْ في أواخر القرن الثامن عشر، وأقلعتْ [فعليًّا] في القرن التاسع عشر.[2] وقد عمد الإنكليزُ إلى تعزيز الزراعات القائمة على عمالة الرقّ في مختلف أنحاء الكاريبي والهند. ويقدَّر الرقيقُ المستقدَمُ من أفريقيا إلى الأميركتيْن والكاريبي، في الفترة الممتدّة من القرن السادس عشر إلى العام 1807، بـ 12.5 مليون نسمة.
1619: وصول أوّل رقيقٍ من أفريقيا إلى جايمستاون، ممهِّدًا لنمط إنتاجٍ قائمٍ على العبوديّة، بدءًا بزراعة التبغ فالقطن
إذًا، شكّل عملُ هؤلاء الملايين من الرقيق، وملايينَ غيرِهم في المستعمَرات، حجرَ الأساس لتراكُم الثروات الذي سمح بانطلاق الثورة الصناعيّة في إنكلترا. فقد اعتمدتْ مصانعُ الأقمشة في ليفربول ومانشستر وبريستول وغيرِها على زراعة القطن التي يعمل فيها الرقيقُ جنوبَ الولايات المتّحدة الأميركيّة. هذا، وأسّستْ عمالةُ الرقّ في المستعمرات، وأعمالُ السخرة في العاصمة (الحاضرة)، ثورةً رأسماليّةً صناعيّةً برجوازيّة. من المهمّ ألّا ننسى هذه الوقائعَ، وذلك من أجل دحض المعتقدات السائدة عن "النموّ الاقتصاديّ على مراحل." فقد أثبتت التجربةُ التاريخيّةُ أنّ النموَّ الرأسماليّ عمليّةٌ معقّدةٌ، وغيرُ منتظمة، ومتناقضة، ولا تجري في خطٍّ واحد. وهذا ما سلّم به العديدُ، بمن فيهم ماركس وأنغلز ولينين ولوكسمبورغ ودايفيد هارفي وسمير أمين وكاراتاني وخوسيه كارلوس مارياتيغي.
الأميركيّون الأفارقة في الولايات المتّحدة الأميركيّة
بقيت العبوديّةُ، كمؤسّسةٍ اجتماعيّة-اقتصاديّة وسياسيّةٍ وقانونيّة، مترسّخةً في قوانين الولايات المتحدة الأميركيّة وأعرافِها منذ الاستقلال سنة 1776 إلى ما بعد الحرب الأهليّة بين العاميْن 1861 و1865. لم يُساوَ السودُ يومًا بالبِيض، ودأبت القوانينُ التمييزيّةُ على حرمانهم المساواةَ في مجالات التعليم والرعاية الصحّيّة وفُرصِ العمل والسكن والاستدانةِ والقروض. إلّا أنّ هذا التمييزَ العنصريّ بدأ في التراجع تدريجيًّا، لكنْ من دون أن يُلغى تمامًا، بعد سنّ مجموعةٍ من القوانين بين العاميْن 1965 و1968. فالإقصاء الاجتماعيّ-الاقتصاديّ والسياسيّ، الذي فرضتْه النخبةُ الحاكمةُ من الحزبيْن الديمقراطيّ والجمهوريّ والطبقةِ البورجوازيّةِ الحاكمة، عنى أمرًا واحدًا: استخدامَ القوّة القاهرة وسيلةً للسيطرة الاجتماعيّة.
بمعنًى آخر، "عنصرتِ" النخبةُ والطبقةُ البرجوازيّةُ سلطتَهما، منتهكتيْن بذلك المبدأَ الأساسَ الذي تقوم عليه ديمقراطيّتُهما الليبيراليّةُ-البورجوازيّةُ، ألا وهو: المساواةُ أمام القانون، وأنّ كلَّ الناس يولَدون أحرارًا. وهذا من أساسيّات حقوق الإنسان.
على هذا المنوال، لم تستكملْ ديمقراطيّةُ الولاياتِ المتحدة، البرجوازيّةُ، ثورتَها الليبراليّةَ بعدُ. وهنا نستطيع، على ما أعتقد، أن نفهَم بشكلٍ أفضلَ المنعطفَ الحاسمَ الذي أحدثتْه الجريمةُ الوحشيّةُ التي أوْدت بحياة جورج فلويْد. فقد تزامنتْ هذه الجريمةُ مع أسوأ أزمةٍ اجتماعيّة-اقتصاديّة منذ "الكساد الأعظم" في العام 1929. إذ أدّت جائحةُ كوفيد-19 إلى فقدان أكثر من 20 مليون أميركيّ عملَهم، أيْ ما يقارب 20% من إجماليّ قوّةِ العمل. وهذه الجائحة فاقمت العداواتِ الطبقيّةَ والعرقيّة، ولاسيّما أنّ الأميركيّين من أصلٍ أفريقيّ واللاتينيّين هم الفئتان الأكثرُ تضرّرًا من الجائحة ومن تداعياتها الاجتماعيّة أيضًا. فالفقراء من هاتيْن الفئتيْن لم يتمكّنوا، إلّا بشكلٍ محدودٍ جدًّا، من الاستفادة من النظام الصحّيّ والمستشفيات؛ وهذا ما يفسِّر سببَ الارتفاع في نسبة الوفَيات في صفوفهم مقارنةً بالبِيض الأثرى. وهذه اللامساواةُ في الحصول على الرعاية الصحّيّة فضحتْ وجهًا آخرَ من ديمقراطيّةِ الولايات المتحدة، "غيرِ الليبراليّة."
أميركا تحتلّ المرتبةَ الأولى لناحية عددِ المساجين. ومن مجموع 2.2 مليون سجين، 38% أميركيّون من أصلٍ أفريقيّ
أتت وفاةُ فلويْد على خلفيّة عاملٍ تاريخيٍّ مركّبٍ آخر. فالولاياتُ المتحدة تحتلّ المرتبةَ الأولى على وجه الأرض لناحية عددِ المساجين؛ فعلى الرغم من أنّها تشكّل 4% فقط من عدد سكّان العالم، فإنّها تشكل 22% من مجموع السجناء في العالم. في سبعينيّات القرن العشرين، كان عددُ المساجين يقلّ عن 300 ألف، لكنّه ارتفع منذ ذلك الحين ليصلَ إلى أكثر من 2.2 مليون سجين، بالإضافة إلى 4.5 مليون شخص يخضعون للتجربة والمراقبة (probation) أو لإطلاق سراحٍ مبكّرٍ مشروطٍ (parole). ومن مجموع الـ2.2 مليون سجين هؤلاء، 38% هم أميركيّون من أصلٍ أفريقيّ، مع أنّ الأخيرين لا تزيد نسبتُهم في الولايات المتحدة عن 12.1% من إجماليّ عدد السكّان؛ أيْ ثمّة 5 سجناء سود مقابل سجين أبيض واحد.[3] وهذا التباينُ الصارخُ في معدّل السجناء على حساب السود يُظْهر أنّ النظامَ القانونيَّ المُعَنْصَر منذ إعلان إلغاء الرقّ يواصل تلويثَ جهاز العدالة والشرطة حتى يومنا هذا.
هكذا يواصل النظامُ في الولايات المتحدة استعمالَ العنف وسيلةً من وسائل السيطرة الاجتماعيّة، بدلًا من لبرلة هذا النظام ودقرطتِه من خلال إلغاء المظالم المرتكبة طوال الأعوام الأربعمئة الأخيرة. وهذا يفسِّر لماذا تتصرّف الشرطةُ وكأنّها قوةُ احتلالٍ في أحياء السود الفقيرة، مسيئةً معاملةَ السكّان المدنيّين.
هل هذه ثورةٌ ليبراليّةٌ، أمْ منعطفٌ حاسمٌ، أمْ ماذا؟
في النهاية يمكن أن يتساءلَ المرء إنْ كانت هذه لحظةً تحوّليّةً، أمْ منعطفًا حاسمًا؟ الإجابةُ صعبةٌ، بعد ما لاحظتُه مؤخَّرًا.
فالمظاهرات الواسعة التي اجتاحت أكثرَ من 500 مدينةٍ وبلدةٍ في الولايات المتحدة الأميركيّة، وسار فيها الملايينُ شاجبين الجريمةَ النكراءَ، ورافعين شعاراتٍ تقدميّةً تطالب بالعدالة الاجتماعيّة والمساواةِ في الأجر والرعاية الصحّيّة الشاملة وإصلاحِ عمل الشرطة، وغيرها؛ هذه المظاهرات تصبُّ في جوهرها ضمن حدود "الثورة الليبراليّة،" هذا إذا تحقّقتْ جميعُ تلك الأهداف. لكنْ أخشى أن لا يكون الوضعُ على هذا النحو.
فالطبقة الحاكمة، بمثقّفيها العضويّين، تختزل المشكلةَ بالشرطة وبإصلاح الشرطة فقط. ومع أنّ مطلب "إصلاح عمل الشرطة" مهمّ، فإنّ الشرطة كامنةٌ في صلب نظامٍ اجتماعيّ- اقتصاديّ [متكامل] يوسِّع الانقساماتِ الطبقيّةَ المعنصَرةَ أكثرَ من أيّ وقتٍ مضى. وتركيزُ الثروات، وعدمُ حصول الجميع على الرعاية الصحّيّة بشكلٍ متساوٍ، هما معوِّقان حقيقيّان في وجه أيّ تغييرٍ ليبراليّ.
وعليه، فإنّ ما نشهدُه اليوم هو لبرلةٌ منقوصةٌ ذاتُ قيمةٍ تحويليّة (أو تغييريّةٍ) بسيطة.
لربّما علينا أن ننتظرَ إلى المرّة القادمة!
كين - نيوجيرزي
[2] للاطّلاع على عمل ممتاز عن تاريخ القطن، والاستعباد، والتصنيع، أنظروا:
Sven Beckert, Empire of Cotton: A Global History (New York: Vintage Press), 2015