باحثة وناشطة يساريّة من بيروت والجنوب. تعمل في مجال التنظيم المدنيّ في العشوائيّات ومخيّمات اللجوء، كما تنشط في التنظيم الطلاّبيّ في الجامعات.
ندوة شارك فيها (ألفبائيًّا): بسام موسى، رانية المصري، سينتيا الخوري
أدارتها: جنى نخّال
جنى: هدفنا هنا فتحُ النقاش في موضوع الجنس والجنسانيّة؛ فهناك نقصٌ في معالجة موضوعٍ مهمٍّ كهذا، وبخاصّةٍ من زاوية نقديّة وسياسيّة وأنتروبولوجيّة، من دون أن نخلق "إكزوتيكيّةً" (نزعةً سحريّةً إبهاريّةً) معيّنةً للأجساد (كما نرى مثلًا مع جُمانة حدّاد)، أو من دون استخدام هذه الأجساد مادّةً "فضائحيّةً" في المجلّات. ننطلق، إذن، من السؤال: لماذا لا يتمّ الحديثُ عن الجنس والجسد بأشكال مختلفة عن الأشكال الواردة أعلاه؟ وكيف يشكّل النظامُ الرأسماليُّ البطريركيُّ نظرتَنا إلى الجنس والجنسانيّة؟
رانية: هل سنتكلم عن الجنس أمِ الجنسانيّة؟
جنى: هذا جزء من النقاش. أنا بدأتُ بطرح مصطلح "الجنسانيّة" (sexuality)، لكنّ هذه الكلمة غير موجودة أصلًا في اللغة العربيّة "الكلاسيكيّة." وإذ نستعملها، فإنّنا نَفرض مصطلحاتٍ أجنبيّةً خارجةً عن "تقليدِنا" الثقافيّ. ولكنْ هل استعمال مفردة "الجنس" كافٍ للتعبير عمّا نريده هنا؟ في رأيي أنّ استخدامَنا لمصطلح "جنس" يَحْصر نظرتَنا بـ"الفعل الجسديّ" وحده، في حين أنّنا نودُّ أن نتجاوز ذلك إلى علاقة الجسد بالمجتمع، وبالمفاهيم "المقبولة" و"غير المقبولة" الخاصّة بالجنس في هذا المجتمع. وعندما استعملتُ مصطلح "الجنسانيّة،" كان الأمر بالنسبة إليّ محاولةً للتعبير عن هذه الأشياء جميعِها. فهل تروْن ذلك صحيحًا؟
بسّام: إذا أردنا الدخول إلى حَرْفيّة معاني الكلمات، فقد نحصر أنفسَنا ضمن أطرٍ لم تعد مناسبةً زمنيًّا. لا أعتقد أنّ العالم معزول، أو أنّ مفاهيمَه معزولةٌ بعضها عن بعض. كما أنّني لا أتصوّر أنّ المفهوميْن "الغربيّ" و"الشرقيّ" مختلفان في ما يتعلّق بالجنس؛ فالعالمان كلاهما، الشرقيُّ والغربيُّ، مبنيّان على "النموذج" البطريركيّ، الذي يَعتبر الجنسَ جزءًا من أدوات تنظيم الإنتاج، وجزءًا من تنظيم العلاقات الاجتماعيّة وحصرِها والتحكّمِ بها وتحديدِ أشكالها ضمن هذا النظام. فمثلًا، لم تتوقّف "العذريّة" عن أن تكون موضوعًا مهمًّا في بعض أرجاء "الغرب،" خلافًا لما يتوهّمه البعض.
عندما وقع الاستعمارُ في أفريقيا والشرق الأوسط، أدّت نظرةُ الغربيّين الاستشراقيّة إلى الشعوب المستعمَرة إلى خلق الجسد الآخر الإيكزوتيكيّ. غير أنّ الثقافات المختلفة تتشابه إلى حدٍّ كبير في ممارستها وعلاقتها بالجنس. ومن هنا، فإنّنا حين نستخدم مصطلح "الجنسانيّة" لا "نستورد" أفكارًا.
جنى: حسنًا، نحن متّفقان على أنّ النقاش لا يدور حول مضمون الكلمة وجوهرها، بل حول الكلمة ذاتها. هل تعتقدون أنّ بإمكاننا استعمالَ هذه الكلمة "غير العربيّة" في إطار عربيّ؟
بسّام: أميلُ إلى عدم اختراع كلمات جديدة.
جنى: أتفضّلون استعمال تعبير واضح للجميع، مثل "الجنس واستعمالاته ومقارباته الاجتماعيّة،" بدلًا من "الجنسانيّة"؟
سينتيا: لا نستطيع أن نزيل هذه الكلمة من قاموسنا. فليس ضروريًّا كلّما تكلّمتُ عن "جنسانيّاتِ" مجموعاتٍ ما أن أردّد:َ "الجنس واستعمالاته ومقاراباته عند هذه المجموعات..."! أنا أستعمل كلمة "جنسانيّة" كثيرًا في عملي، وأخترع مصطلحاتٍ أخرى أيضًا.
جنى: أنا أيضًا "أخترع" الكلمات في عملي، وأفسّر ما أعني بها في سياقاتها المحدّدة. فحين أصنّف نفسي "منتِجةً" للمعرفة، أو "مسهِّلةً لإنتاجها وإيصالها،" فمن الضروريّ أن أبسِّطَ المفاهيمَ التي أستعملُها. مثلًا، لا أستسيغ الترجمات "الرسميّة" العربيّة غير المفهومة لمصطلح gentrification، وأصبحتُ أترجمه بالـ"التهجير القسريّ ــــ الطبقيّ." في كلّ الأحوال، اتّفقنا، إذًا، على استعمال مصطلح "الجنسانيّة،" وبقي علينا توضيحُ سياقه المستعمل في نقاشنا.
رانية: أوافق على تفسير سينتيا، لأنّ هذه هي ترجمة الكلمة التي أعرفها بالإنكليزيّة. وأعتقد أنّ على مَن يقرأ كلمة "الجنسانيّة" أن يفهمَها بهذا الشكل: إنّها علاقة الشخص بجسده/ها، وعلاقة الهويّة الجسديّة بالآخر.
سينتيا: وتخضع هذه الهويّة لتغييراتٍ مستمرّة، بحسب مَن تتمّ معه/ـها الممارسةُ الجنسيّة (أو لا تتمّ). فهذه الهويّة غير ثابتة، بالنسبة إليّ.
جنى: نعود إلى سؤالنا الأساس إذًا: "كيف يقولب النظامُ الرأسماليُّ البطريركيُّ علاقتَنا بالجنس مفهومًا وممارسةً وكلامًا؟" كيف يرى كلٌّ منكم أشكالًا / تمظهراتٍ لهذه القولبة؟
سينتيا: أوّلُ شكل هو تغييب الثقافة الجنسيّة. وهنا نتكلّم من ناحية الجسد فقط، كما في قولنا: "أنا صحّ، وهو غلط. أنا لازم أبقى عذراء. عيب. ممنوع..." هناك قمعٌ هائلٌ متعلّق بما يمكن أن نفكِّر فيه، وكيف نفكّر فيه، ولا سيّما كيف نفكّر في الجنس. نريد أن نتأكّد من أنّ الآخرين مثلُنا كي لا نحسَّ بأنّنا على خطأ. فأنا أوّلًا أصنِّف مَن هو مختلفٌ عنّي، ثمّ أريد منه أن يصبح مثلي.
بسّام: ويتعلّق ذلك بخلق خطابٍ مهيمِن، وهو ما يتطلّب خلقَ ضوابط ليستطيع الناسُ الانتماءَ إليه. وجزءٌ من هذا هو كيفيّة قولبة المنظور. فخلق الـ" mainstream" يعني أوّلًا أن يشبهَ بعضُنا بعضًا.
رانية: لنعُد إلى المسألة الأساس: النظام الرأسماليّ. جنى قالت "النظام الرأسماليّ البطريركيّ." لا أعرف إذا كان النظامُ الرأسماليّ "مضطرًّا" إلى أن يكون بطريركيًّا. النظام الرأسماليّ ينظر إلى أفراد المجتمع في وصفهم محضَ مستهلكين. وعليه، فإنّه يستخدم الجنسَ كما يَستخدم أيَّ شيء آخر: للبيع، للتسليع. وليس من الضروريّ أن يتناقض التسليعُ مع الهويّة الجنسيّة. على العكس: الرأسماليّ يفكّر في أنّ اقتصاده قد يستفيد من تنوّع الهويّات الجنسيّة (هيتيروجنسيّة، ميتروجنسيّة، ...)* ويفكّر في استخدام هذه الفئات كلّها كمستلهكين، ولسانُ حاله: "أنتم أيّها الميتروجنسيّون تستطيعون لبسَ هذا، والآخرون يلبسون ذاك، إلخ." وهذا مناسبٌ تمامًا للنظام الاقتصاديّ الرأسماليّ.
جنى: وينطوي ذلك تحت مظلّة "الحريّات": حريّة أكثر = استهلاك أكثر.
رانية: الحريّة الجنسيّة [في النظام الرأسماليّ] موجودة. بل الصحّة الجنسيّة قد تكون موجودةً أيضًا، خصوصًا إذا ما نظرتِ إلى الصحّة الجنسيّة "كصناعة." أنا لا أرى أنّ الرأسماليّة، بتركيبتها وتصميمها، تريد أو تطمح إلى الوقوف ضدّ الجنسانيّة! وهذه إحدى أزمات الرأسماليّة بالمناسبة: إنّها لا تشجّع التفكيرَ النقديّ؛ فمبرِّرُ وجودها هو الآتي: لكي يكون هناك مستهلكٌ جيّد، فعليه ألّا يفكِّر.
ما يشجّع أيضًا على عدم التفكير هو "احترامُ" السلطة، أي الامتثالُ لها. هنا تجاوزْنا القولبةَ الجنسيّةَ ودخلنا في "القوقعة" الجنسيّة، التي تتجلّى في تعبيراتٍ من نوع: "الآن لا يمكنكِ أن ترتدي هذا، وهناك لا يمكنكِ أن تتصرّفي هكذا،..." والحقّ أنّ الفلسفة الرأسماليّة التي تريد أن تشجّعَنا على أن نكون مستهلكين هي التي تقوم بهذا العمل، وليس تركيبة الرأسماليّة أو بنْيتها في حدّ ذاتها.
جنى: إذًا، موقفُ الرأسماليّة من البطريركيّة والجنسانيّة يمكن أن يتغيّر بحسب تغيّر الشروط المحيطة والحاجات. فقد تشجِّع على تحرّر المرأة في موقعٍ معيّن (كمواقف جوستان ترودو في كندا مثلًا)، بينما تتّخذ موقفًا آخر في أماكنَ أخرى بهدف زيادة الاستهلاك.
رانية: لاحظي مثلًا أنّ المثليّات والمثليّين في أميركا حقّقوا إنجازاتٍ هائلة على مستوى حقوقهم في العقدين الأخيرين، بينما لم يحصل الملوَّنون والمكسيكيون والمسلمون وغيرُهم على أيٍّ من حقوقهم. حقوق المثليين والمثليّات، إذًا، ليست بالضرورة "تركيبةً" ضدّ الرأسماليّة. أصلًا، لم تتَحَدَّ تحرّكاتُ حقوق المثليين في الولايات المتحدة النظامَ لأنّ أكثريّة مسؤولي الحركات المثليّة ليبراليّون.
ومع ذلك فقد زادت جرائمُ الكراهية والعنف ضدّ المثليّين في المجتمع هناك. لذا نستنتج ما يأتي: إذا كانت البنيةُ الرأسماليّة تسمح بتطوير التفكير الجنسانيّ تجاه المثليّين والمثليّات مثلًا، فإنّ المجتمع لا يمتلك الوعيَ الكافي لذلك. وهنا تظهر مشكلتي مع السؤال الذي طرحتْه جنى، لأنّني أعتقد أنّه يحتاج إلى المزيد من التحديد. وأسأل بالمناسبة: هل النظام الاشتراكيّ غير ذكوريّ بالضرورة؟!
جنى: النظام الرأسماليّ يستطيع أن يتخلّى عن البطريركيّة، أو أن يمارسَها حينما يحلو له. لكنّ الأمر الأساسَ الذي يرفض التخلّي عنه هو ما يتعلّق باستهلاك المرأة واستغلالها.
بسّام: ... بل إنّه يخترع أنماطَ استغلالٍ جديدة أيضًا: خاتمَ الزواج مثلًا! لقد أوجب هذا النظامُ أن يكون الخاتمُ من حجرٍ نادر، وأن يُشترى من محلّاتٍ محدّدة، وأن يقدّمَه الرجلُ إلى المرأة خلال عشاءٍ باهظ، وأن تشتري المرأة فستانًا غاليًا للمناسبة، إلخ. وبعد أن يخترع هذا النظامُ ما يلبّي حاجاتِ هذه المجموعة الصغيرة من الشراة، تنشأ مجموعةٌ أخرى وباحتياجات مختلفة، لكنْ ضمن النظام، فيَخلق لها نمطًا آخر يلبّيها، ويخترع له قيمة. المهمّ أن يربح.
جنى: أوافقكَ الرأيَ. لكنّني ما زلتُ أرى أنّ هذا النظام ــــ مهما تغيّر وتقبّلَ حاجاتِ "الأقليّات" ــــ فإنّه لا "يهادن" حين يصل الأمرُ إلى استغلال المرأة.
رانية: الدعارة ذات علاقة مباشرة بالرأسماليّة. هذا مؤكّد. لكنْ ليس واضحًا لديّ إنْ كان الاغتصابُ والعنفُ المنزليّ، مثلًا، متعلّقيْن بالرأسماليّة. لا أعرف إنْ كانت الإحصاءاتُ المريعةُ في أميركا (وتفيد بأنّ امرأةً من كلّ ثلاث نساء أو أربع يُغتصبنَ!) مرتبطةً ببنية النظام.
جنى: قد تجد تفسيرَها في مقولة فوكو: إنّ المستغَلّ يستغلّ غيرَه، في نظامٍ من ديناميّات الاستغلال، من العمل إلى البيت. لكنْ لا يمكننا أن ننفي أنّ هذا الجزءَ من الاستغلال بالذات، اي استغلال المرأة، هو الوحيد الذي يرفض النظامُ الرأسماليُّ البطريركيُّ التخلّيَ عنه!
سينتيا: إحدى تجاربنا الجنسيّة متعلّقة بالرأسماليّة حتمًا، وهي تلك المرتبطة بديناميّات القوة، كالتجربة التي تربط صاحبَ العمل بالموظَّفة (وذلك حين يوافق على توظيفها لقاء خدماتٍ جنسيّة). هنا نتحدّث عن "استغلال" أكثر ممّا نتحدّث عن مجرّد "تحرّش." لا أعتقد أنّ الرأسماليّة منفصلة عن العلاقات الاستغلاليّة، لكنّني لا أعتقد أنّها السبب الأوحد لهذه العلاقات. فهذه الممارسات ممنهجة، وإلّا لما اعتمدت الشركاتُ الكبرى سياساتٍ "ضدّ التحرّش الجنسيّ." وهذا يحصل أيضًا في معظم الجامعات. أين المحاسبة الحقيقيّة؟ أين النقابات؟ أين توعيةُ الناس منذ صغرهم؟
رانية: هناك نمطٌ ما، عند العسكريين الذكور أو الشرطة في الولايات المتحدة، إذا يرتفع مستوى العنف المنزليّ عندهم أكثر بثلاث مرّات عن المستوى العامّ. هناك ارتباط إذًا بين العسكرة والعنف ضدّ النساء. وبكلّ تأكيد، هناك ارتباط بين الرأسماليّة والعسكرة.
بسّام: ... لكنّ أساس هذا العنف ليس جنسيًّا، بل الهدف منه هو السيطرة. في فرنسا مثلًا، وفي إطار السياسة العنصريّة والعدائيّة تجاه اللاجئين، قال أحدُ السياسيّين: "سأدافع عن هذا الثدي" (دالًّا على ثدي اللوحة التي تمثِّل فرنسا)؛ بمعنى أنّه سيدافع ــــ عبر الثدي ــــ عن "فرنسا" وثقافتها ونسائها (التي يعتبرها، جميعَها، مهدَّدةً من قِبل اللاجئين المسلمين والمسلمات). وهنا توظيفٌ آخر، ظاهرُه أنّه يقول للنساء ألّا يستحينَ من أجسادهنّ؛ ولكنّ باطنَه يقول للاجئات: أنا أحبكنّ عارياتٍ.
بكلام آخر: هو يتكلّم عمّا يراه "سيطرة" للثقافة العربيّة/الإسلاميّة على مجتمعه الذي يستقبل اللاجئين والمهاجرين العرب والأفارقة، وخطابه يركّز على جزءٍ من جسد المرأة؛ أمّا ما يخفيه فعلاقاتُ قوّة معقّدة؛ فكأنّه يقول: "أنا أستقبلُ مَن استعمرتُه من قبلُ، على أرضي، وسأفرضُ عليه قوانيني." أو أنّه يؤدّي دورَ "الرجل الأبيض" الذي يحرّر "المرأة السوداء."
سينتيا: مرّةً أخرى يتمّ تجزيءُ المرأة. لقد أخرجها المتكلّمُ من كيانها كلّه ليختصرها في جزء واحد... كما يتمّ تشييئُها.
رانية: أعود إلى فكرة "الـثدي." إذ حتّى عندما يتركون المجالَ للمرأة بأن تكون "متحرِّرة،" فإنّهم يقولون لها: "يجب أن يكون صدرُكِ بهذا الحجم، وبهذا الشكل، وغيرَ مترهّل!" المرأة هنا ليست "حرّةً" حقًّا. أمّا حين يطلبون من الرجل أن يحسّنَ من شكل جسمه، فإنّ الهدف من ذلك يكون في العادة "صحّيًّا" لا "جماليًّا"... مع ملاحظة موجةٍ متنامية من التصرّف مع الرجال شبيهةٍ بالتصرّف مع النساء: مثل وجوب تناولهم الستيرويدز من أجل عضلاتهم.
بسّام: هناك الكثير من المال وراء ذلك؛ صناعة كاملة من الأدوية و"الموضات." فالنظام الرأسماليّ ينتج فكرةً "تهدّد" النمطَ السائد، لكنها في الوقت نفسه تخلق طلبًا جديدًا!
جنى: وفي ما يتعلّق بالثياب، فإنّه ينتج شكلًا ومفاهيمَ جديدةً لهويّة المرأة: مَن هي امرأة، ومَن ليست بامرأة! ويلاحَظ أنّ الطبقة الأقلَّ ثراءً تتلقّى أيضًا رسائلَ الماركتينغ (التسويق) لمنتوجاتٍ مخصّصةٍ للطبقات الأغنى، لكنْ بجودةٍ أقلّ! الطبقة العاملة، إذن، لا تشذّ عن هيمنة الموضة، وعن التشييء، وعن البحث عن تغيير الشكل و"تحسينه."
بسّام: في المسألة هنا محاولةٌ لظهور الأفقر بمظهر الانتماء إلى الطبقةِ الأغنى مادّيًّا؛ إذ لو كان الأفقر يستعمل الموادَّ أو الثيابَ المقلَّدة، فذلك لا يقلِّل من اهتمامه بالموضة، أو من تماهيه مع الخطاب العامّ للشكل المفروض.
رانية: يبقى سؤالي: هل الرأسماليّة هي الدافعُ الأوّل وراء كلّ ما نتحدّث عنه؟ أمْ أنّ الأزمة موجودة في الأصل بشكلٍ من الأشكال، وعناوينُها: العنف، والعنصريّة، والتمييز ذو الطابع الجندريّ، إلخ... ثم أتت الرأسماليّةُ لتشجّع هذه المظاهر فحسب؟
(...)
جنى (ضاحكةً): لا جواب؟! حسنًا، والآن ماذا عن مقاومة هذا التشييء؟
بسّام: عندما تقاومين المستعمِر أو أيًّا كان، فإنّ ردّةَ الفعل تكون جزءًا من "السيستم" (النظام). فنحن، كما أرانا، مربوطون بثقل هذا القمع.
جنى: وعلى المستوى الاجتماعيّ؟ كأفراد ومجموعات؟
رانية: لا أعرف إذا كنّا قادراتٍ على التحرّر من هذا النظام حين نعيشُ فيه. الأولويّة الأساس، بالنسبة إليّ، بل الأولويّة التي تتقدّم على الحريّات الجنسيّة نفسِها، هي: حمايةُ أجسادنا من العنف! والأمر قريب بالنسبة إلى الرجل أيضًا؛ فثمّة مقاساتٌ معيّنةٌ فرضتْها البطريركيّةُ عليه هو كذلك، من قبيل أنّ عليه ألّا "يعبِّر" وألّا "يبكي" وألّا يكون "عاطفيًّا."
جنى: لكنّني أعتقد أنّ ثمّة ما هو أخطر. صحيح أنّ هناك نظرةً عامّةً مفروضةً على النساء، ولكنّها تتجاوزهنّ إلى الفتيات الصغيرات اللواتي يبدأن ــــ حين يبلغن السنوات العشر ــــ بكرهِ شعرهنّ أو لونهنّ أو جسدهنّ، ويحلمنَ بأن يصبحن يومًا كـ"باربي" أو كأيٍّ من النساء اللواتي يرينهنّ على التلفزيون...
رانية: حاليًّا، تبدأ الفتيات بهذا حين يبلغن السنواتِ الأربع بحسب بعض الدراسات!
جنى: وهناك محاولاتٌ أيضًا لإخفاء الجسد وإخفاء الكلام عليه؛ فنُنتج مثلًا مصطلحاتٍ مختلفةً بهدف التعبير عن عضوٍ ما أو حالةٍ جسديّةٍ معيّنة من دون أن يفهم الآخرون ما نعنيه، أو من دون أن "تجرحَهم الألفاظ." هكذا تتحدّث النساء عن بلوغهنّ الدورةَ الشهريّةَ بألف تعبير وتعبير ("اليوم زارتني المدام روز" مثلًا). وهي تعابير يفهمها الرجال، لكنّهم لا "يمانعون" بأن تستخدمها النساءُ بهذا "الحياء." هناك خوفٌ من الجسد، وتَنجم عن هذا الخوفِ الحاجةُ إلى اعتباره عيبًا، واعتبارِ مصطلحات الجنس بدورها عيبًا.
رانية: الأسوأ هو عند غياب المصطلح التخفيفيّ!
سينتيا: كنتُ أتفحّص كتبَ صديقتي حين كنتُ صغيرةً، فوجدتُ صفحةً عن جسد الإنسان في المعجم، وكان أهلُها قد لوّنوا بالأسود الأعضاءَ التناسليّة، وكأنّها يجب ألّا تكون موجودة!
لكنْ، وبالعودة إلى سؤال المقاومة، هناك مبادرات في رأيي لمقاومة هذا القمع، ومنها ما هو فرديّ: فعندما تأتيني الدورةُ الشهريّة مثلًا، لا أتعمّد إخفاءَ الفوط الصحّيّة، بل أحملُها كما أحمل أيَّ شيء آخر.
رانية: كنتُ عند طبيبة بسبب صداعٍ رهيب، وجلستُ أنتظر نتائجَ التحاليل، متوقِّعةً أن تأتي المشكلة من عينيّ. دخلت الطبيبةُ وقالت لي: "وجعُ رأسك من البوتوكس الذي تستعملينه." كنتُ أريد أن أقول لها إنّ البوتكس يُستعمل علاجًا لوجع الرأس، وإنّ عليها أن تسألني إنْ كنتُ أستعمل البوتكس أصلًا. لكنّني قلت لها: "عفوا؟" فردّت: "الأمر واضح. هذا عمرُكِ، وهو غيرُ ظاهر عليك. أنتِ من مواليد سنة 72. فمن المؤكّد أنّك تستعملين البوتكس، ووجعُ رأسك من البوتكس!"
جنى: الأسوأ حين تكون المرأة خائفةً من أن "يكتشف" أحدُهم أنّها مارست الجنس من غير أن تكون متزوّجة، أو "يكتشف" أنّها حامل. وربما تعيد عليكِ الطبيبةُ السؤال مرّتين وثلاثًا كي "تحسّي بالحياء وتعترفي!"
سينتيا: ولا ننسى هنا السؤال: "انتِ بنت أو مَرا [امرأة]؟" وقد سألني أحدُهم هذا السؤالَ يومًا، وأمام الناس أيضًا!
بسّام: يروي لي صديقي أنّه حين كان صغيرًا كان أهلُه يشاهدون حلقةً من مسلسل "أبو ملحم" التلفزيونيّ. في نهاية الحلقة، قال أحدُهم: "الحمد لله طِلْعِتْ سَعْدى بنت!" فاختلط الأمرُ على صديقي؛ إذ ظنّ أنّهم كانوا يعتقدون أنّها "صبيّ"!
جنى: حصلتْ مع صديقتي مشكلةٌ ذاتُ طابع جنسيّ، فذهبتْ إلى قسم الطوارئ في المستشفى. سألتْها الممرّضة إذا كانت متزوّجة، فأجابت بالنفي. تخبرني صديقتي أنّ الممرضة نظرتْ إليها، إذّاك، بشكلٍ "لئيم" وبقرفٍ شديد. ثمّ جاءت الطبيبة، ففحصتْها وطمأنتْها وعالجتْها. لكنّ الممرّضة ظلّت ترمقها بنظراتِ قرف وازدراء، وكأنّها تقول لها: "أنتِ في علاقة جنسيّة بلا زواج؟ أرجو أن تموتي. أرجو ألّا تشفي ممّا أنتِ هنا من أجله." وقالت صديقتي: "كان على الممرّضة أن تتعاطى معي على مستوى مرضي البيولوجيّ؛ فوضعي الاجتماعيّ أو العاطفيّ ليس من اختصاصها البتّة." ما أزعج صديقتي بشكلٍ خاصّ هو أنّ وضعًا كهذا قد يواجه نساءً أخريات، نازحاتٍ أو فقيرات، لا يتمتّعن بما تتمتّع به صديقتي من امتيازات (تغطية صحّيّة، وضع مادّيّ مستقرّ، قدرة على الدفاع عن نفسها، عدم إحساسها "بالذنْب" لقيامها بعلاقة خارج إطار الزواج،...)، فماذا كان سيحصل لهنّ؟ لربّما انْهَرنَ!
رانية: الأمر ذاته يحصل مع بعض الصيادلة. عندما تذهب المرأة كي تشتري دواءً من الصيدليّة، يسألها بعضُهم إذا كانت متزوّجةً لأنّ الدواء يأتي على شكل حبوب أو على شكل تحاميل في المهبل. السؤال هنا ليس بيولوجيًّا بل اجتماعيّ! كان أجدرَ بهم أن يشرحوا النوعيْن، ويتركوا للنساء الخيارَ.
جنى: وعلينا ألّا ننسى موضوعَ البلوغ عند الفتيات. عندما بلغتُ جلستُ أبكي، وكنتُ أريدُ الموت؛ فلم يكن أحد قد أخبرني من قبلُ عمّا سيحصل. أمّي نفسُها نادت أختَها لتفسّر لي ما يحصل. وهذا خلق لي مشكلةً أكبر؛ إذ لماذا لا تفعل أمّي ذلك؟ لماذا تحتاج إلى مساعدة أختها؟ أهو أمرٌ بهذه الرهبة والصعوبة والتعقيد؟ اعتقدتُ أنّ حياتي ستنتهي لأنّه لن يكون في مقدوري أن أخرجَ مجدّدًا، أو أن ألعب كرةَ السلّة مع الصِّبْية كما كنتُ أفعل من قبل. في كلّ مراحل حياتي لم أتكلّم مع أهلي كلامًا خاصًّا عن الجسد أو الجنس. أنا وأمّي لم نتكلّم يومًا عن "التامبون" مثلًا. عندنا تامبون في المنزل؛ فنحن أختان في البيت؛ لكنّ أمّي لا تتكلّم عنه. كأنّ هناك شيئًا ما عند جيل الحرب يدفعهم إلى تأجيل الكلام على أمرٍ يبدو لهم بهذه "الثانويّة"... تأجيلِه حتّى إلغاءِ وجوده.
رانية: أكثريّة الصيدليّات في الولايات المتحدة ملْكٌ لشركتين، إحداهما تنتمي إلى اليمين المسيحيّ المتطرّف، الذي يَعتبر أنّ من حقّه ألّا يعطي النساءَ حبّة منع حمْل في الصباح الذي يلي الجماعَ (morning after pill)، بل يرى أنّ هذا من واجبه الدينيّ. الصيدليّة نفسها تستطيع أن تقول لكِ: "لن أبيعكِ الحبّة، لأنّ هذا ضدّ مبدئي الدينيّ!" الشركات في أميركا ملْك أناس، وللناس الحقُّ في الانتماء الدينيّ، ولهذه الصيدليّة ــــ إذًا ــــ الحقّ في أن تمارس دينَها عليكِ!
جنى: في الختام أقول إنّ النظام الرأسماليّ يقولب، فعلًا، علاقتَنا بالجنس. لكنّ البطريركيّة قادرة على الوجود والتأثير من خارج هذا النظام. النظام الرأسماليّ يستعمل البطريركيّة في المواقع التي يراها ضروريّةً من أجل توجيه الإنتاج وزيادة الاستهلاك واستغلال الأفراد والمجموعات. لكن ّالبطريركية تتخطّى النظامَ الاقتصادي لتصبح أداةَ سيطرةٍ اجتماعية، يكون فيها الأفرادُ، ذكورًا وإناثًا، متقبّلين للشكل الحاليّ من العائلة والسلطة الاجتماعيّة والأدوار الاجتماعيّة المحدّدة لكلّ شخص بحسب نوعه/ـأ الاجتماعيّ.
وأوّلُ شكل من أشكال الهيمنة البطريركيّة هو العلاقة المأزومة بالجسد وخوفنا منه. فتغييب الثقافة الجنسيّة قادر على تجهيلنا بأمراض ومشاكل بيولوجية، كما بحاجاتنا وقدراتنا. وللعاملات والعاملين في المجال الطبّيّ باع طويلة في نشر ذلك الجهل، عبر اعتبار الثقافة الجنسيّة أمرًا ثانويًّا أو بيولوجيًّا بحتًا، أو عبر الاحتفاظ به من دون تعميمه على الناس.
ويلعب المجتمع دورًا رئيسًا في خلق هذا البتر مع الجسد، بجعلنا نخفي أو "نجمّل" كلامنا عن أجسادنا ودوراتها وحالتها. كما يكون فاعلًا في تغريبنا عن صورتنا، وفي جعلنا نطمح إلى أن نشبه النموذج المهيمن (والمتغيّر) للجمال، ساخرًا منا، في الوقت نفسه، حين نستسلم لذلك النموذج. وليست السخرية من النساء المُحبّات لعمليّات التجميل إلّا مثالٌ صارخٌ على ذلك: فهو يقول لها إنّها قبيحة وعجوز وبدينة، ثم يسْخر منها حينما تسعى إلى أن تكون غير ذلك.
يتحالف النظامان البطريركيّ والرأسماليّ لتوجيه الاستهلاك وتكبيره من جهة، ولجعل النساء والرجال عرضةً للقولبة المستمرّة من جهةٍ أخرى. كما يتزاحمان لفرض خطاب يقول إنّ النساء هنّ الأغبى والأضعف والأقلّ خبرةً وكفاءةً في الحياة والأقلّ إنتاجًا وإبداعًا والأقلّ تأثيرًا في السياسة، في مجتمعٍ يزعمان أنّهما يريدانه محبًّا للتنافس.
بيروت
* الهيتروجنسي: من ينجذب الى الجنس المغاير ويمارس نشاطات وهوايات مرتبطة تقليديًّا بجنسه. أما الميتروجنسي فهو: رجل ينجذب إلى النساء لكنه يمارس نشاطات ويستمتع بهوايات (كالتسوق والموضة) مرتبطةٍ تقليديًّا بالنساء والمثليين.
المشاركون:
الدكتورة رانية المصري: المديرة المشاركة في مركز الأصفري للمجتمع المدنيّ والمواطَنة في الجامعة الأميركيّة في بيروت. متخصّصة في العدالة البيئيّة والاجتماعيّة، مع التركيز على فلسطين.
بسّام موسى: باحث متخصّص في قضايا المفقودين والمفقودات في لبنان. تخصّص في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والدراسات المدينيّة. شارك في أبحاث حول المعارضة البرلمانيّة وغير البرلمانيّة، والحركات الاجتماعيّة والسياسيّة في العالم العربيّ.
سينتيا الخوري: أخصّائيّة في تعزيز الصحّة والصحّة المجتمعيّة. تعمل في مجال الصحّة الجنسيّة.
باحثة وناشطة يساريّة من بيروت والجنوب. تعمل في مجال التنظيم المدنيّ في العشوائيّات ومخيّمات اللجوء، كما تنشط في التنظيم الطلاّبيّ في الجامعات.