كردّة فعلٍ أوّليّةٍ على نكبةِ بيروت في 4 آب 2020، بادرتْ مجموعاتٌ وأفرادٌ وعائلاتٌ بالاستجابة الفوريّة إلى حاجات المتضرِّرين. وهذه الحركة التطوّعيّة العفويّة سَبقتْ في سرعة وجودها العديدَ من الجهات الرسميّة المعنيّة بالتدخّل.
من جملة هذه المبادرات مبادرةُ مجموعةٍ من طالبات الجامعة اللبنانيّة، قسم العمل الصحّيّ الاجتماعيّ في كلّيّة الصحّة العامّة، الفرع الأوّل. هؤلاء الطالبات الآتيات من مناطقَ مختلفة خارج بيروت، ومن طوائفَ متعدّدة، يجسِّدن بمبادرتهنّ مشهديّةَ الوحدة الوطنيّة والتضامن الاجتماعيّ، ويقدّمن نموذجًا للمسؤوليّة المجتمعيّة ولممارسة المواطنيّة.
رصدتْ هذه المجموعةُ احتياجاتِ 1140 أسْرةً متضرّرةً من انفجار بيروت في 30 منطقة (الأشرفيّة، المصيْطبة، زقاق البلاط، الكرنتينا، برج أبو حيدر، الخندق الغميق، البسطا التحتا...). وجاءت النتائجُ الأوّليّةُ على الشكل الآتي:
الرسم البيانيّ 1: توزيع حاجات الأُسَر المتضرّرة من الانفجار، أيلول 2020
يُبيّن الرسم أنّ 61% من الأُسَر تحتاج إلى إصلاح الزجاج بشكلٍ أساس. تلي هذه النسبةَ تباعًا حاجتُها إلى تركيب الألمنيوم (19%)، والخشب (15.9%)، وإلى شراء الأثاث (18%)، وترميم المنازل بشكلٍ كلّيّ (15.5%). وهذا يعني أنّ أولويّةَ المساعدة المطلوبة والفوريّة هي من أجل تأمين التصليحات بشكلٍ مباشر، أو بتقديم مساعدةٍ ماليّةٍ تمكّن الأسرةَ من ذلك.
في المقابل، نجد أنّ الحاجةَ إلى الدواء طاولت النسبةَ الغالبةَ لدى الأُسَر (74.2%). وهذه النسبة المرتفعة، التي قد تشهد ارتفاعًا إضافيًّا لافتًا في الأيّام المقبلة، تعكس ارتفاعَ الأسعار وفقدانَ بعض الأدوية من السوق الداخليّة. كما عبّرتْ 30.8% من الأُسَر عن حاجتها إلى الغذاء. وقد تشهد هذه النسبةُ، بدورها، ارتفاعًا في الأيّام القريبة نظرًا إلى الغلاء المعيشيّ وتدهورِ القدرةِ الشرائيّة لدى معظم الأسَر. وهذا يُظهرأنّ الحاجاتِ الأساسيّةَ ما زالت هي المطلبَ الأوّلَ لدى الأسر المتضرِّرة، على الرغم من مضيّ أكثر من شهريْن على الانفجار.
***
يمكننا تقسيمُ المتضرّرين من انفجار مرفأ بيروت إلى ثلاث فئات:
- الفئة الأولى الأكثر تضرّرًا، وهي تقع في المناطق المجاورة لمنطقة مرفأ بيروت، وقد تدمّرتْ بيوتُها وسيّاراتُها ومحلّاتُها. هذه الفئة المنكوبة تختلف حاجاتُها عن الفئة الثانية؛ فهي تحتاج بشكلٍ أساس، كما قلنا، إلى خدمة الإيواء، وخدمةِ ترميم المنازل، وإلى دعمٍ ماليٍّ لشراء بعض حاجاتها الخاصّة وبعضِ التجهيزات الأساسيّة، وتأمين الغذاء، إضافةً إلى الدعم الصحّيّ والطبّيّ والمتابعة. كما تحتاج إلى المزيد من الاهتمام بدراسة أوضاع العمل وكيفيّةِ تعويضها مادّيًّا.
- أما الفئة الثانية من المتضرِّرين من الانفجار، فهي من مناطقَ بعيدةٍ، أو بعيدةٍ نسبيًّا، عن منطقة المرفأ: زقاق البلاط، الخندق الغميق، سليم سلام، الحمرا، المدينة الرياضيّة، وغيرها. هذه الفئة تحتاج إلى المساعدة في تصليح المنزل والمحلّ والسيّارة، والزجاج (الضرر الكبير الذي تعانيه بيروت)، ومن ثمّ الألمنيوم والخشب (المرتبطيْن بالشبابيك والأبواب). وتحتاج إلى شراء أدواتِ منزل (طبخ،...)، وأثاث، وأدواتٍ صحّيّة. وهي بحاجةٍ أيضًا إلى مساعداتٍ ماليّة، ولو بشكلٍ مؤقّت، لدعم صمودها في هذه المرحلة. كما تجلّت حاجتُها إلى فرص عمل بحسب نتائج الرسم البيانيّ 2؛ فقد بيّنتْ نتائجُ المسح المذكور أنّ 48% من أرباب الأسَر المتضرِّرين من انفجار بيروت يبحثون عن عمل. وهذه النسبة عاليةٌ جدًّا، وتعكس الأزمةَ الماليّة والاقتصاديّة التي عصفتْ بلبنان قبل الانفجار وبعدَه. وهذا دليلٌ آخر على أهمّيّة وضع تصوّر للنهوض بهذه الأسَر والمساهمة في خلق فرص عملٍ مناسبة، بالإضافة إلى تقديم المساعدات الماليّة الفوريّة لمساندتها.
الرسم البيانيّ 2: توزيع نسبة العاملين من أرباب الأسر المتضرّرة من انفجار بيروت، أيلول 2020
- أمّا الفئة الثالثة من المتضرّرين بالانفجار فهي الشريحةُ الكبرى التي تشمل بيروتَ وضواحيها على مستوى القطاعات. هناك قطاعاتٌ كبيرة، صحّيّةٌ وتربويّةٌ وإنتاجيّة، نالت نصيبَها من الأذى و التكسير. أضف، إلى ذلك، الشركاتِ التي تضرّرتْ جزئيًّا أو كلّيًّا، وبعضُها أُقفل. هذه الفئة الثالثة تحتاج إلى الدعم الفوريّ لاستعادة عافيتها تدريجيًّا.
بالإضافة إلى كلّ الحاجات التي ذكرناها بحسب الفئات، ثمّة حاجة مشتركة ومتقاطعة تشمل جميعَ الفئاتِ المذكورةَ أعلاه، ألا وهي حاجاتُ الدعم النفسيّ الاجتماعيّ. فعلى الرغم من مرور أكثر من شهريْن على الحادثة، فإنّ الناس ما زالوا تحت تأثير الصدمة، لا يستوعبون ما حصل، يتساءلون عن سبب الانفجار ولا يجدون إجابةً. بل إنّ بعضهم ما زالوا في عمليّة إنكارٍ تامٍّ لما حدث. وثمّة شعورٌ لدى بعض الناجين بتأنيبِ الضمير، وبعدم تقبّلهم الخسارةَ والفقدانَ، وبصعوبة تكيّفهم - عائلاتٍ وأفرادًا - مع الوضع الحاليّ المستجدّ.
في هذا السياق، لدينا مستويان من العمل:
- المستوى الأوّل هو تقديمُ الدعم النفسيّ الاجتماعيّ لكلّ الشرائح التي تحدّثنا عنها سابقًا. وهذا الدعم يتمحور حول حلقات التوعية، والأنشطةِ الثقافيّة، والتوجّهِ بخطاباتٍ إيجابيّةٍ وداعمة، مستخدمين وسائلَ التكنولوجيا والتواصل الاجتماعيّ من أجل الوصول إلى أكبر عددٍ ممكنٍ من الناس.
- أمّا المستوى الثاني، فيكمن في إعداد تقويمٍ للآثار النفسيّة، ورصدِ مؤشِّراتِ "ما بعد الصدمة." فقد صرّح العديدُ من الأسَر التي شملها المسحُ بأنهّم يعانون "الكوابيسَ الليليّةَ" والقلقَ والأرقَ والتوتّرَ الدائمَ والخوفَ من حدوث انفجارٍ آخر. وفي بعض المناطق المجاورة للانفجار تَبيّن وجودُ حالاتٍ من "التبوّل اللاإراديّ" لدى مجموعةٍ كبيرةٍ من الأطفال، وحالاتِ صراخٍ من دون توقّف، ورفضٍ للبقاء في المنزل. وهذه جميعها حالاتٌ نفسيّةٌ تحتاج إلى التدخّل والعلاج، لا سيّما عند الأطفال وكبارِ السنّ وذوي الاحتياجات الخاصّة، الذين هم أكثر عرضةً وتأثّرًا بالصدمة.
***
حاولنا في هذه الورقة وصفَ الحاجات الملّحة التي تتطلّب سنواتٍ من العمل الدؤوب تحت مظلّة إدارة الحاجات بحسب الأولويّة والمخاطر.
وفي غياب السياسات الاجتماعيّة الموجَّهة في لبنان، وأمام مشهد ضبابيّة التنسيق بين الجهات المعنيّة بالعمل الإغاثيّ والتنمويّ في بيروت، نضع هذا الوصفَ، علّه يكون مقدّمةً نحو السير في وضع خارطة طريقٍ للتدخّل الطارئ من أجل الحدّ من تفاقم الأزمة.
بيروت