لا شكّ في أنّ التعليم ركن أساسٌ من أركان التقدّم في أيّ مجتمع. لذا انشغل الباحثون والخبراء التربويّون بدراسة كافّة روافد العمليّة التعليميّة وتأثيرها في نوعيّة التعليم، ومن ثمّ في المتعلّم.
في العام 1968، صاغ فيليب جاكسون[1] عبارةَ "المناهج الخفيّة" للتعبير عن حاجة الطلّاب إلى إتقان التوقّعات المؤسّسيّة للمدرسة. وبعد عاميْن طوّر الطبيبُ النفسيّ د. بنسون سنايدر[2] هذا الطرحَ ارتكازًا إلى ملاحظاتٍ جمعها عن طلّاب، ولا سيّما موهوبون، خرجوا من التعليم.
يمكن تعريفُ المنهج الخفيّ بأنّه مجموعةُ المفاهيم والعمليّات العقليّة والاتجاهات والقيم والسلوكيّات التي يكتسبها المتعلّمُ من خارج المنهاج المكتوب بطريقة التشرّب، نتيجةً لتفاعل المتعلّم وزملائه ومعلّميه والإداريّين في المدرسة، ومن خلال الأنشطة غير الصّفِّيّة، كما بالملاحظة والقدوة. وعليه، فقد يكون المنهجُ الخفيّ أبعدَ أثرًا في صوغ توجّهات الطلبة من المناهج الدراسيّة الأكاديميّة نفسِها.
يكتسب المتعلّمُ المنهجَ الخفيّ من خلال مؤسّساتٍ كالأسرة، والأندية، والجمعيّات، والهيئات الحكوميّة وغير الحكوميّة، ووسائل الاعلام. فيغدو المنهجُ الخفيّ، في كافّة المؤسّسات ومن ضمنها المدرسة، عاملًا أساسًا في تشكيل البنية الذهنيّة اللّاواعية التي تفسِّر سلوكَ الطلاب في ممارساتهم اليوميّة.
ولمّا كنّا سنخصّص هذا المقالَ للحديث عن المعلّم والمنهج الخفي، فإنّه تنبغي الإشارةُ إلى أنّ المعلّمين الذين ينفّذون المنهجَ الرسميّ يحقّقون أهدافًا خارجه، أيْ ليست مُدرجةً ضمن فلسفته وأهدافه. ويعود السببُ في ذلك إلى أنّهم يتأثّرون بخبراتهم السابقة، وبخلفيّاتهم الفكريّة والإيديولوجيّة، وبمستوى إعدادهم العلميّ والمهنيّ، فينعكس ذلك كلُّه تباينًا في نواتج التعلّم التي توصّل إليها الطلّاب.
يدلّ محتوى العمليّة التعلّميّة في أيّ مجتمع على الأولويّات الاجتماعيّة للجماعة المعنيّة. كما يبيّن المفاهيمَ التي ينظر هذا المجتمعُ من خلالها إلى العالَم، ويُظْهر الاتجاهَ الذي ينبغي أن يسيرَ نحوه كي يحقّقَ نموَّه.
في لبنان، اعتَبر اتفاقُ الطائف في قسمه الأوّل موضوعَ التربية إحدى خمس قضايا اهتمّ بإصلاحها. كما أكّدت البياناتُ الوزاريّةُ للحكومات المتعاقبة، بعد انتهاء الحرب الأهليّة عام 1989، أولويّةَ التربية والتعليم، وتعزيزَ تكافؤ الفرص التعليميّة، وإصلاحَ المناهج، وتأهيلَ الهيئة التعليميّة.[3] لكنّ المشاكل التي يعانيها الوطن، من تسلّط الطبقة السياسيّة وزرعِها الطائفيّةَ في كافّة مفاصل الحياة، انتقلتْ إلى التعليم. لذا نلاحظ تباعدًا قويًّا في مضامين التعليم بين المدراس التابعة للجماعات الطائفيّة. ويتفاقم هذا التباعدُ مع إنتاج المزيد من الكتب المدرسيّة الخاصّة بكلٍّ من هذه الجماعات: فيغيب مثلًا الأبطالُ المشترَكون، وتغيب صورةٌ واحدةٌ عن الهويّة الوطنيّة.[4] هذا ناهيكم بغياب كتابٍ موحّدٍ للتربية المدنيّة والتاريخ، وما لذلك من آثارٍ في إضعاف مفهوم "المواطَنة" وعرقلة الاندماج الاجتماعيّ.
فبدلًا من أن يُستثمَر المنهجُ التعليميُّ لتغيير الواقع والمجتمع، أصبح هذان الأخيران هما اللذان يؤثّران في المنهج التعليميّ، وذلك نتيجةً لتسلّط الطبقة السياسيّة، واستخدامِها لسلطاتها الطائفيّة والمذهبيّة من أجل التحكّم بكافّة مفاصل حياة المواطن اليوميّة. وهذا ما يضمن إعادةَ إنتاج هذه الطبقة نفسها. ويوميًّا نرى السلطةَ السياسيّة تُحْكم قبضتَها على التعليم من خلال التوظيف العشوائيّ في القطاع العامّ عمومًا، وفي القطاع التربويّ خصوصًا، بهدف تقوية نفوذ بعض السياسيّين، ولأغراضٍ انتخابيّةٍ بحتة، وفق تغليب مبدأ الخدمات والمنافع الشخصية لكلٍّ من السياسيّ والموظّف، وتحت مسمَّياتٍ مختلفة (مستشارين، مستخدَمين، متعاقدين، ...)، أو عبر السيطرة على قرار الأساتذة من خلال شدّ عصبهم الطائفيّ عبر وعودٍ بالترقّي والتعيينات، بحيث يصل إلى سدّة القرار في الروابط (التي يُفترض أن تمثِّل الأساتذة) أشخاصٌ يدينون بولائهم إلى أولياء نعمتهم. هكذا تتعطّل أيُّ عمليّةٍ إصلاحيّةٍ على خشبة المحسوبيّات، وغالبًا ما تُجهَض في مهدها.
لم نرَ في العقود الماضية سياسةً تربويّةً واضحةً وجدّيّةً ، باستثناءِ ما تضمّنه تحديثُ المناهج سنة 1997. لكنّ هذا نفسَه طُبّق مبتورًا ومجتزأً، ما أفقده جوهرَه بفعل المناكفات السياسيّة، التي غالبًا ما انتهت بتسوياتٍ ومحاصصاتٍ على حساب جودة التعليم وتطوير القطاع التربويّ.
كلُّ ذلك يحيلنا على قضايا النظام المدرسيّ ووظائفه الإيديولوجيّة وفق بيار بورديو. فالنظام الاجتماعيّ يستند، في جوهره، إلى معطيات النظام المدرسيّ، ما يعني أنّ الأخير يُسهِم بصورة مباشرة في إنتاج الأول وإعادة إنتاجه على نحوٍ كلّيّ.[5] ويبيّن بورديو أنّ مؤسّسات التعليم والتنشئة في المجتمعات المعاصرة تهيمن على المجال التربويّ برمّته، لكون كلّ نظامٍ تعليميّ يمتلك سماتٍ خاصّةً تتعلّق ببنيته ووظيفته، بحيث يكون قادرًا على إنتاج شروط وجوده الأساسيّة وإعادة إنتاجها، ما يمكّنه من أداء وظيفة التطبيع الثقافيّ والتربويّ في المجتمع.[6]وهكذا يكون التعليم على "صورة الوطن،" تستخدمه السلطةُ السياسيّة أداةً مشروعةً للضبط الاجتماعيّ بهدف حماية مكتسباتها ودوام بقائها.
بناءً على ما تقدّم، يمكن القول إنّ القطاع التربويّ في لبنان في كبوة، وإنّ إصلاحَه أولويّة. وباكورةُ هذا الإصلاح فكُّ ارتباط الطبقة السياسيّة بالتربية والتعليم، وحَجَرُها الأساس مناهجُ عصريّةٌ تواكب متطلّباتِ سوق العمل وتعمل على بناء مواطن يتحلّى بالمعرفة والقيم المناسبة. ويمكن في هذا المجال الاستعانةُ بخبراء تربويّين ملتزمين بالعمل على تضمين المناهج التعليميّة معارفَ ومهاراتٍ تعمل على:
أ – تحفيز الإبداع والتفكير النقديّ المستقلّ لدى الطلّاب.
ب - تمكينهم من استخدام الوعي المعلوماتيّ لمواجهة التحدّيات، كالتي صادفتنا منذ ظهور جائحة كورونا العام المنصرم.
ج - إبراز مفاهيم المواطَنة وإشراك الطلّاب في المجتمع، وذلك من خلال العمل الاجتماعيّ الذي ينبغي اعتبارُه جزءًا لا يتجزّأ من المنهج وشرطًا من شروط الترفيع.
ولمّا كانت العمليّة التعلّمية تتألّف من ثلاثة عناصر، هي المعلّم والمتعلّم والمنهج، فإنه يجب عند إصلاح المنهج إعدادُ المعلمين وتأهيلُهم وتدريبُهم على الطُرُق الأنسب لمواكبة هذا المنهج. وهذا يقتضي تفعيلَ دَوْر كلّيّة التربية ودُور المعلّمين، بالتوازي مع تفعيل عمل المؤسّسات الرقابيّة بهدف المواكبة والمحاسبة لتحقيق الأهداف المرجوّة.
عندها يصبح المنهجُ الخفيّ أقربَ إلى المنهج الرسميّ، فتتكامل العمليّةُ التربويّة وتؤدّي غرضَها المنشود، ألا وهو إرادةُ التعليم من أجل إحداث التغيير.
بيروت
الصورة الرئيسة للمقال من رسم الطالبة: ريما حسام الدين المحمود.
[1] Philip Wisley Jakson , Life in Classrooms(Holt, Rinehart & Winston, 1968)
[2] Benson Rowel Snider , The Hidden Curriculum in Health Professional Education, September 5, 2012
[3] برنامج الأمم المتحدة الإنمائيّ، ملامح التنمية البشريّة المستدامة في لبنان،1997، ص 112
[4] المرجع السابق نفسه، ص 111
[5] علي اسعد وطفة، "الأداء الإيديولوجيّ للمدرسة،" مجلّة العلوم التربوية، العدد الأول يناير 2013، صفحة 9
[6] بيار بورديو وجان كلود باسرون، إعادة الإنتاج: في سبيل نظريّة عامّة لنسق التعليم، ترجمة ماهر تريمش (بيروت: المؤسّسة العربيّة للترجمة، 2007)، ص 102