الإيمان والفنّ في إيران: مع الروائي مصطفى مستور
29-04-2019

 

 

أجراه وعرَّبهُ: عبد الرحمن أبو ذكري* ويوسف بدر**

***

هو روائيّ ومترجِم إيرانيّ وُلد في مدينة الأهواز. نُشرتْ روايتُه الأولى بالفارسيّة عام 2001، وهي بعنوان وجهُ الله، فحقَّقتْ نجاحًا ساحقًا، واختيرت لتكون أفضلَ رواية في إيران، ونالت جائزةَ "القلم الذهبيّ،" وطُبِعتْ أكثرَ من ثمانين طبعةً. ثم نشر مجموعتيْن قصصيّتيْن ناجحتيْن، قبل أن ينشُر روايتَه الثانية سنة 2005 لتُلاقي إقبالًا واسعًا، وقد صدرتْ بالعربيّة سنة 2017 بعنوان: عراق خنزير في يد مجذوم. وفي العام 2006 نفدتْ مجموعتُه القصصيّةُ التالية فور طباعتها بسبب الإقبال المنقطع النظير. وحين نُشرتْ روايتُه الثالثة سنة 2009، كانت أكثرَ الكُتب مبيعًا في معرض طهران الدوليّ للكتاب. ثم طُبِعَت مجموعتُه القصصيّة الرابعة في العام 2010 ستّ طبعات خلال ستة أشهُر. هكذا سطّر مستور اسمَه واحدًا من أهمّ عشرة روائيين وأكثرهم شعبيّةً خلال مئة عام هي عُمر الأدب الروائيّ الإيرانيّ الحديث. وقد جاء هذا الحوار مع المؤلِّف عقِب نشر الترجمة العربيّة لمجموعته الشعريّة الأولى في القاهرة، عن دار تنوير للنشر والإعلام.[1]

***

* نُشِرتْ لك بالعربيّة، حتى اﻵن، مجموعةٌ شعريّة،[2] وروايتان تُعتبران من أهمّ أعمالك، وإنْ كانتا تُعبِّران عن مرحلةٍ مبكّرة من مسيرتك الأدبية: وجهُ الله، وعراق خنزير في يد مجذوم. تُجسِّد الأولى رحلةَ بحثٍ عن الإيمان، وتجسِّد الثانية استقذارًا صوفيًّا للتكالُب على الدُنيا. فهل تتفق مع هذا التوصيف؟

ـــ أتّفقُ مع الوصف الأول بخصوص وجه الله. لكنّني أعتقد أنّ الوصف الثاني، الخاصّ برواية عراق خنزير في يد مجذوم، قاصِرٌ على الرغم من صحّته. ففي هذه الرواية نواجه بشرًا عاجزين، حبسوا أنفسَهم في عالمٍ صغير لا يستطيعون الخروجَ منه. ربّما لو تعرَّفوا بعضُهم إلى البعض، وصاروا أكثرَ درايةً بمتاعب بعضهم بعضًا، لأعان كلٌّ منهم الآخرَ. وهذه هي حقيقةُ الحياة في رأيي. فمع أنّنا نعيش زمانًا واحدًا، وقد نتجاور في شارعٍ أو متجرٍ أو مصعد، فإنّنا لا نعرف شيئًا عن آلام الآخرين وأحزانِهم. وحقيقة الأمر أنّ القارئ العليم هو الذي يُدرك وحده متاعبَ الشخصيّات كافّةً. وأعتقد أنّ عدم إدراك شخصيّات الرواية وجودَ بعضهم بعضًا هو سببُ شعورهم بالوحدة؛ والوحدة هي أهمُّ المفاتيح لفهم حياة الإنسان الحديث وطبيعتها.

* المعنى الحرْفيّ لعنوانيْ روايتيْك هاتين، في أصلهما الفارسيّ، يعتمِد على مقولاتٍ وردتْ في سياقهما. الأوّل أصلُه مقولةٌ لإحدى بطلات الرواية: "قَبِّلْ عني وجهَ ربّك الكريم،" والثاني مقتبسٌ من مقولةٍ للإمام عليّ. فهل كنتَ تختار عنوانَ العمل أوّلًا، أمْ تجدُه يفرِض نفسَه عليك بعد الكتابة؟

ـــ العثور على عنوان مناسب أمرٌ بالغُ الصعوبة. وعلى عكس اختيار أسماء أبنائنا، فإنّ عناوينَ القصص والروايات لا تتشكّل تأسيسًا على قيمة العمل الجماليّة؛ فالعنوان إمّا أن يشيرَ إلى خلاصة العمل أو إلى أحد أفكاره الرئيسة. وقد ورد عنوانا الروايتين كلتيهما على خاطري أثناء الكتابة.

* كلُّ شيء في رواياتك يتكلَّم، بما في ذلك الجمادات. وكلُّ صمتٍ عندك شديدُ الدلالة. فكيف تجعل من الجمادات أبطالًا صامتين يحمِلون رسائلَك؟

ـــ ثمّة أهمّيّةٌ كبيرة لكافّة أجزاء النصّ في الروايات القصيرة؛ فلا تُستعمل الألفاظُ آنئذٍ على سبيل الزخرفة، ولا لملء المشهد، فحسب. كلُّ شيء في هذه النصوص القصيرة يتمتّع بأهمّيّة ذاتيّة. فزجاجةُ اللبن فوق المنضدة هي في أهمّيّة شجرةٍ أو قطّةٍ أو رسالةٍ أو مصعدٍ كهربائيّ أو صوتٍ ما أو شعاعِ نور. لا صدفةَ في هذا النوع من القصص، بل تمّ التخطيطُ لكلّ شيء.

* لماذا يرتبط الخلاصُ في رواياتك بالحبّ؟

ـــ لا شكّ في أنّ الحبّ من أهمّ حقائق الحياة. تقول إحدى شخصيّات روايتي الأخيرة: "إنّ الثمانية مليار إنسان الذين يعيشون على وجه الأرض هم نتاجُ ثمانية مليار حالة حبّ، وإنْ كان زمنُ كلّ حالةٍ خمسَ عشرةَ دقيقةً فحسب." ومع ذلك، فقد أدركتُ منذ زمن أنّ الحبّ لا يستطيع وحده أن ينقذَنا؛ فلا بدّ من السعي خلف أشياء أخرى حتى نحقّق الخلاص.

* بوصفك أديبًا إيرانيًّا يعيش في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، أيْ بعد أربعة عقود على الثورة الإسلاميّة في إيران، كيف تُعرِّف احتياجَكَ إلى هذا الأدب؟ أو: لماذا تكتب بوصفك إيرانيًّا يعيش في هذا الزمان؟

ـــ أعتقد أنّ القصّة/الرواية بشكل خاصّ، والفنّ بشكل عامّ، لا تأثير كبيرًا لهما في حياة الإنسان. وعندما يخبرني شخص أنّ قراءة أعمالي تركتْ أثرًا كبيرًا في حياته، أو غيَّرتْه (وهؤلاء ليسوا قلّة للأسف)، فإنّني أتصوّر أنّهم يقصدون أنّها تركتْ أثرًا لمدّة خمس دقائق أو عشر. لذا، يصعب كثيرًا أن أجيب عن سؤالك، لأنّني لا أستطيع الزعم أنّني أكتب للتأثير في المتلقّين. وبصراحة، فإنّني أكتب لأنّ الكتابة هي طريقةٌ لتنظيم أفكاري ومشاعري. أضف إلى ذلك أنّ البشر يتشابهون في الكثير من المشاعر وتجارب الحياة، مثل: الخوف، والوحدة، والأمل، والفزع من الموت، والمعاناة من المرض، والحبّ، والفشل، والسعادة، والقلق، وهلمّجرًّا.

ومن خلال قراءة قصصي/رواياتي، التي تجسِّد مشاعري وتجاربي ومعتقداتي، فإنّ قُرّائي يُعيدون قراءةَ مشاعرهم وتجاربهم بطريقةٍ أو أخرى، ويشعرون بأنّها تعبّر عنهم، وأنهم أبطالها الحقيقيون. هذا الاتحاد الشعوريّ يقرّبنا، أنا وقرّائي، بعضَنا من بعض. ولهذا السبب نفسه نتشابه كثيرًا، أنا وإيّاهم، في إيران أو إيطاليا أو تركيا أو إندونيسيا أو البوسنة والهرسك أو مصر أو أيّ مكانٍ آخر في العالم. ولا شكّ عندي في أنّني، إذا التقيتُ يومًا بعضَ قرّاء أعمالي العرب، فسنشعر أنّنا نعرف بعضَنا بعضًا منذ زمن طويل، مع أنه سيكون لقاءنا الأوّل.

أعتقد أنّ هذا هو ما يمنحني دافعًا قويًّا للكتابة: التعاطف العميق مع مَنْ لَنْ أراهم أبدًا!

* إذًا أنت تكتب للمجتمع الإنسانيّ الأوسع، لا للمجتمع الإيرانيّ وحده.

ـــ نعم هذا صحيح، أو على الأقلّ هذا ما أرجوه.

* هل تؤمن بإمكان تحقيق الخلاص من خلال الكتابة أو الفنّ؟ وإذا كان ثمّة خلاص من خلالهما، فهل هو خلاصٌ فرديٌّ محض للكاتب، أمْ هو مسعًى إلى تحقيق قدْرٍ من الانعتاق الاجتماعيّ؟

ـــ من الممكن أن تزيد الكتابةُ من وعينا، لكنّها عادةً ما تنتقِص من سلامنا الجوّانيّ. وعليه، فلا يمكن أن تؤدّي الكتابةُ ــ في رأيي ــ إلى خلاص الفرد أو المجتمع. وإذا كنّا نسعى خلف الخلاص البشريّ، فعلينا أن نفعلَ ذلك من خلال التربية والتعليم والتأهيل في المدارس، لا عن طريق الفنّ. ليس في مقدور الفنّ وحده تغييرُ الناس، بل يجب أن تأتي الجهودُ في إطار التعليم والتدريب والعمل العلميّ كي تصير مؤثِّرة.

ولا أقصد بذلك أنّ التربية يجب أن تتمّ من خلال المدارس وحدها، وإنّما من خلال كلّ تلاقٍ بشريّ: الأمّ مع ابنها، والصديق مع صديقه، والمعلِّم مع طلّابه، والعاشق مع معشوقه، إلخ. لا يمكن أن يخلّف الكِتابُ أو الفيلمُ أو المقطوعةُ الموسيقيّة أثرًا مشابهًا لأثر الإنسان الذي نلتقيه بشحمه ولحمه.

* وهل ما زال في إمكان الإنسان الإيرانيّ تحقيقُ الخلاص الفرديّ، والتطلُّعُ إلى انعتاقٍ جماعيّ؟

ـــ الإيرانيون أبعدُ ما يكونون عن المجتمعات المتقدّمة. وهذا يعود إلى افتقارهم إلى النظام التعليميّ المناسب، وإلى عدم وجود علاقة جدّيّة ومستمرّة بالعالم الحرّ، وإلى غيابِ الإعلام القويّ ثقافيًّا وعلميًّا.

من الممكن أن تتخلَّق أعمالٌ فنّيّة بارزة في مثل هذه المجتمعات، لكنْ ليس في وسع هذه الأعمال تحقيقُ الخلاص للمجتمع. من الممكن أن تُكتب روايةٌ رائعةٌ عن الفقر الاجتماعيّ، في مجتمع جدّ فقير، مثل رواية عناقيد الغضب للكاتب الأمريكيّ جون شتاينبك. لكنّ هذه الرواية لن تستطيع أن تقضي على الفقر. تحقيقُ التنمية الاقتصاديّة، لا كتابةُ الراوية، هو الذي سيقضي على الفقر.

* هل تعتبر، إذن، أنّ العمل (والوجودَ البرّانيّ) أسبقُ على الشعور والوجدان والاعتقاد (الوجود الجوّانيّ)؟ وما هو "النظام التعليميّ المناسب" الذي قد يرفع الإيرانيين ــ من وجهة نظرك ــ إلى مصاف المجتمعات "المتقدّمة"؟

ـــ إنّ المؤسّسات الاجتماعيّة هي آليّاتُ بناء المجتمع الحقيقيّة، ويمكن أن يصير الفنّ والأدب، بل الدينُ أيضًا، عواملَ مؤثِّرةً من خلال هذه المؤسّسات. والنظام التعليميّ المناسب هو النظام الذي يصنعه "علمُ التربية والتعليم،" لا الإيديولوجيا أو التطلُّعاتُ السياسيّة. ذلك لأنّ الإشكالات الواقعيّة (المادّيّة والذهنيّة) تتطلّب إجاباتٍ علميّة. وما دمنا قد اكتفينا بالاقتناع والصمت ــ بدلًا من البحث عن هذه الإجابات ــ فإنّ الأمر سيُشْبه علاجَ حالة مرَضيّة شديدة باستخدام المُسكِّنات بديلًا للتدخُّل الجراحيّ.

* فلنحسب السؤالَ إلى مساحةٍ أعمق. كيف يُمكن أن يؤمن الإنسانُ الإيرانيُّ اليوم، خصوصًا إذا كان يرفض بعضَ ما يفرضه عليه النظامُ الحاكم، الذي يدّعي تمثيلَ الإسلام؟ وهل بإمكانه فعلًا أن يصل إلى الإيمان في مثل هذا السياق المُلتبس؟ أمْ أنّ ردّ الفعل الحتميّ ــ والمفهوم ــ سيجعله يرفض الإيمانَ كذلك؟

ـــ من الطبيعيّ أن يُنسَب سلوكُ الحكّام إلى الدين بسبب طبيعة النظام الدينيّ الحاكم. ومن هذا المنطلَق، فإنّني أعتقدُ أنّ الدين قد تضرَّر كثيرًا في روْع الإيرانيين بسبب سلوكيّات بعض السياسيين الخاطئة. ورفضُ المعتقدات الدينيّة، أو الاحتجاجُ عليها، تجربةٌ شائعةٌ في مجتمعنا، خصوصًا بين الشباب. وبصرف النظر عن سلوك السياسيين، ففي اعتقادي أنّ انعدام القدرة على الإجابة عن الإشكالات الفكريّة والنظريّة التي يطرحها الشبابُ، أو انعدامَ السعي إلى ذلك أصلًا، يمهّد الطريقَ لإلحاق الضرر بمعتقداتهم الدينيّة.

* أهذا يعني أنّك تعتبر الإيمان مسألةً عقليّةً بحتة، مثل بطل روايتك، وجهُ الله، مع أنّك نفيتَ ذلك ضمنًا في نهاية الرواية؟

ـــ الإيمان لا علاقة له بالعقل. الإيمان يبدأ حيث ينتهي العقل. فعندما يمكننا شرحُ موضوعٍ ما بعقلانيّة، فإنّ الإيمان به يصير بلا معنى. إذا تمكَّنّا، مثلًا، من أن نبيِّن أنّ المطر ناتجٌ من تبُّخر مياه البحر، وتكوينِ السحب، ثم تفريغِها لشُحنتها الكهربائيّة، فسيصير الإيمانُ بالمطر بلا معنى.

لكنّ الاعتقاد بوجود الله، ووجودِ حياة بعد الموت، وغائيّةِ الوجود: ذلك كلُّه يدخُل في دائرة الإيمان، لأنّ العقل لا يملِك أيَّ إجاباتٍ قطعيّةٍ في هذا الباب.

 

مستور: الإيمان لا علاقة له بالعقل، الإيمان يبدأ حيث ينتهي العقل

 

لكنّ الدين ليس إيمانًا فحسب. فكثير من أمور الدين، التي تقع في دائرة الأحكام والأخلاق والعلاقات الاجتماعيّة، تحتاج إلى تفسيرات عقلانيّة لأنّها تثير أسئلةً عديدة. وهي نفسها الأمور التي لا يستطيع "مُمثّلو الدين" إجابةَ الشباب عنها.

* هل تأذن لي بأن أسحب السؤال إلى مساحة أكثر شخصيّةً؟ أأنت مؤمن؟ وإنْ كنتَ مؤمنًا، فكيف تحقَّق هذا الإيمان؟ كيف أمكنك أن تستلَّه من بين الحطام السياسيّ والاجتماعي الذي خلَّفته الإيديولوجيا؟

ـــ أعتقد أنّ أحدَ أهمّ التقسيمات التي قد تُفسِّر لنا السلوكَ البشريّ هو تقسيمُ البشر إلى نوعين: مَن يؤْمن بوجود غائيّةٍ ومعنًى لهذه الحياة وهذا الكون، ومَن يراها عدمًا محضًا لا طائل تحته ولا شيء وراءه. أنا أعتقد أنّ هذا الوجود هادِفٌ وذو مغزًى، وليس عدمًا خُلِقَ بالمصادفة. أعتقد أنّ العالَمَ نتاجُ عقلٍ خلّاقٍ شديدِ الذكاء، ويجب تفسيرُ حياة الإنسان ووجوده في إطار هذا الاعتقاد. لقد اكتسبتُ جزءًا مهمًّا من هذا الاعتقاد عن طريق العلم، لا عن طريق الفلسفة واللاهوت. وهذا التصوّر أعمقُ كثيرًا وأعلى مرتبةً من تصوّر السياسيّ والمنظِّر الإيديولوجيّ. إنّ الأديان جمعيها تؤمن بغائيّة العالم، ويحمل الكثيرون من كبار الفيزيائيين والبيولوجيين هذا الاعتقادَ نفسَه ــ ولكن اعتمادًا على العلوم التجريبيّة، لا على الفلسفة أو اللاهوت. ولقد حملتني تجاربي الشخصيّةُ إلى الإيمان أنا الآخر، وليس إلى العدميّة والإلحاد.

* ألهذا السبب كان كلُّ وجود، في أعمالك الفنيّة، غائيًّا وهادفًا ومُخطًّطًا له، بما في ذلك وجودُ الجمادات؟

ـــ أعتقد أنّه ليست ثمّة حدودٌ واضحة وظاهرة بين بُعدَي هذا العالم، المادّيّ والغيبيّ، إذ يبدو أنّ الوجود كلٌّ متكاملٌ معقَّدٌ مُكوَّنٌ من هذيْن البُعديْن المُتشابكيْن. ذلك أنّ للقدر والمصير والموت والروح والعشق والخوف والإيمان وجودًا حقيقيًّا، مثل وجود الشمس والمجرّات والجاذبية والذرّة والنور والثقوب السوداء.

* هل يرتبط تحقيقُ الإيمان في السياق الاجتماعيّ والسياسيّ الإيرانيّ اليوم، بوصفه سياقًا مهزومًا بصورةٍ ما (كما يُعبِّر إنتاجُه الفنيّ)، بالاستقذار الصوفيّ للدُنيا والانسحابِ منها؟ هل سنشهد في المرحلة القادمة انسحابًا اجتماعيًّا من المجال التاريخيّ حفظًا للإيمان؟ أمْ سيطّرد الأمرُ بالغالبيّة إلى نبذ الإيمان كلّيًّا للاحتفاظ بالمكاسب المادّيّة الحديثة؟

ـــ أعتقد أنّنا عندما نستقلّ الطائرةَ لننتقل من الشرق الأوسط إلى أوروبا الغربيّة، فإنّنا لا نسافر في الجغرافيا وحدها، بل داخل التاريخ أيضًا. ويبدو لي أنّ مستقبلَ مجتمعنا الإيرانيّ سيتشابه مع المجتمع الغربيّ الحاليّ، إذ أتصوّر أنّ نوعًا من الثقافة العالميّة في طريقه إلى التغلُّب الكامل على الثقافات المحلّيّة كافّةً. ومن ثمّ، فسوف نشبههم عاجلًا أو آجلًا.

ومع ذلك، فإنّ هذا لا يعني ضمورَ المعنى وتآكُلَ الإيمان. فالإنسان دائمُ البحث عن المعنى. إنّ طلب المعنى هو جوهرُ الإنسان وماهيّتُه. ولن نشهدَ أبدًا هيمنةً للمادّيّة، بمعنى الجحود الكامل للغيب. إنّ العَلمانيّة عندي ليست جحودًا لعالم الغيب، بل فصلٌ للإيمان عن السلطة.

* لماذا يحفل الأدبُ الإيراني اليوم برموزٍ وإشاراتٍ تُعبِّر عن ضيق الأفق ووأد الأمل؟ أو تعبِّر، من جهةٍ أخرى، عن تمركُزٍ حول الذات الفرديّة ولذّاتها؟ هل غاب التجاوزُ الذي كانت أفلامُ مجيد مجيدي ــ مثلًا ــ تُعبِّر عنه خلال العقديْن الماضييْن؟

ـــ الأدب الحديث، على عكس الأدب الكلاسيكيّ، تعبيرٌ صارِخٌ عن هيمنة النزعة الفرديّة. وعندي أنّه ليس للمؤلِّف، وللفنّان بشكل عامّ، أيُّ رسالةٍ ومهمّةٍ عدا رواية عالمه الجوّانيّ والفرديّ. الأدب الأصيل هو الأدب الذي يعكس شخصيّةَ الإنسان، لا ذاك الذي يوظَّف في خدمة الإيديولوجيا أو الرسالة الاجتماعيّة. ومن الطبيعيّ أنّ الشخص المؤمن بالمسؤوليّة الاجتماعيّة سيعكِس عملَه مثلَ هذه المسؤوليّة. لكنْ على الفنّان أن يكون شديدَ الحرص على تصوير ذاته ورسمِ معالمها، لا الغرق في وجودِ غيره. نفسُه الصغيرة أكثرُ أهمّيّةً وقيمةً من الآخر الكبير!

* أتفق معك في أهمّيّة عكس الفنّ للعالم الجوّانيّ والفرديّ؛ فهذا هو جوهرُ تفرُّده. لكنْ ألا يعني ما تقوله فصلَ الفنّان والفنّ عن كلّ سياق، ومن ثمّ تحطيمَ السرديّات الكبرى لصالح سرديّات فُسيفسائيّة تجعل الإيمانَ تجربةً غنوصيّةً ليس لها أيُّ انعكاسات على الواقع؛ وبدلًا من أن تدور الأعمالُ الفنّيّة داخل سرديّات كبرى ــ مثل الأدب الكلاسيكيّ ــ فإنّها تتحوّل بذاتها إلى سرديّات إيمانيّة صُغرى تزيد الواقعَ انقسامًا وتشظّيًا وتصارُعًا؟ إنّ رفض الأديب الحديث للتوظيف الإيديولوجيّ أمرٌ مفهومٌ ومُعتبَر، لكنْ لِمَ يضع نفسَه على طرف نقيض مع "رسالة اجتماعيّة" مفترضة؟ أيكون تصرّفُه مجرّدَ ردّ فعل على كثافة التوظيف الإيديولوجيّ داخل سياقه الاجتماعيّ والثقافيّ؟ ثمّ ألا يعني هذا أنّك تؤمن ــ في التحليل الأخير ــ بعبثيّة الأدب، على الرغم من إيمانك بغائيّة الوجود؟

ـــ لا أؤمن برسالة الفنّان الاجتماعيّة. إنّ الفنّان، وإنْ كان صاحبَ رسالة، فهو صاحبُ رسالة فرديّة كُلّيًّا، على الرغم من أنّ إحدى هذه الرسالات الفرديّة قد تكون المطالبة بالعدل أو حماية البيئة أو التصدّي للجهل. فالحال أنّ هذه الموضوعات تُطرح من منظور فرديّ تمامًا، لا من وجهة نظر اجتماعيّة. لهذا، فالفنّان ملتزم بنفسه فقط. ولهذا أيضًا فإنّ قدرتَه على التأثير ضعيفة. وإذا كان للفنّانين تأثيرٌ أكبر، مثلهم في ذلك مثل المُصلحين الاجتماعيين، فسيصير العالم أفضلَ حالًا بغير شكّ، إذ سيُشاهِد الجمهور الأفلام ويقرأ الروايات ويستمع إلى الموسيقى أكثرَ من إنصاته إلى السياسيين والمصلحين الاجتماعيين. لكنّهم لن يتغيَّروا، لأنهم لن يتأثّروا!

* ألا ترى فارقًا بين التأثُّر والاستجابة؟ فقد يتأثّر المتلقّي بالعمل الفنّيّ، لكنّه يعجز عن الاستجابة له لسببٍ أو ﻵخر. ثمّ ألا يُمكن أن يصير العملُ الفنّيّ ــ جنبًا إلى جنب مع التعليم ــ بناءً فوقيًّا (بالاصطلاح الماركسيّ) لبناءٍ تحتيّ قد تُمثِّله المؤسّساتُ الاجتماعيّة والعملُ السياسيّ والإصلاحيّ؟

ـــ قد يكون الفنّ مؤثرًا، جنبًا إلى جنب مع المؤسّسات الاجتماعيّة، ولكنْ ليس بالمعنى الماركسيّ الذي يعتبر الثقافةَ بناءً فوقيًّا والاقتصادَ بناءً تحتيًّا. فالثقافة تشمل التربيةَ والتعليم، وتؤثِّر هي الأخرى في الإنسان بصورة أبطأ، لكنْ بشكل مستمرّ. وبهذا المعنى، فإنّ الثقافة هيكلٌ أساسٌ للبنىَ الاجتماعيّة، والأخلاق والدين والفنّ والقيم الإنسانيّة من مكوِّنات هذه البنية، مع أنّ حصّة الفنّ ليست كبيرة.

* الحقّ أنّنا لا نريد لهذا الحوار الثريّ أن ينتهي، لكنْ لا مناص لنا من ختمه. فدعنا نختم هذه الرحلة الممتعة بسؤالٍ يُكمِل صورةَ مصطفى مستور في وعي القارئ العربيّ. تُرى هل للتيّارات والمدارس الأدبيّة مكانةٌ ودورٌ في نفس أديبنا ووعيه ورحلته مع الكتابة؟

ـــ بمقدور المدارس الأدبيّة أن تُكسِبَكَ أدواتٍ عديدة تستطيع من خلالها التمييزَ بين القصص. وقد تعلمك فنَّ كتابة القصّة. لكنْ لا يمكنها أن تحقن وجدانَكَ بروح هذا الفنّ وإلهامِه. الكتابة ضربٌ من الجيشان الروحيّ والتأجج الذهنيّ اللذيْن لا يمكن نقلُهما من شخص إلى آخر. أما المصاب أصلًا ــ وبشكل ذاتيّ ــ بذيْنك الجيشان والتأجّج، فتمْكنه الإفادةُ من المدارس الأدبيّة لتنمية موهبته وإنضاجها إنضاجًا سليمًا.  

ومع ذلك، وعلى الرغم من أنّ الإصابة بهذا التوهُّج الجوّانيّ فضيلة فنّيّة، فإنه غير مُحبَّذ إنسانيًّا، إذ تصحبه المعاناةُ والألمُ والحزن. إنّ ظهور القصّة الجيّدة يعني أنّ كاتبها قد أمعن النظر في أمور وتفاصيل لم يكن يحبّ الانشغالَ بها في الظروف العاديّة. ذلك أنّ القُبح الإنسانيّ وجروحَ الآخرين ومعاناتهم ليست ممّا قد يحبّ أيُّ إنسان الانشغالَ به. أمّا الكاتب، فيجب عليه الغوصُ فيها، وسبرُ أغوارها، وتشريحُها، حتى يستطيع الكتابةَ عنها. وهو ما يقترِب في مشقَّته عندي من الحماقة، بل من الجنون، أكثر من كونه عملًا فنّيًّا.

 

طهران


عبد الرحمن أبو ذكري، أديب وباحث ومترجم وناشر مصريّ. له أكثر من مئة مقال وورقة بحثيّة في موضوعاتٍ متنوّعة في الفكر الإسلاميّ.

** يوسف بدر، أكاديميّ ومترجم وباحث في الدراسات الشرقيّة.

[1] الإصدارات جميعها عن تنوير للنشر والإعلام، القاهرة.

[2] مصطفى مستور، ثم فاح النور من يديك (القاهرة: تنوير للنشر والإعلا، 2018)..