الركض وأثرُه في صحّتنا العقليّة وإبداعنا
30-07-2018

 

"يَخفق قلبُكَ سريعًا. تشعر أنّ مسامَّك تتفتّح كلّها. تسرع لتحطّمَ وقتك السابق، ثم تبطئ كي ترفع من قدرتك على التحمّل. لستَ ذاهبًا إلى أيّ مكان، ولا يهمّ إلى أين قد تصل. ومع ذلك فإنّك تركض من دون توقف، وسعيدٌ بما تفعله."

هذا بعض ما كتبتُه في يوميّاتي عن أثر الركض، الذي أمارسُه يوميًّا، بمعدّل ساعة، منذ سنةٍ كاملة. بهذه الطريقة نستطيع أن نُفسّر الاستنتاجاتِ العلميّة التي توصّل إليها، كما سنرى، باحثون عن تأثير الركض لمسافات طويلة في حالتنا الذهنيّة ــ ــ وهي استنتاجاتٌ تؤكّد ما يعْلمه العدّاؤون من تجاربهم الشخصيّة. فالركض وسيلةٌ لمحاربة الاكتئاب، ولاستعادة التركيز، وللتحرّر من روتين العمل المكتبيّ. قد يصعب التصديقُ أنّ الركض يفعل ما يفعله البروزاك (أحدُ الأدوية الشائعة المضادّة للاكتئاب)، لكنّ ما بيّنته الأبحاثُ العمليّة أثبت أنّ الركض مسافاتٍ طويلةً قادرٌ على تخفيض هورمون الضغط النفسيّ (الكورتيزول).[1]

فعلى سبيل المثال، توصّل بحث أجراه فريقٌ من المتخصِّصين من معهد كارولينسكت (السويد) إلى أنّ للركض قدرةً على معالجة سببٍ بيولوجيٍّ واحد على الأقلّ، مسؤولٍ عن الضغط النفسي.[2] فحين نكون تحت الضغط، تُحوِّل العمليّاتُ الأيضيّة (metabolic processes) في الكبد مادّةَ التريبتوفان إلى كيورينين،[3] ذات العلاقة بارتفاع الضغط النفسيّ، وتتعرقل مهمّةُ التريبتوفان، المسؤولة عن امتصاص مادّة الميلاتونين التي تقوم بتحسين نوعيّة النوم. كما تتعرقل مهمّةُ السيروتنين، المسؤولة عن مشاعر السعادة.

وفي المقابل، فإنّ إنزيمة (خميرة) الكيورينين، عند ممارسة الرياضة، تتراكم في العضلات، وتحُول دون وصولها إلى الدماغ.[4] وبهذه الطريقة، يصير تمرينُ العضلات عبر الركض تقنيّةً مهمّةً من أجل تنقية الدم والتخفيف من احتمال الإصابة بالاكتئاب. والعلاقة بين الاكتئاب والركض علاقة تكامليّة. فالشعور بالاكتئاب قد يدفعكَ إلى الركض، والركض بدوره يساعدك على التخلّص من الألم النفسيّ الذي تعيشه، أو يمنحك قدرةً أكبرَ على التأقلم معه.

 

عداء يركض تحت المطر في ماراثون بيروت الدولي (وسام أندراوس)

 

ثم إنّك لستَ مضطرًّا إلى إنهاء الركض بمجرّد تحسّن حالتك النفسيّة ــ ــ فالركض ليس دواءً تخفّف من جرعاته كلّما اقتربتَ من مرحلة الشفاء. فقد تدفعك النتائجُ الجيّدة التي منحك إيّاها الركضُ إلى تطوير مهارتك الرياضيّة، وقد تتحوّل من هاوٍ للركض إلى عدّاء محترف.

وهذا ما حدث لي.

فقد بدأتُ ممارسة الركض من أجل التخلّص من القلق والاكتئاب، عقب أكثر من حادثة شخصيّة كبيرة تعرّضتُ لها. وكان الركض هو الخطوةَ الأولى التي اتّخذتُها للتعرّف إلى العالم من جديد بعيْد ذلك. فقد منحني الركضُ مجموعةً من المهارات ساعدتني على إدارة التوازن بين أفكاري ومشاعري، وأفادني التدرّبُ المنتظم على الانضباط. وخلال أقلّ من سنة استطعتُ أن أشارك في عدة سباقات تراوحتْ بين 5 كيلومترات و21 كيلومترًا.

***

بيّنتْ دراسةٌ لعالم الانثروبولوجيا التطوريّ في جامعة أريزونا، ديفيد ريتشليد، الاختلافاتِ الواضحةَ بين نشاط دماغ العدّائين، والأشخاص الذين لا يمارسون الركض. فقد لاحظ فريقُه ارتفاعًا في انتظام نشاط الحركة في منطقة الدماغ، وتحديدًا في مقدّمته، حيث الوظائف التنفيذيّة والذاكرة العمليّة.[5]

ثمّ ظهرتْ دراسةٌ أخرى لتؤكّد أنّ الركض يتجاوز أنواعًا أخرى من الرياضة، كالمشي وركوب الدراجات، من حيث إطالة أمد الحياة. فالركض ساعةً قد يترجَم إلى سبع ساعات إضافيّة، أي 3 سنوات إضافيّة، في حياة الراكض.[6]

***

ثمّ إنّ الركض، على كونه رياضةً فرديّةً إذا ما قورن بالألعاب الجماعيّة ككرة القدم، قد يمنح الراكضَ شعورًا بالانتماء إلى مجموعة، وذلك حين يتحول من هاوٍ إلى عدّاءٍ يشارك في البطولات ضمن نوادٍ وفِرق.

***

والركض مناسبةٌ لتحدّي الذات، لا الآخرين فقط؛ الأمرُ الذي يساعد العدّاءَ على زيادة ثقته بنفسه وتطوير طموحاته. فالركض، خلافًا لألعابٍ أخرى، ليس بالضرورة عبارةً عن الانتصار على لاعبٍ آخر؛ فقد يفوز عدّاءٌ بسباقٍ معيّن لكنّ فوزه يبقى ناقصًا إنْ لم يحطّم الرقمَ القياسيّ لمسافةٍ سجّلها لاعبٌ آخر في منافسةٍ أخرى. من هنا، يغدو منافسُكَ الأصعب هو نفسك في كلّ سباق.

 

مجموعة من الهواة يتدربون  لماراثون بيروت الدولي 2018

 

وأخيرًا، فإنّ الركض يساعدنا على إطلاق أفكارنا أيضًا. في هذا الصدد، كتب الروائيّ اليابانيّ الشهير هاروكي موراكامي تجربتَه في ماذا أقول عندما أتكلّم عن الركض، فتحدث عن علاقة الركض بالكتابة، وكيف تتزواج الإرادةُ مع الألم. موراكامي، الذي شارف على السبعين، ركض أكثر من 25 ماراثونًا، ولا يزال يركض الى اليوم.

أمّا الصحفيّ والكاتب مالكوم غلادويل فيرى أنْ لا حاجة إلى الاستماع إلى  الموسيقى أثناء الركض نظرًا إلى المتعة الهائلة التي يمنحه إيّاها الركضُ وحده؛ فالركض هو وقت الراحة الذي ينتظره بعد تمضية وقته في البحث والكتابة. يشكّل موراكامي وجلادويل وغيرُهما نماذجَ تتحدّى الصورةَ النمطيّة التي لازمت الكتّابَ في الأواسط الإعلاميّة، أنهم أشخاصٌ "لا يهتمّون بصحتهم،" أو "لا يستطيعون أن يُنجبوا أفكارًا من دون سجائر أو حشيش أو مخدِّرات أو كحول." فالكاتب يستطيع أن يكون رياضيًا أيضًا، بل قد تغدو الرياضة دافعًا إلى المزيد من الكتابة.

بيروت

[1] Christopher Bergland.(2013).Cortisol: Why the "Stress Hormone” Is Public Enemy No. 1," https://bit.ly/2HvEVrY
[2] Ben Martynoga. "What does running do to your brain?" https://bit.ly/2tgJH7 ibid
[3] https://bit.ly/2LK3Ytk
[4] Matrynoga, op.cit
[5] op.cit
[6]  https://nyti.ms/2p7Y0HK

نور صفي الدين

 صحافيّة وعاملة في الشأن الاجتماعيّ. أشرفت على موقع مجلة الآداب الإلكترونيّ بين نيسان  ونهاية تشرين الثاني من العام 2018. كتبتْ في العديد من الجرائد المحلّيّة والعربيّة. صدر لها في الشعر: أردتكَ عندما رحلتَ، وحين تراكم الموتُ ولم يأتِ. وهي في صدد كتابة رسالة الماجيستير في علم الاجتماع.