الطائرة الثالثة
25-01-2019

 

صوتُ الطائرات ليلَ أمس عبثَ بنومي. أظنّ أنّ إقلاعَ هذا العدد خلال فتراتٍ قصيرة سبّبَ لي توتّرًا عصبيًّا يفوق قدرةَ احتمالي. استغرقني الأمرُ بعضَ الوقت كي أعرفَ من أكون، وأينَ أنا لحظةَ استيقاظي. شيءٌ يشْبه الرُّهابَ يعتريك حين يوقظونكَ عنوةً وأنتَ في المستوى السابع من غيبوبتك المسمّاة "نومًا."

حربٌ قادمة؟ مناورةٌ عسكريّة؟ استعراض؟ لا فرق. الأمرُ من غرفة نومي، على سريري، غريب، مزعج.

لكنْ، لا بأس الآن، يبدو أنهم هدأوا قليلًا.

صوتٌ آخر بدأ للتوّ في رأسي. الصوت في الرأس مؤلم. يقْرعُ سكينتَك. يختلف عن أيّ صوت آخر. فالصوت الآن لا تسمعُه، بل يقتحمُك. يسكنُكَ. يسري تحت جلدك. يَخِزُ عظمَك وخزًا.

لماذا الآن؟ لِمَ لَمْ يتكلّم قبل أن أمتهنَ الكتابة؟ قبل كلّ هذه الفضائح التي ألبستُها الورودَ ثم أهديتُها العالمَ؟ قبلَ سماحي بتلصّصِ التاريخ، بمن فيه، على ندوبي؟

يتدخّل صوتي البائسُ هنا. "لا بأس، عندما تموتين، لن تؤلمَكِ الندوب." يعود الصوتُ: "لماذا كتبتِ كلَّ هذا؟" يردّ صوتي مختنقًا: "أسباب كثيرة تداخلتْ في سنواتِك." يقول: "هراء! لا شيء يستحقّ كلَّ ذاك الانكشاف!"

يغصّ صوتي البائس، مثلَ طيرٍ يتعثّرُ بغيمة. يتلعثم: "كتبتِ لتُنهي ذاك الألمَ." يقول: "انتهى الآن؟" يهمسُ صوتي متردّدًا وأكادُ لا أسمعُه: "سينتهي."

تخترق طائرةٌ أخرى الصمتَ اللابثَ بين صوتيْنا. أتنهّدُ عميقًا. فرصةُ تماسكي طالت. تمزّقَ جدارُ السماء بقوّة الهدير. رأيتُه! لم أنزعج. بل ليته يطول. فلتبدأ الحربُ الآن! فلتحترق البلادُ هذه اللحظة!

ارتديتُ معطفًا لا أحبُّ هيئتي فيه، لكنّني كنتُ قد علّقتُه عند باب الغرفة تأهّبًا لهروبٍ طارئ. الزلازل والكوارث ونوباتُ هلعي تتلاحق بسرعةٍ مؤخّرًا في هذه المدينة. وضعتُه على كتفي قبل عبور الطائرة إلى سماءٍ أخرى. نزلتُ السلالمَ، والضياعُ سارٍ في خطواتي، والرعشةُ تتنقّل بين أناملي.

بلغتُ أوّلَ الزقاق عندما انتهت أزمةُ السماء، وأعصابي. عبرت الطائرة بسلام. لم أسمعْه. نجحتُ في هروبي. انتهى الصوت. عدتُ إلى البيت. كتبتُ سطريْن في الجوّال، ووضعتُهما على مرأًى من العالم. ثم رقصتُ طويلًا. احتفلتُ بهزيمة الصوت. "أرأيت؟ سينتهي ألمُها هناك،" قال صوتي البائس، منتعشًا من شهقةِ ثقة.

لكنْ، بعد ابتعاد الهدير تمامًا، شعرتُ به من جديد. كان يبتسم. الشعور بالصوت يختلف عن الشعور باللمسة، بالنفَس. الشعور بالصوت مرعب، آسر، يأخذ من روحكَ حيّزًا، يستوطن إدراكَك، مثلَ وحيٍ عَبَرَ من دون أن تعرف.

انتظرتُ طويلًا أن يصرخَ صوتي البائسُ المنتعشُ في وجهه: "قل شيئًا!" لكنّني فقدتُ صوتي. كانت الطائرة الثالثة قد اقتربتْ. فتحتُ نافذتي. لمحتُها. استطعتُ، قبلَ عبورها، أن ألوّحَ له. كان مايزال مبتسمًا. وطائري كاد يخرج من قفصه جذلانَ، لولا أن أزرارَ قميصي أعادت إليه صوابَه.

لبنان

مريم ميرزاده

كاتبة وباحثة إيرانيّة. مُجازة في العلوم الطبيعيّة (البيولوجيا) من الجامعة اللبنانيّة. تتابع دراساتها العليا في الفلسفة. لها مؤلَّفات وأعمال روائيّة، منها: عروس الحرب (2014)، الشاي الأخير (2015)، انا لا أذكر (2016)، صلاة الوردة (2018).