"الطفل الخالد" والحاجة إلى الحبّ الثوريّ
31-10-2018

 

إنّ أسوأ جريمةٍ للإمبرياليّة هي قمعُها للأفكار والقيم التي تنادي بتغيير العالم. فعلى امتداد الكرة الأرضيّة، تُسمِّم طريقةُ الحياة الغربيّة الحضاراتِ التي تعيش تحت مخالب الهيمنة الاستعماريّة الجديدة. ويستمرّ نظامُ تفوّقِ العِرق الأبيض في تقسيم حركات النضال من أجل حريّة المضطهَدين في العالم، وتغدو تأثيراتُ هذا الهجوم الإيديولوجيّ والروحيّ  واضحةً: إنّنا لنهتمُّ بأن نكون على حقٍّ أكثرَ من اهتمامنا بأن نصيرَ أفضل، وإنّنا لنسعى إلى الإذلال بدلًا من تعليم الفارق بين الحقّ والباطل. إنّ مَن يَمتلكون المعرفةَ يخونون الناسَ إنْ هم احتفظوا بها من أجل مكاسبهم المهنيّة أو لتعظيم ذواتهم. وإذ يحاصرُنا تشاؤمُنا واحتقارُنا للناس الذين يجسّدون تناقضاتِ مجتمعٍ متخلّف، فإنّنا نفقد الأملَ في مستقبلٍ أفضل.

لذلك، فإنّ ثمّة حاجةً ملحّةً إلى قيادةٍ جديدةٍ تتصادى أفكارُها مع المضطهَدين والمستغَلّين في العالم من أجل إضعاف الأسباب الأساسيّة للحرب والفقر. وتحقيقُ ذلك هو من واجب شبابٍ وكبارٍ، ورِثوا مسؤوليّة بناء عالمٍ أفضل للأجيال الصاعدة. غير أنّ هذه المهمّة لن تتحقّق من دون حبٍّ فائقٍ للبشريّة. وهذا ما يتمثّل في مقالة و.إ. ب.دي بويز، "الطفل الخالد" (The Immortal Child)، التي تشكّل مرتكَزًا روحيًّا وأخلاقيًّا لازمًا لبناء رجالٍ ونساءٍ يصبحون أساسًا لبناء عالمٍ جديرٍ بالأطفال.

يضع .إ. ب.دي بويز، الباحثُ الثوريّ الأميركيّ العظيم، ذو الأصول الأفريقيّة، الشجاعة ورفضَ المساومة مبدأين حتمييْن في نضالنا من أجل أن يكون التعليمُ السياسيُّ أداةً أساسيّةً لإنهاء الحرب والفقر. فمن خلال تجذير أنفسنا في "الحبّ الثوريّ،" الذي جعله أساسًا في مقاله ذاك، سنكون قادرين على تحطيم سُمِّ القيم الغربيّة الرجعيّة، وعلى بناء قيادةٍ جديدةٍ تلتزم توحيدَ شعوب العالم ضدّ الإمبرياليّة سعيًا لتحقيق العدالة للبشريّة جمعاء.

 

معاملةُ الأطفال

بهدف إدراك جوهر مقال "الطفل الخالد،" علينا أن نفحصَ حالة الشباب اليوم. هذه الحالة تميط اللثامَ عن نفاق النظام الإمبرياليّ. فاليوم، في غزّة تحديدًا، يتعرّض أكثرُ من مليون طفل لعمليّة تسميمٍ ممنهجٍ من قبل دولة  "إسرائيل،" وذلك بسبب تلوّث أكثر من 90% من المياه.[1] أمّا المدارس الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة، فهدفٌ لتدميرٍ مستمرٍّ من قِبل الجيش الإسرائيليّ.

في فيلاديلفيا، التي تُعدّ أفقرَ مدينةٍ كبيرة في الولايات المتحدة، تضاعف معدّلُ جوع الأطفال ثلاث مرّات في العقد الماضي. وتصدّرتْ هذه المدينةُ العناوينَ البارزةَ في الإعلام الأميركيّ سنة 2013 عندما أغلقت الحكومةُ 23 مدرسةً حكومّيةً في الأحياء ذاتِ الأكثريّة التي تعود إلى أصولٍ أفريقيّة، في حين بدأتْ في الوقت نفسه مشروعًا لبناء سجنٍ بقيمة 400 مليون دولار![2] هذا يحدث في الولايات المتحدة، حيث تتجاوز الميزانيّةُ العسكريّة 600 مليار دولار، وحيث تشكِّل الأموالُ التي تُنفق على التعليم في الولايات المتحدة بأكملها جزءًا بسيطًا من الإنفاق الباذخ على الأسلحة المستخدمة في قتل الأطفال في جميع أنحاء العالم الثالث، أكان ذلك في اليمن أمْ سوريا أم الصومال.

.إ. ب.دي بويز، الذي يشير أيضًا إلى التكلفة الباهظة للحرب العالميّة الأولى، وإلى الافتقار إلى المال المخصَّص للتعليم، يقول: "إنّ طريقة معاملة الطفل تنْبئ بمستقبل العالم ومعتقداته. فكلُّ الكلمات، وكلُّ الأفكار، تقود إلى الطفل ـــ إلى ذلك الخلود الشاسع، وإلى الإمكانيّات اللامحدودة الكاسحة التي يمثّلها الطفل." إنّ الأطفال، حمَلةَ التغيير في المجتمع، هم الذين يتأثّرون أكثرَ من  غيرهم بجبنِ ولامبالاةِ مجتمعٍ يَقبل بالوضع الراهن، المتّسمِ بالعنف والاستغلال.

 

ثمّة حاجةً إلى قيادةٍ جديدةٍ تتصادى أفكارُها مع المضطهَدين في العالم من أجل إضعاف أسباب الحرب 

 

 

نظامُ معتقداتٍ رجعيّ

لكي تحيا آلةُ الحرب، ينبغي الاعتمادُ على جهل الجماهير، وعلى السلبيّة التي تفرضها عليهم تلك الآلةُ من خلال البروباغندا. في "الطفل الخالد،" يشكّك .إ. ب.دي بويز بالقيم الغربيّة، قيمِ الحبّ والإنسان، المتأصّلةِ في المصالح الأنانيّة. يقول: "معظمُ الناس اليوم لا يمكنهم تخيّلُ حريّةٍ لا تشتمل على عبوديّة شخصٍ ما. هم لا يريدون المساواةَ لأنّ لذّة سعادتهم تأتي من امتلاك أشياء لا يمتلكها الآخرون."

هذا القول يبدو صائبًا بشكلٍ خاصّ بعد النظر إلى أساليب الثقافة الغربيّة الشعبيّة التي تعلّم الشبابَ الممارسة الرجعيّة للحصريّة أو الاستبعاديّة (exclusivity) بدلًا من التضامن (solidarity). ويمكننا أن نرى ذلك في مجال إنتاج المعرفة، التي تحوّلتْ في حدّ ذاتها الى سلعةٍ في العديد من الجامعات التي تَخدم مصالحَ الإمبرياليّة. ذلك أنّ معرفةَ التاريخ من دون وضع أفكاره موضعَ التطبيق تُستخدم وسيلةً لبناء حياةٍ مهنيّةٍ بدلًا من خدمة البشريّة وبناء مستقبلٍ أفضل.

إنّ الثوّار، أمثال فيدال كاسترو، قائدِ الثورة الكوبيّة، يُعْبدون كأنّهم أيقونة. ومن يمارسون هذه العبادةَ يتجاهلون تمامًا أنّ أولويّةَ هؤلاء الثوّار كانت خدمةَ الناس، من خلال رفع مستوى وعيهم بواسطة التعليم السياسيّ، ويتجاهلون إيمانَ هؤلاء الثوّار بأنّ هزيمةَ صنّاع الحرب لن تتمّ من دون كسب الشعب إلى جانبهم، وأنّ هذا الكسب لن يتحقّق إلّا إذ تقبّل الثوّارُ أولئك الناسَ بكلّ تناقضاتهم. والحال أنّنا نعيش في مجتمع يُسارع إلى استبعادِ كلّ من يمتلكون قناعاتٍ مغايرة، بدلًا من رؤية إمكاناتهم وإرشادهم إلى فهمٍ أكثر تطوّرًا. هذا الهجوم الإيديولوجيّ الماكر، الذي يَنشر سلوكَ الفردانيّة والتشاؤم، ينجح إلى حدِّ أنّ أكثر الناشطين ثقافةً يُخفقون، هم أنفسُهم، في تنظيم مجتمعاتهم. ونتيجةً لذلك يَضعف مستقبلُ النضال العالميّ ضدّ الإمبرياليّة.

 

إ. ب.دي بويز: إنّ طريقة معاملة الطفل تنْبئ بمستقبل العالم ومعتقداته

 

تصوّرُ مستقبلٍ مشترك للبشريّة

لكي نبني، فعلًا، حركةً تتحدّى إيديولوجيا الغرب، علينا أن نتحمّل مسؤوليّةَ تحوّلنا إلى كائنات بشريّة جديدة، متجذّرةٍ بشكلٍ غير مشروط في تحقيق أفضلِ مصلحةٍ للشعب. وهذا ما يتمثّل في نهج .إ. ب.دي بويز:

"إذا كانت للمعركة العظيمة لحقوق الإنسان ضدّ الفقر، ضدّ المرض، ضدّ التحيّز للونٍ [على لون]، أن تنتصر، فإنّها لن تنتصر في عصرنا نحن، بل في عصر أبناء أبنائنا. إنّ عصرنا هو دمُ المعركة وغبارُها؛ أما عصرُهم فعصرُ [حصدِ] مكافآت النصر... من واجبنا، إذن، تحقيقُ الخلود لدم السُّود [للعِرق الأسود]، من أجل أن يأتي يومٌ في هذا العالم المظلم يُلغى فيه الفقرُ، ويحدَّدُ الامتيازُ بحسب كفاءة الفرد، ولا يعود لونُ جلد الإنسان حائلًا دون رؤية روحه."

يضع مفهومُ "الطفل الخالد" حبَّ الأطفال فوق كلّ مصلحةٍ ذاتيّة، ومن ثمّ يعطي النضالَ من أجل عالم مختلف جذريًّا الأولويّةَ المطلقة. إنّ "حبّ الطفل هو الذي يدفعنا إلى التشكيك في قيمة الحبّ البورجوازي، أو الرومانسيّ، وفردانيّتِه الأنانيّة." هذا هو  الجوهرُ الحقيقيّ لهذا المفهوم. علاوةً على ذلك، فإنّ استخدام كلمة "الخالد" يستدعي معركةً ثابتة لا تنتهي أبدًا من أجل التحرّر من الاضطهاد. فالساعون إلى التغيير يجب ألّا يساوموا في معركتهم ضدّ الرجعيين، لأنّ الأطفال هم الذين يعانون تداعياتِ قراراتنا. علينا أن نأخذ في الاعتبار دائمًا الأجيالَ القادمة، التي نناضل من أجلها، وأن نسترشدَ بشعورٍ كبيرٍ من الإيمان بكلّ كائنٍ بشريّ؛ ذلك لأننا لا نستطيع تغييرَ العالم من دون الآخرين.

 

حبُّ الشعب حبًّا ثوريًّا

إنّ الانعدام الحاليّ لمن يقود حركةً عالميّةً ثوريّة ضدّ القوى التي تقوم بتجويع البشرية وشنّ الحروب يتكشّف باستمرار مع تعمّق أزمة الإمبرياليّة. لكنْ، على ما يقول العظيم الدكتور جورج حبش: "إنها العتمة التي تشتدّ، استباقًا لانبلاج الفجر."[3]

في مجتمعات السود في أمريكا، وفي فلسطين، وفي مجتمعات أفريقيا وآسيا، يكمن جنينُ الثورة العالميّة. في كلّ مكان، بدأ الناسُ يرفضون الغربَ قوّةً وحيدةً مهيمنةً على العالم. وعليه، فإنّه تقع على عاتقنا مسؤوليّةُ تحقيق هذه الرؤية لبناء عالمٍ جديد من خلال حبّ الشعب حبًّا ثوريًّا. فمن خلال قتالنا من أجل "الطفل الخالد،" ندرك أنّ أعلى شكلٍ من أشكال هذه القوة الانقلابيّة يمكن أن يتجلّى في داخلنا، وبذلك نسعى إلى خلق عالمٍ جديرٍ بأطفالنا.

الولايات التحدة

 

[1] http://www2.philly.com/philly/news/pennsylvania/philadelphia/childhood-hunger-philadelphia-nearly-triples-mariana-chilton-food-insecurity-20170918.html
[2] http://www2.philly.com/philly/news/hunger-deep-broke-philly-solutions-journalism-20180518.html
[3] د. جورج حبش، "فلسطين بين الحلم والواقع: هل اقتربنا منها أمِ ابتعدنا عنها؟"، مجلة الهدف، العدد 1302، 2000.
 

 

براندون هايدو

منظِّم طلّابي يعمل خارج شمال فيلادلفيا. وهو عضو  في منظّمة السلام الإيجابي ومدرسة السبت الحرّة.

فاتن شريم

ناشطة اجتماعيّة وحقوقيّة من لبنان. حائزة شهادة في الترجمة.