الكُرد والحداثة: صدمةُ الاحتكاك بالغرب وفَواتُ الدولة
28-01-2019

 

فتحت الأزماتُ المتواصلة في المنطقة العربيّة والشرق الأوسط المجالَ أمام قضايا كانت مهمَلةً أو مقموعةً إلى حدّ كبير. بل إنّ "الاكتشاف" المتزايد للكُرد، بالقدر الذي زاد من الحديث عنهم في الإعلام وعوالم السياسة، قد زاد أيضًا في إقصائهم عن حيّز البحث العلميّ والمعرفيّ، بحيث بقيت الصورُ النمطيّةُ عنهم هي السائدة.

يمثّل موضوعُ "الكرد والحداثة" مفتاحًا للبحث في تلك القضايا، مثل: تفكير الكُرد في اللغة والأمّة والآخر، وأسبابِ إخفاقهم في الإمساك بفرصة الدولة عندما لاحت لهم في بدايات القرن العشرين. ولن يجد القارئُ إجاباتٍ نهائيّةً لهذه الأسئلة، وأقصى ما يأمله هذا النصُّ هو تناولُ مسألةٍ شغلت منطقتَنا كثيرًا... ولكنْ، هذه المرّة، من منظور الأطراف التي جرى إبعادُها وتحييدُها من مشروع الدولة.

 

أولًا: في الرؤية والمقاربة

إنّ استخدام تعابير مثل "الكُرد" و"المسألة الكرديّة" يغطّي بصورةٍ غير مطَمْئنة ساحةً شديدةَ التنوّع يَصعب توصيفُها. وقد لا يكون مُسمّى "الكرد" أو "الكُرديّ" أو "الكرديّة" كافيًا للدخول في فضاء الاستخدام المفاهيميّ إلّا إجرائيًّا، لا كوحدةٍ مفهوميّةٍ يمكن اعتمادُها والبناءُ عليها. وهكذا لا يصبح هذا المسمّى ذا دلالةٍ إلّا إذا دخل في تفاعلٍ مع "الآخر" (تركًا وعربًا وفُرسًا وأرمنًا...)؛ وأما داخل فضاء المسمّى فإنّنا أمام هويّات فرعيّة وجهويّة كثيرة ومتعارضة.[1]

وشبيهٌ بذلك مفهوم "الحداثة." فهذا، في الكتابة والتعبير، يأتي إجرائيًّا هو أيضًا، وذلك بسبب فرط معانيه ودلالاته وتأويلاته وتطبيقاته. غير أن ّذلك كلّه لا يَخرج عن فهم عموميّ له، وهو أنّ الحداثة تعبير عن "نمط حضاريّ خاص،"[2] ورؤيةٍ من العالم. ولعلّ أهمّ ما في الحداثة أنّها أسئلةُ العقل عن اللحظة، كما جاء في وصف فوكو لنصّ كانط، ما الأنوار؟[3]

في هذه المقالة، سوف نقف في الكلام على معنى الحداثة عند هذه الإشارة، أيْ عن سؤال الكرد عن أنفسهم ولحظةِ وجودهم في العالم. وهذا ما سبق أن تطرّقنا إليه في مواضع أُخرى، كان أحدثها في كتابنا، كورد نامه: في أسئلة الثقافة والسياسة والدولة لدى الكُرد.[4]

يرتبط التكوينُ الكرديّ الحديث بتلك اللحظة، لحظةِ صدمةِ الاحتكاك بأوروبا. وتشكّل الحداثةُ السياسيّة، أو لنقل الدولة، مقدّمةَ كلِّ حداثة. ولأنّ المشروع الكرديّ لم يحقّق مطامحَه الدولتيّة، بفقدان الكُرد أيَّ فرصةٍ لأن يجري الاعترافُ بوجودهم أمّةً مؤهّلةً لإقامة دولة، فقد كانت قصّةُ الحداثة والتكوين الدولتيّ الحداثيّ للكُرد مجرّد "قصّة وهم" أو "حلم ضائع،" إذا قورنت النتائجُ المتحقّقة بالأهداف المرجوّة والفرص الضائعة.

بدأت الحداثة (ونركّز هنا على البعد السياسيّ) في الغرب، ثم انتقلتْ، رغبةً أو كرهًا، إلى جهات العالم الأُخرى. وقد شكّل ذلك أحدَ موضوعات الجدال في الفكر العالميّ، وخصوصًا مع موجات الكلام على العولمة والهويّة ونقد المركزيّة والمركزيّة المضادّة.[5] والواقع أنّ ملاحظة التحوّل العالميّ نحو نمط الرأسماليّة والليبراليّة بدا كأنما هو "قَدَرٌ،" لجهات العالم أن تتشبّه به وتسلكَ مسالكه في التحديث أو التكوين السياسيّ والثقافيّ والاقتصاديّ.[6]

لكنْ، على الرغم من أنّ الرأسماليّة العالميّة "قدّمتْ نفسَها بصفتها عابرةً للتاريخ وللقوميّة، وبأنّها قوّةٌ متعاليةٌ وكلّيّةٌ للتحديث والحداثة، فإنّها في الحقيقة كانت تعني الغربنة ــ ــ أيْ تصدير السلع والقيم والأولويّات وطرق الحياة الغربيّة. في سياق التلاقي الثقافيّ غير المتساوي، تجبَر الشعوبُ ’الغريبة‘ على أن تصبح رعايا وتوابع للإمبراطوريّة الغربيّة، وفي الوقت ذاته، وبطريقةٍ لا تقلّ أهميّة، يندفع الغربُ ليواجه مباشرةً الثقافة الـ’أجنبيّة‘ والـ’غريبة‘ العائدة للآخر."[7]

 

ثانيًا: صدمة الحداثة

تحدّث فرويد في نصّه "صعوبات أمام التحليل النفسيّ" عن "الجرح الميتافيزيقيّ أو النرجسيّ،" الذي أصيب به "بنو الإنسان في كبريائهم، أو بتعبير أدقّ في نرجسيّتهم، عندما كشف لهم كوبرنيكوس أنّ كرتَهم الأرضيّة ليست مركزَ الكون، وأنّها هي التي تدور حول الشمس، وليست الشمس وغيرها من الكواكب هي التي تدور حولها. وهذا يفسِّر، جزئيًّا، ضراوةَ المقاومة التي واجهوا بها نظريّةَ كوبرنيكوس."[8]

ويمكن أن نستأنفَ تحليلًا قدّمَه جورج طرابيشي في هذا الصدد، يخصّ الشرقَ الأوسط في فترة السيطرة العثمانيّة المتأخّرة، إذ ينسحب مفهومُ "الجرح الميتافيزيقيّ أو النرجسيّ" إلى منطقتنا، فيكون هذا الجرحُ من طبيعةٍ أخرى. وإذا أجرينا انسحابًا آخر في دائرة أصغر، وهي المجال الكرديّ، فسيبرز الجرحُ في مستويين رئيسيْن: 1) انكشافُ شعوب المنطقة (ومنها الكُرد) على نفسها، والتنبّهُ إلى مدى اندثارها تحت ركامٍ سميكٍ من الانقطاع عن العلم والعالم. 2) انكشافُها أمام الغرب، الذي أدّى اقتحامُه الشرقَ الأوسط إلى أن تكتشف هذه الشعوب تخلّفها عنه قرونًا خمسةً، والمسافةُ إلى ازدياد.

 

ثالثًا: كُرد عصر النهضة

يصعب تعيينُ بدايات التشكّل الكرديّ حداثيًّا. ولم تتّفق التيّاراتُ الرئيسةُ في المنطقة على أنّ ما حدث في الفترة العثمانيّة المتأخّرة من تماسّ مباشر مع الحداثة الأوروبيّة، ومن ردود أفعالٍ محلّيّةٍ تجاهه (استجابةً أو حماسًا أو رفضًا...)، كان شرعيًّا أو ضروريًّا.[9] صحيح أنّ أكثرَه كان اضطراريًّا أو قسريًّا، إلّا أنّ مراجعة تلك اللحظة لم تركن إلى شرعيّة ذات قابليّة لتلقٍ اجتماعيّ مديد ومستقرّ.[10]

وهكذا فإنّ الحداثة، أو عصرَ النهضة (وهي تسمية غير مطابقة تمامًا)، تحيل على تداعيات الانخراط العثمانيّ (والشرقيّ) في النظام العالميّ على المجال الكرديّ ــ ــ ذلك المجال الذي لم تكن تظلِّله بعدُ مداركُ تتعلّق بـ"الهويّة،" أو ربّما حدث ذلك لدى شريحةٍ محدودةٍ من النخب الكرديّة التي كانت تقيم خارج "كردستان،" وخصوصًا في الحواضر الكبرى (مثل اسطنبول وبغداد ودمشق والقاهرة).

وقد استغرق الأمرُ وقتًا ريثما تمكّنت النخَب والزعامات الكرديّة من إدراك التغيّر الحاصل في النظام العالميّ آنذاك والآثار المحتملة على الكرد. ولكنّها عندما أدركتْ ذلك، كانت فرصةُ التشكّل الحداثيّ، على الأرجح، قد ضاعت، بالمعنى الدولتيّ بشكلٍ خاصّ.

 

حداثة كالحة

شكّل الاحتكاكُ بالغرب صدمةً كالحةً للكُرد. فقد وجدوا أنفسَهم منضوين في دولٍ لم يسألهم أحدٌ عنها؛ بل إنّ هذه الدول الجديدة "فُصِّلتْ" على مقاس مصالح الاستعمار الغربيّ، متجاهلةً إرادةَ التكوينات الإثنيّة في المنطقة ــ ــ ومنها الكُرد.

أدّى ذلك الاحتكاكُ إلى شعورٍ مهولٍ بالفارق في التطوّر الحضاريّ بين الكُرد (والمجال الشرقيّ عمومًا) والغرب، وإلى فواتٍ في الفرص وإمكانات التطوّر الثقافيّ والسياسيّ بين الكُرد والجوار الإقليميّ. فقد كابد الكُرد بداياتِ تأسيس الشرق الأوسط المعاصر، ولكنْ من دون أن يتمخّض ذلك عن أيِّ تكوينٍ سياديٍّ يخصّهم، إلى جانب التكوينات السياديّة أو السياسيّة التي تخصّ العربَ والتركَ والفرسَ وغيرَهم. وعلى الرغم من أنّ الضغوط الكولونياليّة على المجال العثمانيّ أتاحت للكُرد التطلّعَ إلى صيغ سياديّة ودولتيّة، كما جاء في اتّفاقيّة سيفر 1920، فإنّ ذلك لم يحدث كما كان مُؤمَّلًا كُرديًّا. ذلك أنّ التجاذبات العالميّة آنذاك، والانقسامات بين الكُرد أنفسهم، والإخفاقاتِ في التقدير والتدبير، أجهضتْ ما كان من أمر اتّفاق سيفر، وحوّل الكُردَ إلى ضحيّة من ضحايا اتّفاقيّة لوزان 1923.

 

http://www.al-adab.com/sites/default/files/archive1/%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%84%D9%84%D9%84%D9%84.jpg

العدد الأول من أول صحيفة كردية كرمانجية (بالأبجدية العربية) (القاهرة، 22 أبريل 1898)

 

رابعًا: الحداثة والكولونياليّة

تُعدُّ الفترة الكولونياليّة أحدَ مداخل الفتوح اللغويّة والقوميّة في منطقة الشرق الأوسط (والعالم).[11]وهكذا فقد كان على الكُرد، وغيرهم ممّن كانوا هدفًا للتأثير الكولونياليّ، أن يبحثوا عن محدِّدات الأمّة وشروط التكوين الدولتيّ.

ليست واضحةً لدينا اللحظةُ التي تثبّت اهتمامَ الكُرد بالمعاني الحداثيّة للأمّة والقوميّة، ومن ثم المعاني السياسيّة أو السياديّة والدولتيّة لوجودهم الإثنيّ ــ ــ وهذا خلافًا لما تزعمه الأدلجةُ القومويّة، التي تؤكّد قِدَمَ الوجود القوميّ، وربّما جوهرانيّتَه، على الرغم من حداثة معنى القوميّة في المنطقة (والعالم). يقول مؤرِّخ كرديّ:

"ليس من السهل أن نستقرّ على تاريخ معيّن، أو نتّخذ حدثًا تاريخيًّا محدّدًا كمرحلة بداية، أو حتى نقطة تحوّل، في ظهور الشعور القوميّ الوطنيّ الكورديّ بالمعنى الحديث. ولكنْ إذا تصفّحنا التاريخ، نرى أنّ الشعور بالانتماء أو الهاجس الكورديّ كان موجودًا في كوردستان منذ القِدم... لأنّ الأرض التي عاشوا عليها كانت أرضًا كورديّة، واللغة هي لغتهم الكورديّة، وتأريخهم هو تاريخ الكورد، كذلك طبيعة القيم الاجتماعيّة والفلكلور الشعبيّ والبنى الفكريّة وسيكولوجيّة هذا الإنسان كلّها كانت كورديّة، وهي موجودة قبل وجود القوميّة فلسفةً تعتمد أركانًا أساسيّة."[12]

تُمْكننا ملاحظةُ نمطيْن على الأقلّ من المنافسة في المجال الكُرديّ على فكرة النهضة القوميّة والانخراط في الحداثة. وهذه المنافسة لا تخصّ الكُردَ وحدهم، بل هي ظاهرة عالميّة، ولكنّ الحالة الكرديّة تستأهل الدراسة لتقصّي أسباب "الفشل" السريع والبَيِّن للمسألة القوميّة:

ــــ تشير المنافسة الأولى إلى أنّ البعد القوميّ ظاهرة تاريخيّة ولها جذور مديدة، وقد يَصعب تلمّس مرجعيّات تاريخيّة لذلك، ولكنْ ثمة جهود تأريخيّة وتنظيريّة عديدة.[13]

ــــ وتشير المنافسة الثانيّة إلى أن الحداثة هي التي دشّنتْ مسارًا في فكر الكرد السياسيّ حول وجودهم القوميّ على غرار الأمم الحديثة، وخصوصًا الأمم النامية.[14]

وهكذا فقد كان الكُرد تحت تأثير الكولونياليّة من جهات متعدّدة:

ــــ الضغوط الكولونياليّة على "المجال العثمانيّ" من جهة أوروبا وروسيا، ما أدّى إلى انتهاج السلطنة سياسةَ إصلاح كان من تداعياتها السماحُ باهتمام نسبيّ بالهويّات اللغويّة والإثنيّة.[15]

ــــ ضغوط الهويّات والتكوينات الإثنيّة والنزعات القوميّة في ذلك المجال، وهي حفَّزت الكُرد على التنبّه إلى هويّة كُرديّةٍ بأبعادٍ ما، ومنها البُعد اللغويّ.

ــــ "استقلال" العديد من الأقوام التي كانت ضمن ذلك المجال تحت عناوين قوميّة، مثل اليونان وبلغاريا وصربيا. ومن ثم فإن النزوع اللاحق لدى الكُرد والترك (الخ) إلى الاستقلال أو الحكم الذاتيّ كان تحت عناوين قوميّة.

ــــ ردود أفعال الجماعات الإثنيّة، ومنها الكُرد، في ذلك المجال العثمانيّ على سياسات "التتريك."

ــــ أدّى الحكم الأوروبيّ المباشر (الاحتلال البريطانيّ للعراق وأجزاء من إيران، والتدخل الروسيّ في إيران وأطراف السلطنة العثمانيّة، ودخول قوّات الحلفاء إلى اسطنبول واحتلالهم أجزاء من الأناضول،...) إلى احتكاك مباشر مع التجارب الأوروبيّة الكولونياليّة في إدارة المناطق المحتلّة. وهذا النمط من الإدارة لا يهتمّ بـ"الخراج" و"الريع" فقط، وإنما أيضًا بـ"تأهيل" المناطق المحتلّة بما ينسجم مع نظام الاحتلال والاستثمار السياسيّ والأمنيّ والثقافيّ لها.

وهكذا فقد تأثّر الكُرد بالتجربة الكولونياليّة بأشكال مختلفة، ومنها الاتجاه إلى التعبير عن الهويّة الإثنيّة بالبعد الثقافيّ والاجتماعيّ والسياسيّ. وقد كان لذلك تجلّيات أكثر وضوحًا في بدايات القرن العشرين مع التعبير المباشر عن المطالب السياسيّة والدولتيّة.

بدت التجارب الدولتيّة لدى العرب والترك والفرس والأرمن كما لو أنها نتاجُ "فتوح الحداثة الكولونياليّة" التي لم "تمرّ" على الكُرد بل أبعدتهم وأقامت كلَّ شيء على حسابهم. ولذلك يتحدّث الكُرد عن تواصل الاستعمار، الإقليميّ هذه المرة، ولكنْ ليس بِعَدِّهِ نوعًا من "فتوح الحداثة" أو "التحديث،" وإنّما تسلّطًا على المجال الاجتماعيّ والثقافيّ، و"احتواءً" للكُرد وإذابتهم في هويّاتٍ أخرى، عربيّةٍ أو تركيّةٍ أو فارسيّة، أو إسلاميّةٍ أو مذهبيّة.

 

خامسًا: التفكير السياسيّ وفوات الدولة

إنّ التناول السوسيولوجيّ والثقافيّ للحداثة والتحديث لدى الكُرد يشكّل صعوبةً مركّبة. فهو أشبهُ بـ"اختلاق" نقاط تقاطع بين المفاهيم من جهة، وبين التطبيقات والتجلّيات من جهةٍ أخرى؛ كما أنّه غوصٌ في مسارات يُفترض وجودُها في المجال الكُرديّ، مثل التنمية ــ ــ وهذا شبه استحالة، لأنّ الأخيرة (التنمية) مشروطة بتوافق الدول المعنيّة على تنمية الكُرد باعتبارهم كُردًا، وهذه (حتى الآن) شبه استحالة.

يركّز التفكيرُ السياسيّ لدى الكرد على مسألة "الدولة،" على الرغم من أنّ نماذج الدولة القائمة في المنطقة والعالم تنطوي على إشكالات كبيرة، الأمر الذي يطرح تحدّياتٍ كبيرة على الكُرد، لعلّ أبرزَها: اقترابُ الفكر السياسيّ والنظام العالميّ من "اختلال" النموذج المعياريّ للدولة، والتراجع في ظاهرة الدولة، والتأكيد عليها في آن، في عالم اليوم.

إنّ تجارب السياسة العمليّة تفوق الاعتباراتِ النظريّةَ والمفاهيميّة، وقد تعاكسها في كثير من الأحيان. ويتّصل ذلك مجدّدًا بالدولة، مفهومًا وخبرةً وتطبيقًا. وهكذا فإنّ الحداثة السياسيّة (أو الدولة) هي في مقدّمة كلّ حداثة، و"إنجاز الدولة" هو مقدّمة كلّ تحديث، وطليعةُ الوجود أو الإسهام الفعّال في الزمان العالميّ الراهن.

لم يحصل الكردُ على شيء تقريبًا. ولم تلحظ خططُ السياسة وتكوين الدول وجودَهم كتكوينٍ إثنيّ، وكشعبٍ له الحقّ في تقرير المصير. ويشعر الكُرد بوجود مؤامرة ضدّهم، استهدفت احتواءَ مطالبتهم بحقوقهم القوميّة من خلال "توزيعهم" على عدد من الدول، وتقطيع أواصر التواصل بينهم، وتعزيز التناقضات بينهم.

كانت لنموذج "الدولة الحديثة" في المنطقة مرجعيّاتٌ أوروبيّة لمحدِّدات الأمّة والقوميّة واللغة والوحدة (الخ). وقد تجلّى ذلك في رؤى الدول والنظم السياسيّة والإيديولوجيّات الحاكمة تجاه التكوينات الإثنيّة في الداخل، بكلّ ما لذلك من تداعياتٍ سلبيّةٍ كبيرة على الكُرد وغيرهم. فقد عدّتهم تلك الرؤى فئاتٍ هامشيّةً أو ظواهرَ لغويّة أو إيديولوجيّة "انحرفتْ" عن مسار "التطوّر" المُفترض لإحدى القوميّات في المنطقة[16](نشير هنا إلى مقولات "أكراد الجبال" لدى بعض الترك،[17] و"الأصل العربيّ للكُرد" لدى بعض العرب).[18]

 

سادسًا: الثقافة والإثنيّة والدولة، قصة وهْم؟

ثمة "تلازمٌ نسبيّ" في التشكيل اللغويّ للتكوين الدولتيّ المعاصر بدءًا من العقود الأولى للقرن العشرين. "وبالطبع حين بدأ التنظير لفكرة القوميّة العربيّة والتركيّة والكرديّة في القرن التاسع عشر، كان الترك والكرد والعرب، عمليًّا، بعيدين بُعدَ السماء عن الأرض لا عن الدولة الواحدة، بل عن أيّة دولة قوميّة."[19]

هنا نلاحظ أنّ الخارطة السياسيّة لم تتوافقْ مع التوزّع الجغرافيّ للإثنيّات فيها. ومن ثمّ فقد تشكّل الإقليمُ على تداخل واسع بين الحدود اللغويّة والحدود السياسيّة والإثنيّة. وكان واقعُ التداخل أقوى من الإيديولوجيّات التي قصدتْ تجاهله على نحوٍ يجعل المنطقة على أكبر قدر من "التوافق" بين الحدود السياسيّة والحدود الإثنيّة. والواقع أنّ ذلك السعي من أجل "صنع" دولة سياسيّة وإثنيّة لغويّة متطابقة كان "قصةَ وهم" ــ ــ بمعنى أنّ المخيال والإيديولوجيا لم يتمكّنا من تحقيقه في الواقع. ومن ثم فقد كان الإخفاق في السياسة والدوْلنة الحديثة وجهًا بارزًا من وجوه الإخفاق الأخرى.

اليوم، بات علماءُ السياسة واللغات أقربَ إلى الإقرار بأنّ العالم دفع أثمانًا كبيرة لهذا "الوهم الشائع الذي يرى العالمَ مقسّمًا، بصورة متقابلة، إلى بلدانٍ وإلى لغاتٍ تُطابق فيه الحدودُ اللغويّة حدودَ الدولة وحدودَ الوطن. هذا وهم، لأنّه لا يكاد يوجد بلد أحاديّ اللغة، ولا تكاد توجد لغة... محصورة في حدود بلد واحد."[20]

 

سابعًا: الحداثة المستوردة

بدأ وهمُ التطابق بين الحدود اللغويّة والحدود السياسيّة مع تزايد تأثّر الكُرد، والمجال العثمانيّ السابق عمومًا، بالتجارب الغربيّة حول الدولة والأمّة واللغة...، ومن ثمّ "استيراد" مقولات التفكير والتنظيم السياسيّ الغربيّ إلى المنطقة من دون تدقيق بشروط ذلك "الاستيراد" وإمكانيّة "تبيئته" مع الظروف الموضوعيّة والبناء القيميّ والثقافيّ والاشتراطات الماديّة اللازمة والملازمة له ومن ثم فإن الفجوة بين التنظير السياسيّ، وبين التكوين الفعليّ والتشكّل الواقعيّ للمنطقة، ومن ضمنها الموضوعُ الكُرديّ، كان من تجلّيات ما نعتبره "صدمة ثانية" مُني بها الكرد.

وهكذا، ما إن شرع الكُرد بالتنظير للقوميّة والأمّة، وتكوين الجمعيّات والمنابر والعصائب، بل العمل السياسيّ والعسكريّ من أجل تقرير المصير، حتى عاجلهم الغربُ (والتفاعلاتُ الإقليميّة) بترتيبات سياسيّة مختلفة، مثل سايكس ــــ بيكو (1916) ومؤتمر لوزان (1923)، تُعاكِس إلى حدّ كبير ما أملوا به وعملوا عليه في السنوات الأولى من القرن العشرين.[21]

غير أنّ الصدمة المذكورة لم تُنتج قراءةً موضوعيّة أو منطقيّة لواقع الحال، بل زادت من تمسّك الكُرد بنظام القيم السياسيّ والمرجعيات الثقافيّة الغربيّة لمعنى الأمّة والقوميّة ومبادئ تقرير المصير الخ.

لم يكن أمام الكُرد الكثيرُ من الفرص لمراجعة فكرهم السياسيّ، ولا الجرأةُ لتقويم تجربتهم، في ظل بيئة ضاغطة، بل معادية، لمطالبهم السياسيّة والدولتيّة. وهكذا رأوْا أنّ العمل العسكريّ قد يكون هو الخيارَ الأفضل والأنجع، ومن ثمّ انخرطوا في جهود عسكريّة متتابعة حتى اليوم، ولكنْ من دون أن يَصدر خلال ذلك الكثيرُ من مؤشّرات التغيير في التفكير أو العمل أو الأداء والفعاليّة، خلا استثناءاتٍ محدودة.

ولم يكتفِ الكُرد بذلك، بل غَلَّفُوا "فشلهم" (ولذلك الفشل أسباب عديدة) بقدر كبير من العقديّة والأسطرة والمطالب المفتوحة على المستقبل. وليس في ذلك خروجٌ على مألوف السياسة في المنطقة، لجهة تعزيز الإيديولوجيا على الواقع ومعاكسته بصورة وَلَّدَتْ خلال عدة عقود الكثيرَ من الإحباط والمرارة، للكُرد ولغيرهم من شعوب المنطقة.

ليست تلك نهايةَ المطاف، ولا نوعًا من التقويم تمهيدًا لإسدال الستار عن مرحلة سابقة. ذلك أنّ العمل السياسيّ الكُرديّ ليس سابقًا، وكذلك التجارب العسكريّة والسياسيّة، التي من سماتها أنها "راهنة" بصورة دائمة تقريبًا. وقد يكون ذلك مصدر تجديد من جهة، أو مصدرَ مراوحة وعطالة من جهة أخرى.

 

خاتمة

قصّة الكُرد والحداثة هي قصّة احتكاك صادم ومؤلم مع الغرب، وقصّةُ أمل بتحقيق الهدف القوميّ من خلال رؤًى وأدوات مستوردة. ولكنْ تبيَّن حتى الآن أنّ ذلك لم يتأسّس على واقع مستقرّ أو قابل للاستمرار. ومع ذلك فقد كان الكُرد معذورين ربّما لأنهم وجدوا جوارَهم ينهج الطرقَ نفسها، وها هو (أي الجوار) حقّق دولًا أو كيانات سياديّة، بغضّ النظر عن مدى جديّتها وما إذا كانت دولًا فعلًا أو أشباه دول.

وقع الكُرد في "فخ" التحديث السياسيّ. واليوم تتبدّى أمامنا معادلةُ مجتمع متخلّف بهياكل حداثيّة، في بيئة مُخترقة، وبمعارف مستوردة، ومدارك مشوّشة وغائمة، وتداخل كبير ومعقّد مع بيئة إقليميّة مخترقة و"متآمرة."[22] ونخشى أنّنا بدأنا بالكلام عن "وهم" وانتهينا بالكلام عن "فخّ." ولكنّ ذلك ليس أكثر من تظهير آخر لما نعتقد أنّ الكُرد كانوا ضحيّته.

دمشق

[1] عن سؤال الهويّة لدى الكرد، أنظرْ مثلًا: عقيل سعيد محفوض، الأكراد واللغة والسياسة: دراسة في البنى اللغويّة وسياسات الهويّة (بيروت: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2013).

[2] جان بودريار، "الحداثة،" في: محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، الفلسفة الحديثة: نصوص مختارة (الدار البيضاء: دار أفريقيا الشرق، 2001)، ص 320.

[3] انظر مثلًا: عبد السلام بنعبد العالي، "فوكو والحداثة الفلسفيّة،" موقع مؤمنون بلا حدود، 14/4/2014؛ وانظرْ: ميشيل فوكو، "ما هي الأنوار؟" موقع حكمة، 15/11/2015؛ وإمانويل كانط، ثلاثة نصوص: تأمّلات في التربية، ما الأنوار، ما التوجّه في التفكير؟ تعريب وتعليق: محمود بن جماعة (تونس/صفاقس: دار محمد علي الحامي للنشر، 2005).

[4] انظر: عقيل سعيد محفوض، كورد نامه: في أسئلة الثقافة والسياسة والدولة لدى الكُرد(دمشق: مركز دمشق للأبحاث والدراسات، ودار الفرقد، 2018)، وعقيل سعيد محفوض، الأكراد واللغة والسياسة،مصدر سابق.

[5] عبد الله إبراهيم، المركزيّة الغربيّة: إشكاليّة التكوّن والتمركز حول الذات (بيروت: المؤسّسة العربيّة للدراسات، ط2، 2002)؛ وسمير أمين، نحو نظريّة للثقافة: نقد التمركز والتمركز الأوربيّ المعكوس(بيروت: معهد الإنماء العربيّ، ط1، 1989)؛ وإدوارد سعيد، الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء، ترجمة: كمال أبو ديب (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربيّة، ط2، 1984).

[6] فرنسيس فوكوياما، نهاية التاريخ والإنسان الأخير، ترجمة: فؤاد شاهين وآخرين (بيروت: مركز الإنماء القوميّ، ط1، 1993)؛ برتران بادي وماري كلود - سموتس، انقلاب العالم: سوسيولوجيا المسرح الدوليّ، ترجمة: سوزان خليل (القاهرة: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 2006).

[7] كيفين روبنس، ورد في: ستيوارت هول، "حول الهويّة الثقافيّة،" ترجمة: بول طبر، إضافات (المجلة العربيّة لعلم الاجتماع)، بيروت: العدد 2، ربيع 2008.

[8] جورج طرابيشي، من النهضة إلى الردّة: تمزّقات الثقافة العربيّة في عصر العولمة (بيروت: دار الساقي، 2000، ط1)، ص 9.

[9] انظر في ما يخصّ تركيا: عقيل سعيد محفوض، جدليّات المجتمع والدولة في تركيا: المؤسّسة العسكريّة والسياسة العامّة (أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجيّة، ط1، 2008).

[10] راجع: عقيل سعيد محفوض، كورد نامه، مصدر سابق.

[11] برتراند بادي، الدولة المستوردة: تغريب النظام السياسيّ، ترجمة: لطيف فرج (القاهرة: دار العالم الثالث، ط1، 1996).

[12] عبد الفتاح علي بوتاني، بدايات الشعور القوميّ الكورديّ في التاريخ الحديث (أربيل: دار كاوا للنشر، 2005)، ص 13.

[13] انظر مثلًا: عقيل سعيد محفوض، كورد نامه، مصدر سابق؛ ومارتن برونسن، "طريق الكُرد إلى بناء الأمّة،" في: فالح عبد الجبار (محرِّر)، الإثنيّة والدولة: الكُرد في العراق وإيران وتركيا، ترجمة: عبد الإله النعيمي (بغداد: مركز الدراسات الاستراتيجيّة، 2006). وحول الأسطرة والتأسيس القوميّ، انظرْ مثلًا: عقيل سعيد محفوض، الأكراد واللغة والسياسة، مصدر سابق؛ وفي كتب التاريخ القديمة، انظر مثلًا: شرف خان بدليسي، شرفنامه: في تاريخ الدول والإمارات الكُرديّة، ج1، ترجمة: محمد علي عوني، تقديم: يحيى الخشاب (دمشق: دار الزمان، 2006).

[14] انظر مثلًا: إبراهيم محمود، وعي الذات الكُرديّة: كيف يعرِّف الكاتبُ الكُرديّ بنفسه؟ (الدانمارك: الشركة العربيّة ــــ الأوروبيّة للآداب والنشر، 2004)؛ وعقيل سعيد محفوض، كورد نامه، مصدر سابق.

[15] انظر مثلًا: فالح عبد الجبار، "القوميّة العربيّة بإزاء القوميّة الكُرديّة: تأملات في التماثلات والتباينات البنيويّة،" في: فالح عبد الجبار (وآخرون)، الإثنيّة والدولة: الأكراد في العراق وإيران وتركيا، ترجمة: عبد الإله النعيمي (بغداد: مركز الدراسات الاستراتيجيّة، 2006)؛ وبرتران بادي، الدولة المستوردة، مصدر سابق.

[16] انظر تناولًا موسّعًا في: عقيل سعيد محفوض، الأكراد واللغة والسياسة، مصدر سابق.

[17] انظر: عقيل سعيد محفوض، جدليات المجتمع والدولة في تركيا، مصدر سابق.

[18] المصدر نفسه.

[19] فالح عبد الجبار، مصدر سابق، ص 481.

[20] لويس جان كالفي، حرب اللغات والسياسات اللغويّة، ترجمة حسن حمزة، (بيروت: المنظمة العربيّة للترجمة، ط1، 2008)، ص 181.

[21] انظر مثلًا: ديفيد فرومكين، سلام ما بعده سلام: ولادة الشرق الأوسط، 1914- 1922، ترجمة أسعد الياس، (بيروت: دار الريِّس للكتب والنشر، 1992).

[22] اسماعيل بيشكجي، كُردستان مستعمرة دوليّة، ترجمة: زهير عبد الملك، (السويد: سباغنا، دار APEC، 1998).

 

عقيل سعيد محفوض

أستاذ وأكاديميّ وباحث سوريّ. مهتمّ بالقضايا الدوليّة والإقليميّة في الوطن العربيّ. حصل على الدكتوراه في العلاقات الدوليّة من كليّة الاقتصاد في جامعة حلب عام 2006، ودرَّس علم السياسة في جامعة دمشق. شغل منصب مدير التعاون الدوليّ في وزارة التعليم العالي (2007 ــــ 2009). من مؤلّفاته: جدليّات المجتمع والدولة في تركيا (2008)، الأكراد، اللغة، السياسة: دراسة في البنى اللغويّة وسياسات الهويّة (2013)، كرد نامه في أسئلة الثقافة والسياسة والدولة لدى الكرد (2018).