تحيّة إلى المطران الجميل: حواران مع مجلّة الآداب
15-01-2016

غادرنا المطران الأحمر، المشاكس، العلمانيّ، الإنسانيّ غريغوار حدّاد آخر سنة 2015.

تحيّة له تعيد الآداب نشر مقابلتين أجريتا معه، الأولى سنة 2007، من ضمن ملفّ "العلمانيّة في السياق العربيّ الإسلاميّ 2،" وأجراها معه كلّ من سماح إدريس وجاك الأسود.

 أمّا المقابلة الثانية فأُجريت ضمن ملفّ "الإصلاح الدينيّ" سنة 2009، وأجرى المقابلة يسري الأمير.

 

 

الحوار الأوّل (العدد 10 ـــــــــ 11) سنة 2007

 

لقاء خاصّ بالمطران «المزعج» غريغوار حدّاد

حاوره: سماح إدريس (رئيس تحرير) وجاك الأسوَد (ناقد ولغويّ)

العلمنة والدين وحوار الأديان

*ترى انحرافًا عن النّهج العلمانيّ الشامل في المؤتمرات التي تقدّم الحوارَ الإسلاميّ ــــ المسيحيّ. هل يَظهر تناقضٌ هنا؟

ـــ أحيانًا يَخْلط النّاسُ بين الحوار الإسلاميّ ــــ المسيحيّ والعلمانيّة. الحوار الإسلاميّ ــــ المسيحيّ نوعٌ من الاهتمام بالدين وبالتفاعل بين الدينين والتأكيد أنّ الإنسان، من دون دين، يَنْقصه شيء. وأمّا العلمانيّة فلا تهتمّ بهذه الأمور كلّها، ولا تحكي عن الدين. ثمَّةَ نوعٌ من الاستقلاليّة التامّة بين ما هو للعالَم (وكلمة «العَلْمانيّة» مشتقّة من «العالَم») وما هو للأديان. الخلط بين الاثنين أساسٌ لمشاكل عديدة، بما فيها «الديموقراطيّةُ التوافقيّة»: فهذه تبدو وكأنّها تطوُّرٌ في النظام اللبنانيّ نحو العلمانيّة، بينما هي في الواقع تشديدٌ على الطائفيّة، وقد كرّسها «اتّفاقُ الطائف» في الرئاسات الأولى والوظائفِ الكبرى. ثمّ إنّ مثل هذا الحوار بين الدَينيْن لم يبدأ بعد. أتذكَّر أنّه، سنة 1976، عُقِدَ مؤتمرٌ في ليبيا وطُلِبَ إليّ أن أُلقي كلمة. فقلت إنّه يجب أن تكونَ هناك أمور مشتركة [بين الدينيْن]، سمّيتُها «الجوامعَ المشتركة»: أوّلها الإيمانُ بأنْ لا إله إلاّ الله، وثانيها أنّ هناك أنبياء وأنّ محمّدًا منهم. وقامت القيامة عليّ في لبنان إذ كيف أقول إنّ محمّدًا نبيّ!

*ماذا يريدون أن تقول؟

ـــ ربّما يريدونني أن أقول إنّه كان رئيسَ ميليشيا إسلاميّة!

*ولكنْ ألا يساعد الحوارُ الإسلاميّ ـــ المسيحيّ، في رأيك، على التوصُّل إلى العلمنة الشاملة؟

ـــ لا يساعد أبدًا.

*هل يُضِرُّ؟

ـــ كذلك لا يُضَرُّ. الموضوعان مختلفان تمامًا.

*كيف تحدِّد الموضوعَ الثاني؟ أهو سياسيّ؟ اجتماعيّ؟...

ـــ اجتماعيّ ــــ سياسيّ. إنّه السؤال عن شكل نظام المجتمع: أيحترم الأديانَ من دون أن يكون لها تأثيرٌ فيه، أَمْ لا يسأل عنها؟ ثمّة نوعٌ من الحياد التّامّ والموقف اللّامبالي. تكون علمانيًّا، أمؤمنًا كنت أمٍ ملحدًا أمْ لاأدريًّا. وهذا مهمٌّ جدًّا.

*تقول أنا مؤمن بالله، ولذلك أنا علمانيّ.

ـــ هذا أنا.

*ولكنْ، في مكانٍ آخر، تقول ما معناه أنّ العلمانيّة تحتضن المؤمنَ واللاأدريّ والملحد.

ـــ أنا واحد من هؤلاء: المؤمن! مثلُ هذا القول لا يعني أنّ الموقف يجب أن يعمَّم، وإنّما هو موقفٌ شخصيّ. يسألني كثيرون كيف يمكن أن أكون مطرانًا وعلمانيًّا في وقتٍ واحد. يظنُّون أنّ ثمّة تناقضًا بين الاثنين. وأنا أقول لهم، في موقفي هذا، إنّه لا وجود للتناقض في أيّ حالٍ من الأحوال. لا بدّ من التمييز بين موضوعَي "الإيمان" و"العلمانيّة" حتى لا نخلطَ شعبانَ برمضان.

*يُستخلص من ذلك أنّ اللّاأدريّ أو الملحد يمكن أن يساهمَ في بناء العلمانيّة الشاملة.

ـــ لكنّ هذا لا يعطيه امتيازًا. فلا يكون الإنسانُ أكثرَ علمانيّةً لأنّه ملحدٌ أو مؤمِن.

*اللافت في هذا الموقف هو استنتاجُ العلمانيّة من الإيمان.

ـــ هذا موقفي الشخصيّ.

كلّ سلطة دينيّة هي غلطٌ كسلطة، ويجب ردّها إلى الخدمة لأنّ المسيح قال: "لم آتِ لأُخدَم بل لأَخدم!"

*ولكنّك تقول «لذلك.» تقول أنا مؤمن بالله، ولذلك أنا علمانيّ.

ـــ أنا مؤمن لأنّ المسيحيّة، في صلب مفهومها، بالنسبة إليّ أنا، هي: كلُّ الناس متساوون مهما كان إيمانُهم. لا أَحْكم على المسلم أو الملحد انطلاقًا من كوني مسيحيًّا. أنا أحترم الجميعَ من دون أن أستثني الملحدين واللاّإدريّين. وهذا موقفٌ متطوِّرٌ على صعيد الإيمان الإنسانيّ. كثيرون يفكِّرون أنّ دينهم هو الدّين الحقّ، وأنّ الأديان الأخرى لا تساوي شيئًا. كلُّ هذا غلطٌ بغلط. وبلادنا مؤسَّسةٌ على مثل هذه الأشياء.

*وفي مكانٍ آخر تغوص أكثر في هذا الاتّجاه: «كلّما أصبح المسيحيُّون مؤمنين بالإنجيل حقًّا، والمسلمون مؤمنين بالقرآن حقًّا، أصبحوا قادرين على تكوين وطنٍ علمانيٍّ حقًّا.» أَوَيُمْكن أيضًا أن نقول: «كلّما أصبح الملحدون ملحدين حقًّا واللاًأدريّون لاأدريّين حقًّا...» أمْ كلامُكَ يعني المؤمنين فقط؟

ـــ أقصد المؤمنين إيمانًا حقيقيًّا، لأنّ الإيمان الحقيقيّ لا يلغي أيًّا من الإيمانات الأخرى. جاء في القرآن: «مَنْ شاء فليؤْمِنْ ومَنْ شاء فليَكْفُر». يمكن أن تستمدَّ من القرآن إمكانَ أن تكون ملحدًا وتَبْنِي مجتمعًا مع غيرك من الناس. هذه التمييزات مهمّة جدًّا جدًّا. الخلطُ بين المفاهيم يورِّط اللبنانيين في أمورٍ كثيرة بلا طائل. ثمّة انتقادٌ متبادلٌ، اليومَ، بين السُّنَّة والشيعة، حول ما يجري عندنا في عاشوراء. كيف يُعْقَلُ أن نبنيَ وطنًا ما زالت القيمُ والمؤسّساتُ فيه تابعةً لمرجعيّاتٍ وزعماءَ يستعيدون أيّام الوليد ويزيد ومعاوية والحسن والحسين، وكأنّهم ما زالوا عائشين بيننا يخوضون معاركَ ماضٍ عمرُه أكثرُ من ألفٍ وثلاثمئة سنة؟!

*وموضوعُ صلب المسيح؟

ـــ كذلك الأمر، أيضًا وأيضًا...

*لماذا، بعد عقودٍ من النِّضال في سبيل العلمانيّة الشاملة، ما زلنا لا نَعْرف العلمانيّة؟ لقد سبق أن شبَّهتَ معرفتَنا الجزئيّة بها بتلمّسات العميان الذين يحاولون معرفةَ الفيل وكلٌّ منهم يحكي عن حيوانٍ مختلفٍ تبعًا للجزء الذي تحسّسه منه! أيعود ذلك إلى ضعفٍ في تفكيرنا ومعرفتنا، أمْ إلى نوعٍ من التّجهيل المقصود؟

ـــ العلمانيّة بحدّ ذاتها تشمل قيّمًا مختلفةً كثيرة. ومَنْ يتوقّف عند إحدى هذه القيَم يتبيّن له تحديدٌ معيّنٌ للعلمانيّة، ومَنْ يتوقّف عند غيرها يتبيّن له تحديدٌ آخر. غنى المفهوم سببٌ من أسباب الاختلاف في الرّأي تجاه العلمانيّة. أنظرْ كيف تطبَّق العلمانيّةُ حاليًّا في فرنسة والمملكة المتّحدة والولايات المتّحدة... يقول الأميركيُّون إنّهم علمانيُّون مئةً في المئة، بينما يؤسِّس بوش العالم كلّه على المسيحيّة النيوبورن! كيف يكون بوش علمانيًّا وفي الوقت نفسه لا يَقْبل إلّا المسيحيّة البروتستانتيّة النيوبورن، وكلّ مَنْ تبقّى من المسيحيين غلطٌ بغلط؟ هنا يتبيّن مزجٌ بين الدّين والمجتمع، وهو أصلٌ الشّرور كلّها.

*وكيف نخلِّص العلمانيّة من هذه الشّرور؟

ـــ حين نَقبل بالآخر كما هو، ونؤسِّس مجتمعًا يَقْبل فيه الكلُّ بمبادئَ وقيمٍ ومؤسّساتٍ لا تلغي أحدًا.

 

العلمانيّة والسلطة الدينيّة والزمنيّة

*العلمانيّة المُدْخَلَة فوقيًّا عبر القوانين أو الدّستور هي سببُ تضخّم الحساسيّات الطائفيّة في بعض البلدان (في فرنسة وتركية، مثلًا، وتحت البَعْثَين)، كتعبيرٍ عن الكبت. وأمّا في بلدانٍ أخرى، فيبدو تطبيقُ القيم اللاطائفيّة طبيعيًّا وكأنّه لا يحتاج إلى قانون.

ـــ كلُّ هذا يرجع إلى الأمر نفسه. يجب أن يكون المجتمع قائمًا على مبادئ، أساسُها الاعترافُ بالإنسان قيمةً مطلقة، أيًّا كان موقفُكَ من الدين أو الإلحاد. ولأنّه قيمةٌ مطلقة، فعلى المجتمع أن ينظِّم نفسَه على أساس أن يكون من أجل كلّ إنسان وكلّ الإنسان. أيْ لا إلغاءَ لأحدٍ ولا إلغاءَ لأيّة قيمةٍ إنسانيّة، أجسمانيّةً كانت أمْ فكريّةً أمْ روحيّة. العلمانيّة ليست فقدانَ القيم، بل التّشديدُ على إنسانيّتها بلا مرجعيّةٍ دينيّة.

*كنتَ، في زمن الحرب، ضدّ السلطة اللبنانيّة، السياسيّة والحزبيّة والعسكريّة. فأنتم، في «تيّار المجتمع المدنيّ،» تَعدّون زعماءَ لبنان الطائفيين، على هذه المستويات جميعًا، مستندين إلى زعامةٍ غيرِ شرعيّةٍ لكون مبرِّراتها تستند، وهمًا وضلالًا، إلى تمثيل المسيحيّة وتمثيل الإسلام. وقد عَبَّرتَ صراحةً عن لاشرعيّة السلطة اللبنانيّة بالقول إنّها تستند إلى «شريعة الغاب،» رغم ادّعائها الاستنادَ إلى الدّستور والميثاق الوطنيّ والأعراف والقوانين. فهل تقترح دستورًا جديدًا أو ميثاقًا وطنيًّا جديدًا غيرَ قائمٍ على التمثيل الطائفيّ؟ وما ستكون عناوينُه العريضة؟

يجب أن يكون المجتمع قائمًا على مبادئ، أساسُها الاعترافُ بالإنسان قيمةً مطلقة، أيًّا كان موقفُكَ من الدين أو الإلحاد.

ـــ العنوان الأكبر هو الإنسان كقيمةٍ مطلقة. يجب أن نضع نصْب أعيننا دائمًا تنميةَ الإنسان الفرد بكلِّ المكوّنات التي تجعل منه إنسانًا بالفعل. قد نكتشف في الإنسان قيمًا مختلفةً في بلدٍ مختلف، فإذًا يجوز أن تَدْخل النّسبيّةُ في القيم التي تجعل من الإنسان إنسانًا. وهنا يجب أن يظلّ الحوارُ مفتوحًا، فلا يلغي أحدٌ الآخرَ حتى على صعيد العلمنة، وإلّا صارتِ العلمنة دينًا جديدًا يلغي الآخرين، وما هذا من العلمانيّة في شيء. بل يمكن أن يصل بنا الأمرُ إلى نوعٍ من الدكتاتوريّة الفكريّة النازيّة أو الفاشيّة.

*ما هو دورُ السلطات الدينيّة في الدولة والمجتمع المنشوديْن؟ وما سيكون دورُ الدين فيهما؟ لقد شدّدتَ على أنّ الدين لا سلطةَ له على أساس أنّ المسيح قال: «لا تَدْعوا لكم على الأرض سيِّدًا ولا أبًا ولا معلِّمًا، فكلّكُم أُخوَةٌ»، وعلى أساس قول القرآن مخاطبًا محمّدًا: «لستُ عليهم بمسيطرٍ» وكذلك: «إنَّا أرسلناك شاهدًا ومبشِّرًا ورسولاً». وفي رسالةٍ وجّهتَها إلى ميشال عون وسمير جعجع بعد حرب الإلغاء (ولم تنشرْها أيّةُ جريدة) جَهَرْتَ بأنّ المجتمع المسيحي نقيضٌ للمسيحيّة، لأنّ «مملكة المسيح ليست من هذا العالَم.» فما هي مقوّمات السلطة العلمانيّة اللاعنفيّة؟ وهل يمكن أن تجتمع السلطةُ واللاعنف؟ أليسَ مفهومُ السلطة ذاتُه قائمًا على درجةٍ ما من العنف؟

ـــ لقد أجاب غاندي عن ذلك حين كوّن مجتمعًا يضمّ الملايينَ من البشر دونما مرجعيّة فكريّة دينيّة. كان غاندي يرفض تقسيمَ المجتمع الهندي طبقاتٍ مغلقةً، منها طبقةُ المنبوذين. آمن بالهندوسيّة، واحترم الإسلامَ والمسيحيّةَ في الوقت نفسه. يمكن، إذًا، أن تبنيَ مجتمعًا تكون قيمُه إنسانيّةً ونابعةً من متطلّباته الخاصّة في الوقت نفسه. لكلّ بلدٍ إمكاناتُه التي تجعله قادرًا على إعطاء الإنسان كرامتَه وحرّيّته.

*ولكنْ ثمّة اليومَ حركةٌ واسعةٌ لمقاومة الاستعمار والهيمنة والعولمة، مع مفاهيم استشهاديّة. لماذا علينا دائمًا أن نحدِّدَ كيفيّة مقاومة الظلم بناءً على نموذجٍ واحدٍ، مثل غاندي في الهند ومارتن لوثر كنغ في الولايات المتّحدة؟ لماذا لا نحترم تجاربَ جديدةً مثلَ الانتفاضة في فلسطين والمقاومة في الجنوب اللبنانيّ؟ ألا يمكن أن أكون مقاتلًا وعلمانيًّا في الوقت نفسه؟

ـــ عندئذٍ لا تكون إنسانيًّا. حين يمكنك أن تقتل الآخرَ لأنّه ليس معك أو، كما في انتفاضة الفلسطينيين الأولى، حين تَضْرب إنسانًا بحجر...

ـــ أنت ضدّ انتفاضة الحجر أيضًا؟!

ـــ نعم، لأنّ ثمّة عدمَ احترامٍ للإنسان كقيمة. فالإنسان قيمةٌ مطلقة. كلُّ ما يمسّ به، كلُّ شيءٍ ينال من قيم المساواة والعدالة والحرية والتضامن، ينال من مطلقيّة الإنسان.

حين نُجري دراسةً على مدى تأثير العُنف في تطوُّر العالَم, نكتشف أنّه قلّما حدث تطويرٌ ذو شأنٍ بوساطة العنف. يمكنُ أن تَنتُجَ منه توعيةٌ، إشارةٌ، لفتُ انتباهٍ إلى بعض الأمور المَنْسيّة. مثلًا: الكيان الفلسطيني الذي كان مهمَلًا، ولا يحظى بأيِّ اهتمام، جاءتِ انتفاضةُ الحجارة وأثَرَتْ في وعي الناس له، فازداد مؤيِّدو الفلسطينيين، وصار هناك مئة وأربعةُ بلدانٍ مع القضيّة الفلسطينيّة. كلُّ القيم الإنسانيّة موجودةٌ في هذا المجتمع الفلسطيني، وهي قيمٌ لا تلغي الإسرائيليين، وقد تساهم في إقامة بلدٍ مشتركٍ، فيه المسلمُ والمسيحيّ واليهوديّ، المؤمِنُ وغيرُ المؤمِن. إنّنا نسعى إلى أمورٍ يمكن أن يصل إليها العالمُ ذاتَ يومٍ، كلاًّ على طريقته.

ـــ ولكنْ سبق أن تكلّمتَ على تحرير فلسطين. بل إنّك تطالب بإزالة الكيان الإسرائيليّ. كيف يمكن التّعايشُ بين الكيانين الإسرائيلي والفلسطيني؟

ـــ كلّا! ليس هذا هو المقصود، بل التّعايشُ بين اليهود والمسيحيين والمؤمنين وغيرِ المؤمنين، أي العلمانيّة الشاملة.

 

العلمنة والعروبة والعولمة

*في بحثك القيّم «العروبة والإسلام» تَخْتم بضرورة التمييز (لا الفصل) بين المفهومين، وذلك لاعتباراتٍ تعريفيّةٍ وتاريخيّة، ولمصحة الحاضر والمجتمع المدنيّ. وتشدِّد على أنّ العروبة والوحدة العربيّة هدفٌ للعرب. أعَلى العروبة أن تمشي جنبًا إلى جنبٍ مع العلمنة من أجل وطنٍ قويٍّ وعادل؟ وإذا قصرنا الكلامَ على لبنان، ألا ترى أنّ شرطَ وحدة اللبنانيين وكرامتهم وقوّتهم مرتبطٌ بضرورة اعتبار كيانهم جزءًا لا يتجزّأ من الأمّة العربيّة؟ ألا ترى أيضًا أنّ على مطلب العلمنة أن يُقرَنَ بمطلب عروبةٍ متجدّدة، أيْ بمطلب تعريفٍ جديدٍ للعروبة قائمٍ على الحرية والانفتاح والديموقراطيّة؟

ـــ هل العروبة ضرورةٌ لعالَمِ اليوم؟ وهل العولمة إلغاءٌ للعروبة أو لأيّة قوميّةٍ بحدِّ ذاتها؟ سؤالان جديدان. فلنرجعْ إلى القيمة الأساسيّة للإنسان. بالعولمة الإيجابيّة الصحيحة، من دون سلبيّاتها، نتخطّى العالَم ــــ الكلّ والعالمَ ــــ اليوم.

*هذه هي العولمة البديلة أو العولمة الإنسانيّة...

ـــ إنّها تعني أن يكون الإنسان مُواطِنَ العالم بأَسْرِه (Citoyen du monde). أحلام... كلام... يقول لي الكثيرون: «تحكي هذا لأنّك مطران.» وهذا ليس بصحيح. بل أقوله لأنّيَ إنسانٌ وأؤمن بالإنسان. ثمّة شغلٌ كثيرٌ على الإسلام كإسلام، لاكتشاف القيم الإنسانيّة في القرآن، ونقدِ الانحرافات نقدًا جذريًّا. مثلًا: الآية الآنفة الذّكر «لستَ عليهم بمسيطر» تلغي كلّ جدلٍ حول الخلافة، من الراشدين إلى الأمويين والعبّاسيين، وحول طلَبِ إرجاعها. كلّ هذا ضدّ القرآن!

*ولكن هذا نصٌّ من نصوص عدّة...

ـــ لهذا السّبب يجب أن نعرف لماذا هناك نصٌّ واحدٌ مختلفٌ عن باقي النّصوص. فقد طُلِبَ، تاريخيًّا، من محمّد أن يفعل أشياءَ [محدّدة]... وليس صحيحًا أنّ الإسلامَ لكلّ عصرٍ ولكلّ مصر، بل هذا صحيحٌ فقط إذا أخذتَ منه الفكرَ الجذريَّ القيميَّ الإنسانيّ.

*أنتَ ضدّ الإيديولوجيّات التي تلغي الإنسانَ. تتكلّم على «الحياد الإيجابيّ تجاه الأديان والإيديولوجيّات،» ولكنْ كلامك إيديولوجيٌّ جدًّا في عصرِ شتْم الإيديولوجيّات. فأنت تحكي عن العروبة، عن تحرير فلسطين, عن العلمنة... كلّ هذا إيديولوجيّ.

ـــ ولكنْ يجب أن تكون الإيديولوجيّةُ مربوطةً دائمًا بقيمة الإنسان. حين تكون عندك هذه المرجعيّةُ الثّابتة فإنّك لا تحيد عن الفكر الأساسيّ. والإنسانُ غالبًا ما ينسى ذلك. يجب أن نُبقي في ذهنك المبادئَ الأوّليّة التي تؤسِّس عليها.

 

العلمانيّة في التطبيق

*تقول إنّ الفهم الجزئيّ للعلمانيّة يُضرّ كثيرًا بها. ولكنْ، في آخر كتابك عن الطائفيّة، تَفترض أنّنا يمكن أن نعمل على تطبيقٍ تدريجيّ، مرحليّ للعلمنة، على ألاّ يصير التّطبيقُ جزئيًّا ولأغراضٍ مخطئةٍ (من الخطإ) أو خاطئة (من الخطيئة) كما تحبّ أن تميِّز. أتؤمن بطرحٍ تزامنيّ للقضايا الشّائكة من أجل التوصُّل إلى العلمنة الشاملة، أمْ ثمّة أولويّات؟ أنبدأ، مثلًا، بالمطالبة بقانونٍ انتخابيٍّ مركّبٍ، أمْ نبدأ قبل ذلك، أو بالتوازي معه، بقانونٍ مدنيٍّ اختياريٍّ للاحوال الشخصيّة؟ أمْ بتنظيم حواراتٍ شبابيّة؟ أمْ بطرحِ قانونٍ لإصلاح الإعلام الطائفيّ الحاليّ؟ وقد أَعلنتَ رفضَكَ لأن يصبح العلمانيّون طائفة داخل التّركيبة الطّائفيّة الحاليّة. ولكنْ، إذا تمّ لهم أن يَنْتَخِبُوا ويُنْتَخَبُوا على أساس علمانيّتهم، للوصول تدرُّجًا إلى العلمنة الشاملة، فهل يُعَدُّ ذلك تكريسًا للطائفيّة؟

ـــ حين تؤكِّد أنّ مبدأك الأوّلَ والآخِرَ هو القيمُ الأساسيّة التي لا تحيد عنها أبدًا، وأنّه لا يمكن تطبيقُها الآن، وتؤكِّد أيضًا أنّه يمكن التأسيسُ على مراحل من دون أن تنسى أنّها مراحلُ غيرُ نهائيّة، فإنّه يجوز لك استعمالُ المرحليّة. ولكنْ إذا قلتَ، من الأساس، إنّنا لا نستطيع أن نفعلَ شيئًا، فلنقبلْ إذنْ بالواقع كما هو، فهذا غلطٌ كبير. يجب أن تؤكِّدَ منذ البداية أنّ المرحلة التي أنت فيها ليست هي النهائيّة، وأنّك يحب أن تتدرَّجَ منها إلى حلولٍ تقرّبك من الحلّ النهائيّ، من قبيل: ألاّ نكوِّنَ طائفةً جديدةً، وألاّ نقسّمَ مرشّحينا على أساس طوائفهم. يجب أن تقول من الأساس إنّ على الترشيح أن يكون لاطائفيًّا، بمعنى أن تقومَ بالترشيح أحزابٌ لاطائفيّة، لا أن يجيء المرشّحون من قِبَلِ الطوائف والأديان. إذا توصّلنا إلى ذلك يومًا، فسنكون قد قمنا بخطوةٍ كبيرةٍ إلى الأمام. مثلًا: أن يقدِّمَ حزبُ الله مرشّحيه لأنّ عندهم مفهومًا معيَّنًا للمجتمع اللبنانيّ، لا لأنّه يريد استكمالَ عدد الشّيعة في البرلمان اللبنانيّ.

*لكنّ الحزب المذكور يرشِّح مسيحيين انسجامًا مع نهج المقاومة.

ـــ نعم. ولكنْ ما زلنا بعيدين جدًّا عن الحلّ النهائيّ.

*أحدُ أعضاء «تيّار المجتمع المدنيّ،» ولأنّه ترشَّحَ للنّيابة، وتاليًا، عن طائفته، صار حُكْمًا خارج «التيّار»...

يجب أن نحرِّر المسيحيّة من تاريخها المسيحيّ، من كلّ تفكيرٍ عن المسيح جاء بطريقةٍ اعتباطيّةٍ أو نسبيّة. فالمسيح أفضلُ من كلِّ تعبيرٍ عنه في التاريخ، بما فيه كونُه رئيسَ قبيلةٍ طويلةٍ عريضةٍ اسمُها «المسيحيّة.»

ـــ ... إنّه ناصر قنديل. لقد كان معنا فعلًا، ثم رأى أنّ هذا ليس محلّه. ونحن أيضًا رأيْنا أنّ هذا ليس محلّه.

*أثمّة مانعٌ من ترشُّح أحد أفراد «التيّار» للنّيابة؟

ـــ لا مانع، ما لم يرشّحْ نَفْسَه على أساسٍ طائفيّ. لكنّ ذلك [الترشُّح] سيكون غباءً منه، ولو نجح! ذلك لأنّ برنامجه لاطائفيٌّ فعلًا، ولكنّه في هذه الحال لاواقعيّ أيضًا، لأنّه لن يتوصّل إلى شيءٍ وحده. فالأمر يحتاج إلى استراتيجيّة. المشاكل الاجتماعيّة المعقّدة لا تعالَج بحلولٍ جزئيّة.

*هل الأولويّة، إذًا، للقانون الانتخابيّ؟

ـــ بل تحديدًا لقانونٍ انتخابيٍّ يلغي كلّ مَنْ يترشَّح إلّا من قِبَلِ أحزابٍ لاطائفيّة.

*أنت إذًا ضدّ قانون الانتخاب المركّب [طائفيّ ـــ علمانيّ]. لا تريد أن تترك شيئًا للطوائف. أهذا طرحٌ واقعيّ؟!

ـــ لا، هذا طوباويٌّ جدًّا، ولكنْ ليس ميؤوسًا منه نهائيًّا. نبشِّر، قَدْرَ المستطاع، بالعلمانيّة. وكلّما قمنا بخطوةٍ سألنا نفسَنا: أما زلنا على المبادئ الأساسيّة، أيْ أما زلنا نعتبر الإنسانَ قيمةً مطلقة؟

*هل تَعدّ خطواتٍ مثلَ إلغاء قانون الإعلام الطائفيّ، وإيصالِ عشرة نوّاب علمانيين، مجرّدَ مكاسب مُلهية؟

ـــ ليس هذا هو الهدفَ النّهائي. الحصول على عددٍ من المقاعد في البرلمان مع القبول بالموجود لا يجدي نفعًا. كم نائبًا الآن في المعارضة؟

*ولكنّ المعارضة ليست هي العلمانيّة.

ـــ صحيح. غير أنّ كثرةَ نوّابها لم تؤدِّ إلى نتيجة.

 

مستقبل العلمانيّة وصانعوه في لبنان

*ماذا عن مؤتمر العلمانيين في لبنان الذي عُقد في قصر اليونسكو، يومَي الخامس والسّادس من أيّار (مايو) 2006؟

ـــ وقعتْ أحداثٌ منعتْنا من متابعته. انبثقتْ منه أمانةٌ عامّةٌ، لكنّها لم تتمكّن من الاجتماع بسبب الأحداث والواقع اللبنانيّ. ومع ذلك لم نقطع الأمل.

*ألا ترى أنّ هذا هو وقتُ العلمانيّة؟ ثمّة شريحةٌ كبيرةٌ من الشبّان لا تجد نفسَها في أيّ مكانٍ من التّركيبة الطائفيّة اللبنانيّة، ولذلك تتطلّع جدِّيًّا إلى صوتٍ جديد.

ـــ نعم! هناك براعم... الخطأ عند اللبنانيين أنَّ كلّ فردٍ يريد أن يكون هو البدايةَ والنهايةَ. لا أحد يَقْبل أن يكون جزءًا من المحاولة الطّالعة من قلب لبنان. المجّانيّة في «التّيّار» مهمّة جدًّا. متى أَسَّستَ تيّارًا جديدًا، ورأيتَ أنّ ضرورةَ وجوده هي الأهمّ، فلا بدّ من التنسيق ومن قبولك المجّانيّة في تعاونك مع الآخرين. نَرْجِع إلى السؤال المحوريّ: أهو تيّار من أجل الإنسان، أمْ من أجلِك أنت كشخصٍ لديه مصالحُ شخصيّة؟

*ولكنْ، بعد كلّ حساب، يجب إخراجُ الطائفيّة من إطارها الطوباويّ أيضًا! فثمّة علمانيُّون ومصلحيُّون، شأنَ كلّ فئات المجتمع. يمكن العلمانيّةَ أَن تَجْمع، على مستوى الأفراد، كلّ الشّرور الموجودة في الطّائفيّة!

ـــ المطلوب حُكمٌ لاطائفيٌّ يتميّز حقًّا بالمجّانيّة: لا يَستعمل أحدٌ فيه الآخرين لتحقيق وصولِهِ هو. وما دام قد وُجِدَ في عصرنا عددٌ، ولو قليلٌ من «الأنبياء» الذين يسعوْن إلى إيصال المجتمع بهذه الطريقة، فمن الممكن أن تؤْمنَ بأنّ لبنان قد يصل يومًا ما. جرّبنا أن نجمع الجمعيّات اللاطائفيّة: ثمّة 43 جمعيّة، ولكلٍّ منها هدفٌ خاصّ!

*أتقصد أنّنا يجب ألاّ نجرِّب أصلًا؟

كلُّ مصدرٍ أجنبيٍّ مقبولٌ، ما عدا التمويل الأميركيّ! نحن نسمّي المساعداتِ الأميركيّة US AIDS [الإيدز الأميركيّ]، ونقول إنّ على الدولار غلطةً مطبعيّة: فالمقصود ليس IN GOD WE TRUST [باللهِ نُؤْمِن] بل IN GOLD WE TRUST  [بالدولار نؤْمن].

ـــ بل يمكن أن نجرّب، إذا كانت المبادئ ثابتةً. لا اسمَ [بارزًا] لغريغوار حدّاد في «تيّار المجتمع المدنيّ.» هذه هي المجّانيّة التي نحاوِل تطبيقَها. أنا مستشارٌ فقط [في التّيّار المذكور]. يجب أن تجد صيغةً يكون فيها الإنسانُ إنسانًا. وهذا يتطلّب قدِّيسًا... بلا مرجعٍ دينيٍّ طائفيّ.

*والآن، ما هو طرح، «تيّار المجتمع المدنيّ» للوصول عمليًّا إلى العلمانيّة؟

ـــ صار لدينا شبّانٌ في الجامعات، هم نُواةُ العلمانيّة هناك. وعندنا مثلهم في بعض الأقضية، كالمتن وكسروان والنبطيّة... لكنّ الأحوال لا تسمح لنا بأن نصل إلى هدفنا بسرعة. يجب أن نتعاون، أن نعيد تجميعَ اللاطائفيين، ومَنْ عندهم الصّفات التي ذكرتُ...

*ما هو موقفك من التّمويل الأجنبي للجمعيّات المدنيّة، وضِمنها ربّما الجمعيّات العلمانيّة؟

ـــ كلُّ مصدرٍ أجنبيٍّ مقبولٌ، ما عدا التمويل الأميركيّ! نحن نسمّي المساعداتِ الأميركيّة US AIDS [الإيدز الأميركيّ]، ونقول إنّ على الدولار غلطةً مطبعيّة: فالمقصود ليس IN GOD WE TRUST [باللهِ نُؤْمِن] بل IN GOLD WE TRUST  [بالدولار نؤْمن].

 

الدين والنصّ

*حين يصل بنا الأمرُ إلى قانون الأحوال الشخصيّة يتّضح أنّه لا حلّ إلاّ من خلال قانونٍ اختياريّ، ومن ثمّ يبدو التدرُّج المرحليّ معقّدًا جدًّا...

ـــ هذه نقطةٌ ضعيفةٌ في تفكيرنا. من الصّعب جدًّا أن تجد حَلاًّ يَقْبل به الجميع.

*لماذا؟

ـــ لأنّه إذا أردنا أن نحترمَ الدّينَ الإسلاميّ، فلا بدّ من احترام مبادئه. لا يمكنك أن تَمْنع رجلًا مسلمًا من أن يتزوّج أربعَ نساءٍ، لأنّ ذلك يعني أنّك تلغي جزءًا من الإيمان الإسلاميّ. جوازُ الاقتران بأربع نساء انتقاصٌ لحقوق المرأة، ولكنْ إذا أردتَ أن تحترم الدينَ الإسلاميّ فأنتَ مضطرٌّ إلى قبوله!

*قانونُ الإعدام أيضًا مشكلة. حتّى المسيحيّة، وهي دين الرّحمة...

ـــ (مقاطعًا) المسيحيّة شيء، والمسيحيُّون شيءٌ آخر. المسيحيّة لم تَقْبل أبدًا بالإعدام، بينما المسيحيُّون...

*ولكنْ هل المسيحيّةُ بالنّسبة إليك نصٌّ فقط؟ أَوَليست أيضًا سيرورةً تاريخيّةً؟

ـــ يجب تجريدُ النّصّ من كلّ ما يَخْرج على أساسيّاته. حتى في النصّ المسيحيّ ثمّة أمورٌ تاريخيّة [أي تختصّ بظروفٍ تاريخيّةٍ محدّدة]. مار بولس يقول: «الرّجل رأسُ المرأة.» هذا أمرٌ تاريخيّ [لا مطلق]، وليس فيه احترامٌ للمرأة.

*حتّى النّصّ يجب أن «نُفَلْتِرَهُ» إذنْ؟

ـــ هناك النّصّ، وهناك النّقل. النّصّ وتفسيره حسب بعض المبادئ. وهذا يفرض علينا انتقائيّةً لا مهرب منها.

*دينُك إذًا ليس المسيحيّة، بل الإنسان. ثمّة أمورٌ كثيرة في المسيحيّة لا تعجبك!

*أنا مسيحيٌّ لأنّي لم أجد كلمةً قالها المسيحُ وفيها معاداةٌ للإنسان. على المرء أن يَقْبل بالانتقاد حتى تتطوّر البشريّة. يجب أن يظلّ الانتقادُ موجودًا حيال بعض المبادئ التي لا تتطوّر.

*تقول إنّ الحُكْم يجب أن يلازمه الحوار. لكأنّ الأفكار يجب أن تُحَكْ دائمًا بالواقع لنرى مدى ملاءمتها للإنسان والمجتمع...

ـــ على كتبي دائمًا هذا الوصف: «عناصر حوار».

*أثمّةَ دَوْرٌ للسلطات الدينيّة في المجتمع المنشود؟

ـــ أبدًا! كلُّ سلطةٍ دينيّة هي غلطٌ كسلطة.

*ماذا تعمل بالسّلطات الموجودة؟ أتلغيها؟

ـــ كلّا! بل أردّها إلى الخدمة. فقد قال المسيح: «لم آتِ لأُخْدَمَ بل لأَخْدُمَ.»

*وماذا عن السلطات الإسلاميّة؟

ـــ لا سلطةَ دينيّةً في الإسلام أصلًا. وليس هناك رجالُ دين!

*أوّلا يجعلُكَ وضعُك الشخصيُّ داخل الكنيسة جزءًا من السّلطة؟

ـــ لا! لا! حين تركتُ مطرانيّةَ بيروت سنةَ 1975، لم يعد لي أيُّ دورٍ في المؤسّسة الكنسيّة... فازددتُ تعمُّقًا في المسيحيّة الحقيقيّة. هكذا كتبتُ: «تحرير المسيح والإنسان.» يجب أن نحرِّر المسيحيّة من تاريخها المسيحيّ، من كلّ تفكيرٍ عن المسيح جاء بطريقةٍ اعتباطيّةٍ أو نسبيّة. فالمسيح أفضلُ من كلِّ تعبيرٍ عنه في التاريخ، بما فيه كونُه رئيسَ قبيلةٍ طويلةٍ عريضةٍ اسمُها «المسيحيّة.» المسيح هو من أجل البشريّة كلِّها بقيمه الإنسانيّة الكبرى.

*ما رأيك في بعض الأطروحات عن «المجتمع المسيحي،» و«وحدة الصّفّ الإسلامي,» إلخ...؟

ـــ رأيي أنّ في مثل هذه الأطروحات تناقضًا مبدئيًّا. «المجتمع» كلمة علمانيّة.

*هل الوطنيّةُ هي البديل؟

ـــ الوطنيّة صارت جزءًا من العولمة. هي أمرٌ موقّت. حين تقف إزاء الآخرين، يجب أن تقبل بنفسك كجزءٍ نسبيٍّ مع أجزاء أخرى... يجب الالتقاءُ معها بالحوار.

*وشرطُ الحوار، عندك، أو شرطُ القبول بالآخر واحترامه، هو اعترافُكَ بأنّه قادرٌ على التّغيّر.

ـــ كذلك كان غاندي. العرف عندي أنّ الآخر ليس مجمّدًا، بل قابلٌ للتّغيُّر والتغيير.

*أنت تدعو إلى فصل التربية الدينيّة عن المؤسّسات التربويّة. بينما هناك مؤسّساتٌ تربويّة قائمةٌ على أساسٍ دعاويٍّ. كيف المطالبة عمليًّا بذلك، وكيف تنفيذه؟

ـــ أوّلًا، يجب أن نطلبَ أساتذةً علمانيين. يجب تدريبُهم على العلمنة، أيْ على القبول بالآخرين، وتعليم مبادئ الإنسان كقيمةٍ مطلقة. يمكن أن تعلّمهم أمثلةً روحانيّة لا دينيّة، لا تنتمي إلى المسيحيّة ولا إلى الإسلام. وهذا يتطلّب تمرين الأساتذة القادرينَ على التّعليم بهذا الشكل.

بيروت

 

 

الحوار الثاني، (العدد 4 ــــــــــ 6)، سنة 2009

 

 

 

مقابلة مع المطران غريغوار حداد

حاوره: يسري الأمير

 

*كيف يفسّر سيادة المطران حدّاد مفهومَ الإصلاح الدينيّ؟

ـــ كيف أفهم الدين أولًا؟ وبعد ذلك كيف أفهم إصلاحه؟

الدين تجسيد تاريخيّ للإيمان. والإيمان يتجاوز التاريخ. والتاريخ علاقة الإنسان بما يتجاوز الإنسان، أيْ بما يسمى عادة "الله." الدين تجسيد لهذه العلاقة في الأمور البشرية؛ إنه علاقة الإنسان بذاته، وبالآخر، وبالمجتمع. وهو يتجسّد في الصلاة والصوم والمحبة واحترام الآخر... إلى آخره من الأمور التي تكون في حياة الإنسان الشخصيّة والجمعيّة.

ولمّا كان للدين بعدٌ تاريخيّ، أيْ تجسيدٌ مختلفٌ في كلّ زمان ومكان، فإنّ كلّ دين يمكن أن يتطوّر بطرق مختلفة. ولأنّ الإنسان متنوّع، لأنّه ابن تاريخه وبيئته، فيمكنه أن يأخذ من الدين ما يظنّه مؤاتيًا، أو يتجاوب مع بعض حاجاته. لذلك يمكن أن يسري هذا الحكمُ على ما هو أفضل، وعلى ما هو أقلّ صلاحًا؛ فيصبح للدين تعبيرٌ مختلفٌ بحسب كلّ إنسان، ونشأته، وحاجاته، وإمكانيّة حكمه على ما هو حسنٌ وما هو أحسنُ أو أقلّ حُسنًا.

هنا يدخل مفهومُ الإصلاح: إنّه الحكمُ على ما وصل إليه الدينُ في زمان ومكان محدّديْن، وفقًا لمعاييرِ مَن يسمّي نفسه "مصلحًا دينيًّا." ولهذا السبب فإنّ الإصلاح أيضًا يتنوّع وفقًا للزمان والمكان. فالإصلاح الإنجيليّ أو البروتستانتيّ في المسيحيّة بدأ في القرن السادس عشر مع مارتن لوثر، الذي أراد إصلاحَ ما توصّلت إليه المسيحيّةُ من تفاسير أسّستْ للتعبير السلطويّ للدين الكاثوليكيّ، أي الفاتيكان والباباوات الذين تعاقبوا على الفاتيكان؛ فجاء إصلاحُه محاولةً لإرجاع الدين ــــ أو التعابير الدينيّة الكاثوليكيّة ــــــ إلى الأصل، أي الإنجيل. فأخذ يُشذّب ما ظنّه انحرافًا في الإيمان بالمسيح. وهكذا نشأ ما سُمّي بالإصلاح، وكأنه اسم علم جديد.

 

*هل تعتبر ما قام به مارتن لوثر إصلاحًا نابعًا من انزعاجه الفكريّ مما أسميته "انحرافات،" أمْ أنّ هناك صدًى اجتماعيًّا لحركته؟

ـــ لا شكّ في أن مارتن لوثر كان هو أيضًا ابنَ عصره وزمانه ومكانه. ولمّا كانت لديه متطلّباتٌ روحانيّةٌ لم يجدها في التعابير الكاثوليكيّة، فقد جاء الإصلاح على يده من خلال حاجاته النفسيّة والروحيّة والاجتماعيّة والسياسيّة. فهل يمكننا أن نحكم على إصلاحه وكأنّه ذو نوع من المطلقيّة أو العصمة من كلّ خطإ؟

الحقّ أنّ متطلّبات الإنسان الروحيّة عديدة جدًّا، ومن المستحيل الحكمُ على أيّ إصلاح وكأنّه يعبّر عن الحقيقة المطلقة؛ فكلُّ إصلاح هو أيضًا نسبيّ. ونحن نرى أنّ الإصلاح البروتستانتيّ تطوّرَ، بدوره، على مدى القرون الأربعة الأولى. كما تعدّد ما تمْكن تسميتُه "الشيع البروتستانتيّة أو الإنجيلية،" ويُقال إنّها في الولايات المتحدة الأميركيّة تتجاوز الثلاثمائة أو الأربعمائة، وكلّها تدعي الإصلاحَ وتظنّ أنّها جاءت بالإصلاح الأصحّ، وتقع معاركُ كلاميّةٌ بين هذه الشيع المختلفة.

ومنذ ثلاثين سنة إلى اليوم، نشأ ما يُسمى بـ "الحركة المسكونيّة" التي تجمع بين التعابير المختلفة للمسيحيّة، من كاثوليكيّة وبروتستانتيّة وأرثوذكسيّة إلخ. وهي لم تسعَ إلى القيام بمعارك لاهوتيّة، بل إلى محاولة تفهّم الآخرين، واكتشافِ ما يمكن أن يصلوا فيه إلى جوامعَ مشتركةٍ بينهم. وعندما تقول الكنيسة بتعبيرها التقليديّ "الكنيسة الواحدة الجامعة المقدّسة الرسوليّة،" فإنّ أعضاء الكنيسة المسكونيّة، في المقابل، لم يعودوا يفتّشون عن كيفيّة الوصول إلى الوحدة التي تلغي الشيَعَ المختلفة، بل يسعوْن إلى التنسيق بين التعابير المختلفة، والمؤسّسات الكنسيّة المختلفة، وكأنّ هناك نوعًا من الإصلاح الجديد الذي تمكن تسميته بـ"الإصلاح المسكونيّ."

كما أنّ هناك تيّارًا لا يزال خجولًا في المسيحيّة يعتبر أنّ المسيح لم يأتِ كزعيم للمسيحيين، بل كقيمةٍ مطلقةٍ في العلاقة بين الله والإنسان. ومن ثم فقد أخذ هذا التيّار يتجاوز حدودَ المسيحيّة إلى اللقاء مع باقي الأديان، وأصبح المسيح في هذا التيّار وكأنّه يجسّد الروحانيّة التي يسعى إليها عالمُ اليوم في تجاوزه للأديان ولتعابيرها التاريخيّة.

 

أليس الإصلاح الدينيّ بهذه الطريقة مخيفًا للمؤسّسات الدينيّة القائمة؟

هو مخيف بشكل مؤكّد للأديان، ولرؤساء الأديان، وللذين يتحجّرون في طريقة إيمانهم. لكنّ هذا الإصلاح هو الباب المفتوح لجميع الذين يريدون أن يُحْيوا إيمانَهم في العمق، من حيث هو العلاقة بالله وبالإنسانيّة جمعاء. ومن الممكن أن تَحلّ مرحلةٌ نأمل أن تذهب أكثر فأكثر نحو الانفتاح والقبول بالآخر وتجاوز الحرْفيّة التاريخيّة للأديان، فتجد التعابيرَ المشتركةَ القادرةَ على أن توحّد بين المؤمنين بالله والإنسان.

 

*وماذا سيبقى من الكنيسة والشعائر و"الخصوصيّة الدينيّة" للطوائف؟

ـــ تبقى الروحانيّة التي كان من المفترض أن يكون الدينُ، كلُّ دينٍ، تعبيرًا عنها! ولهذا السبب يمكن أيضًا الوصولُ إلى مطلقيّة الله وحده، أيْ لا إله إلا الله، واعتبارُ كلّ ما هو غيرُ الله نسبيًّا. يمكن أن تلتقي كلُّ التيّارات أو التوجّهات الدينيّة عند هذا الصعيد الروحانيّ. ولا بدّ أن تمرّ المؤسّسات الدينيّة في هذا العصر من الجمود إلى الانفتاح، وإلى القبول بالنسبيّة والتعدّديّة. وقد تكلّم إنجيلُ يوحنّا بما يمكن أن نعتبره تنبّؤًا لما ستصل إليه البشريّة: "فعندما سألت السامريّةُ المسيح (والسامريّون كانوا فرقة يهوديّةً يعبدون الله على جبل غاريزين، بينما اليهودُ يعبدونه عند الهيكل الأوراشيليميّ) أين يجب أن نعبد الله، هنا أمْ في أورشليم؟ أجابها: "لا في هذا الجبل ولا في أورشليم!" فالله هو الروح، ويجب أن يُعبد بالروح وبالحقّ. هكذا كان المسيحُ يعلن تجاوزَه لليهوديّة والسامريّة وكلِّ الديانات، للوصول إلى الله، الذي هو الروح، وتجب عبادتُه بالروح وبالحقّ.

هنا يلتقي الإيمانُ بالعلمانيّة، التي هي استقلاليّة مكوّنات العالم عن مكوّنات الإيمان أو الأديان. وهكذا تطوّرت الأديانُ نحو الروحانيّة، وتطوّرت النظمُ المجتمعيّة نحو العلمانيّة، ويمكن أن يلتقي التطوّران هكذا.

هناك تيار يعتبر أن المسيح لم يأت كزعيم للمسيحيين، بل كقيمة مطلقة في العلاقة بين الله والإنسان. ومن ثم فهو يتجاوز حدود المسيحية إلى اللقاء مع باقي الأديان.

 

*وفق تصوّر الأديان هذا، مَن يضبط الشعائرَ الدينيّةَ وممارساتِها التي يحتاج إليها الفردُ المؤمن؟ ثم إنّك تتحدّث عن تطوّر الأديان باتجاه التوحّد والتفاعل، فيما نرى أنّ الأديانَ المختلفة، والمذاهبَ ضمن الدين الواحد، تتشقّق أكثرَ فأكثر بحركة عكسيّة!

ـــ ما أقترحه جزءٌ من التطوّر. هناك تطوّرٌ نحو التقسيم والتفتّت؛ وهناك نزوعٌ آخر نحو التلاقي، وأسمّيه المسكونيّة. التلاقي هو للمختلفين، ولتجاوز الاختلاف. أما يزال هذا التيّار أضعفَ من التيّار التقسيميّ؟ نعم. لكنْ، مثلما أنّ العالم أصبح "قرية صغيرة" كما يقال، ولغتها الإنترنت، فإنّ بإمكان الانترنت أن يصبح وسيلةً في خدمة تيّار التوحيد والتنسيق أو المسكونيّة.

أمّا عن حاجة الناس إلى الشعائر، فإذا كانت الحريّة مطلقة لكلّ فرد، فإنّ في مقدوره حينها أن يختار الشعائرَ التي تعطيه نوعًا من السلام الداخليّ ومن الارتياح، وبحيث يعتبر كلُّ إنسان نفسه متّحدًا بالإنسانيّة جمعاء، فلا يعود يتأثّر بالاختلافات في العقائد والشعائر.

 

*وما شروط اقتناع الناس من الأديان المختلفة بمثل هذه النظرة؟

ـــ أسميتُه التيار الضعيف حاليًّا. والمطلوب ممّن يقتنعون به أن يثابروا على الاقتناع، على الرغم من الصعوبات والمضايقات والانتقادات. وكان الله يحبّ الصابرين.

 

*هل تعتبر مثل هذه الحالة المسكونية ضرورةً للعلمانيّة؟ أمْ أنّ استخدام تعابير وشعارات تطاول أحوالَ الناس الاقتصاديّة والاجتماعيّة والأمنيّة يمكن أن تَحُول دون تغيير عقائد الناس الدينيّة؟

*العلمانية غير كافية حتمًا، ولهذا السبب يجب أن تلتقي مع كلّ متطلّبات الناس الاجتماعيّة والاقتصاديّة، بغضّ النظر عن انتماءاتهم الدينيّة والطائفيّة. وبما أنّ عالم اليوم على الصعيد الاقتصاديّ والماليّ أخذ ينهار، فقد تكون هذه فرصةً جديدةً من أجل بناء اقتصادٍ غير الاقتصاد الرأسماليّ المتوحّش.

 

*مَن يقوم ويبشّر بهذا الإصلاح الدينيّ؟ رجالُ الدين أمِ العلمانيّون؟

ـــ كلُّ مَن يغنّي على ليلاه. الإصلاحيّون الدينيّون لا شكّ سيكملون مسيرتهم، والعلمانيّون نأمل أن يزدادوا يومًا بعد يوم من أجل بناء المجتمع المدنيّ السليم.

 

*ألا ترى أنّ العلمانيّة تلتقي مع الإلحاد أكثر ممّا تلتقي مع الإيمان التقليديّ؟

ـــ لا، "تيار المجتمع المدنيّ" بدأ منذ عشر سنوات، وهو يضمّ مؤمنين مسلمين ومسيحيين وملحدين ولاأدريين.

 

*كيف تطوّر الفكرُ الإيمانيّ للمطران حداد من الإيمان التقليديّ إلى ما نسمعه؟!

ـــ تطوّر شيئًا فشيئًا، عبر القراءات أولًا: الإنجيل، والعالم اليسوعيّ "تيّار دو شاردان" الذي تبنّى نظريّة داروين في تطوّر الإنسان ليس انطلاقًا من الفرد كما يقال، بل من أبسط الخلايا إلى أكثفها وأكثرها وعيًا؛ فكلّما تكثّف التركيبُ الجسديّ علا تكثيفُ الوعي.

بيروت

هذا الحوار تمّ في "بيت السيدة" حيث يرقد المطران حداد معانيًا ترققًا في العظام. والآداب تتمنّى للمطران الجليل، والصديق، والحبيب، أن تتحسّن صحّته قريبًا، وتشكره عظيم الشكر لقبوله إجراء المقابلة رغم وضعه الصحّيّ (2009).