د. إسماعيل سكّريّة لـ الآداب: الوضع الصحّي ضحية للتلوث السياسي
13-10-2020

 

(حوار أجرتْه: عُبادة كسر)

* في المقابلة الأخيرة معكم في مجلة الآداب،[1] أجريْنا قراءةً تقويميّةً للقطاع الصحّيّ اللبنانيّ ومؤسّساتِه العامّة والخاصّة. وتحدّثنا عن واقع الفاعلين فيه، والسياسةِ الصحّيّة، ومافيا الأدوية. وتوصّلنا إلى نتيجةٍ مفادُها أنّ هذا القطاع سيواجه كارثةً نتيجةً للفساد المستشري منذ عقود. المفارقة أنّ هذا القطاع، في ظلّ جائحة كورونا، هو اليوم في قلب الكارثة، بدلًا من أن يعمل على التخفيف منها. وما يزيد الطينَ بلّةً هو واقعُ البؤس الاقتصاديّ، المترافق مع موجاتٍ عنيفةٍ من الفساد واحتكارِ الأدوية. نبدأ من أزمة الدواء. ماذا تقول؟

سوق الدواء متفلّتة من الرقابة منذ عقود. كلُّ وزراء الصحّة أهملوا مادّةً غايةً في الأهمّيّة من "قانون مزاولة مهنة الصيدلة،" وهي المادّةُ التي تَفْرض على تاجر الدواء أن يَستحضرَ شهادةً عن سعر بلد المنشأ، ثمّ يضيفُ إليها سعرَ شحنَ البضاعة وتخليصِها من المرفأ وربْحَ الصيدليّ والتاجر. لكنّ التاجر تواطأ مع وزارة الصحّة، ووضع أسعارًا مضاعفةً خمسَ مرّاتٍ أو أكثر!

هذا لناحية التسعير. أمّا لناحية النوعيّة، فالمشكلة مضاعفة. فنحن، منذ عقود، في بلدٍ لا مختبرَ مركزيًّا فيه لكشف جودة الدواء. وهذه، في رأيي، كارثةُ الكوارث لأنّ "الأمنَ الدوائيّ" في السوق مفقود، بل عليه علامةُ استفهامٍ كبيرةٌ أيضًا. ذلك لأنّ كثيرًا من الأدوية لا حاجةَ علاجيّةً لها لأنّها مجتزأةُ الفعّاليّة، وتحتوي الكثيرَ من الشوائب (لجهة عدم نقاوة المادّة الخامّ).

أمّا لماذا تختفي الأدويةُ من السوق اللبنانيّة في المدّة الأخيرة، فالسبب الرئيس والفعليّ لا يعود إلى أنّ الناس أصابها الهلعُ من فقدان الأدوية فهجمتْ على السوق وخزّنت الأدوية، بل يعود إلى ما قام به التجّارُ الاحتكاريّون. فهم يصدِّرون أكثرَ الأدوية إلى الخارج، وتحديدًا إلى العراق وليبيا، ليقبضوا بالدولار "الطازج" (fresh money)!

حتى المؤسَّسات التي تصنِّع محلّيًّا اختفت منتجاتُها فجأةً، وتبيّن أنّها هرّبتْها إلى الخارج لتبيعَها بالدولار أيضًا. سأعطيكِ مثلًا: دواء Lazix، وهو دواءٌ مهمٌّ جدًّا للقلب ولتشمُّعِ الكبد، يُهرَّب إلى الخارج لبيعه بالدولار.

طبعًا هذه السياسة يتواطأ معها المصرفُ المركزي الذي يهدِّد دائمًا برفع الدعم عن الدواء. وكلُّ ذلك متفلّتٌ من الرقابة والمحاسبة.

إنّ فقدانَ مختلفِ أصناف الأدوية الأساسيّة من السوق اللبنانيّة فتح المجالَ أمام دخول أدويةٍ إلى البلد مشكوكٍ في نوعيّتها. ومنها ما يجري تهريبُه الى لبنان عبر القادمين إليه. وكلُّ ذلك يسهم في تهديد الأمن الصحّيّ بشكلٍ تصاعديّ.

 

* ننتقل إلى أزمة كورونا. أين نحن اليوم؟

- نحن الآن في وضعٍ لا نُحسد عليه. القطاع الصحّيّ مأزومٌ جدًّ، بل كارثيّ أيضًا. في المقابلة السابقة، قبل حلول جائحة كورونا، قلنا إنّ الواقع آنذاك كان استكمالًا لوضعٍ يتغلغل فيه فسادٌ غيرُ مسبوق: وضعٍ خاضعٍ للمحاصصات الطائفيّة، ويحوِّل قطاعَ الصحّة إلى سوقٍ للمنفعة والربح و"الزَّوْبنة."

مع غزوة الكورونا، وصل هذا القطاعُ إلى شللٍ في القطاع الحكوميّ، وتحديدًا المستشفيات؛ شللٍ بدأتْ معالمُه في الظهور في "مستشفى رفيق الحريري الحكوميّ." إذ على الرغم من الدور الذي يقوم به الآن، فإنّ الإرباك هو سيّدُ الموقف في التعاطي مع حالات الكورونا.

لقد طالبتُ منذ البداية بتحويل هذا المستشفى إلى مستشفًى خاصّ لمواجهة الكورونا، أيْ أن يخصَّصَ 540 سريرًا لمرضى هذا الوباء. عندها سيصبح مستشفًى جامعيًّا يتكفّل بمهمّة المواجهة والمراقبة ودقّةِ فحوصات الـPCR والاستعانة بخبراءَ جامعيّين نظرًا إلى النقص في الجسم البشريّ.

للأسف، أستطيع أن أشبّهَ القطاعَ الصحّيَّ في مواجهة كورونا بالحصان المتضوِّر جوعًا وقد قرّر صاحبُه أن يُشْركَه في سباق!

القطاع الصحّيّ الحكوميّ وقع ضحيّةً للتلوّث السياسيّ، والمحاصصة، وللصراع في تعيين مجالس الإدارات ("المركّبة" لحماية مشاريع الفساد وتطبيقِها). للأسف، نحن نواجه الكورونا بعدّةٍ "مصدّاية" (أكلها الصدأ).

 

* ماذا تعني بأنّها عدّة "مصدّاية"؟

- أعني أنّ المستشفيات الحكوميّة ضعيفة، بشريًّا وأداءً وتجهيزًا، على الرغم من الأموال التي أتت لدعم هذا القطاع ولا أحد يعرف أين ذهبتْ! هذا من جهة. ومن جهةٍ أخرى، فإنّ القطاع الخاصّ الذي اعتاد "الشفط" (السرقة) ما زال، بشكلٍ عامّ، يتهرّب من استقبال حالات الكورونا. وبالمناسبة، فإنّ لدى هذا القطاع 12 ألف سرير تقريبًا...

 

*عفوًا على مقاطعتك، دكتور. ماذا تعني بأنّ القطاع الصحّيّ الخاصّ "يتهرّب"؟ هل يتهرّب إذا أراد المصابُ أن يتعالجَ على نفقته الخاصّة؟

- الحديث عن استقبال المرضى على نفقتهم الخاصّة موضوعٌ آخر. لكنْ دعيني أعود إلى الواقع الصحّيّ. إنّه، باختصار، رديفٌ لواقعنا الماليّ والاقتصاديّ: تَراكمُ فسادٍ ضخمٍ فتك بالدولة ومؤسّساتِها. وهذا أوصلنا إلى ضعفٍ في القطاع الصحّيّ الحكوميّ بشكلٍ محدّد، لأنّه قطاعٌ مهمَلٌ، شأن أيّ قطاعٍ حكوميّ آخر. لكنّ القطاع الصحّيّ عانى التسييسَ والفسادَ ربّما أكثر من القطاعات الأخرى، ومن ثمّ أصبح أداؤه ضعيفًا في مواجهة أزماتٍ كبيرةٍ كالكورونا.

سأضرب مثلًا: في كلّ منطقة بعلبك-الهرمل طبيبان فقط متخصّصان بالعناية الفائقة، وثلاثةُ أطبّاء متخصّصون بالأمراض الصدريّة...

 

* عفوًا، ماذا تعني بـ"متخصّص بالعناية الفائقة"؟

- أعني أنّ الشخص متخصّص في الطبّ، ولكنّه خضع لمرحلةٍ تعليميّةٍ (residency) في الأمراض الصدريّة، ويتخصّص لفترةٍ في العناية الفائقة. هذا الطبيب هو الذي يَستقبل الحالاتِ المرَضيّةَ المستعصية، كالمرضى الذين يحتاجون إلى أنْببة (incubation)، أيْ إلى إدخال أنبوب التنفّس وشفْطِ السوائل من الرئتين، إضافةً إلى التنفّس الاصطناعيّ. وبالمناسبة، ما يزيد القلقَ والمخاوفَ هو بدءُ هجرة هذه الاختصاصات، وهي هجرةٌ بدأت اليومَ مع عقلٍ مرجعيٍّ في هذا المجال...

 

* دعني أفهم أكثر. تقصد أنّه لا يستطيع أن يقومَ بمهامّ "المتخصِّص بالعناية الفائقة" أيُّ طبيبٍ أو ممرِّضة؟

- بالطبع كلّا.

 

* ما تفضلتَ به خطيرٌ يا دكتور. فذلك يعني أنّ الشخصَ العامل في الجسم الصحّيّ، ولكنّه غيرُ مؤهَّلٍ لاستقبال مريضٍ في العناية الفائقة، قد يعرِّض حياةَ هذا المريض للخطر. ومع الأعداد القليلة في هذا الاختصاص، فذلك يعني أنّ الأمر لم يعد محصورًا بنقص التجهيزات، بل تخطّاه إلى الجسم الطبّيّ كذلك. أليس كذلك؟

- سؤالُكِ ذكّرني بقضيّة الطفلة ايلّا طنّوس. يومَها، كتبتُ مقالًا [2] تحدّثتُ فيه عن أنّ الخطأ الطبّيّ لا ينحصر بدور الطبيب، بل يبدأ من "مستشفى سيّدة المعونات" التي تدّعي أنّها مصنّفة "درجة أولى" وأنّ لديها قسمًا للعناية الفائقة، في حين أنّها في الواقع لا تمتلك مواصفاتِ العناية الفائقة كاملةً. الخطأ الأول جاء منذ اللحظة الأولى، إذ لم تُسعَفْ إيلّا كما يجب. واستُتبع الإهمالُ في المراحل اللاحقة كلّها: بدءًا برفض استقبالها في أحد المستشفيات الكبرى، وصولًا إلى محطّتها الأخيرة في مستشفى الجامعة الأميركيّة في بيروت، حيث واجهتْ خيارًا من اثنين: إمّا بتْر الأطراف (وهو ما حصل) أو الموت. هذا المثال ينطبق أيضًا على عمليّة التعاطي مع المصابين بالكورونا.

 

* هل تقصد أنّ المستشفيات الخاصّة لا تمتلك جميعُها قسمًا للعناية الفائقة، أو أنّ لديها قسمًا كهذا لكنْ لا تتوافر فيها كلُّ الشروط؟

- أكيد. قسمُ العناية الفائقة يعطي المستشفى تصنيفًا مهمًّا، ويجعله يتحكّم بالأسعار ويسعى إلى الربح. بعضُ المستشفيات الخاصّة دفع رشاوى إلى لجنة التصنيف، وبعضُها يستعير فريقًا طبّيًّا أثناء التفتيش والتصنيف، فقط كي يحظى بالتصنيف! وهذا المشهد ينطبق أيضًا على القطاع الحكوميّ.

مثلًا، أثناء إدارة الدكتور وسيم الوزّان لـ"مستشفى رفيق الحريري الحكوميّ،" كانت تَنقص هذا المستشفى مراوحُ وأنظمةُ تهوئة، فاستُدعيتْ شركةٌ، وشُغّلتْ أنظمةُ تهوئة ومكيّفات لمدّة 24 ساعة فقط، مقابل 50 مليون ليرة في المستشفى، كي يحظى هذا الأخيرُ بالتصنيف، ومن بعدها توقّفتْ!

طيّب، في رأيك، كيف نستطيع أن نواجهَ وباءَ الكورونا في ظلّ ذهنيّةٍ فاسدةٍ، وممارساتٍ أفسد؟ نحن أمام غياب سياسةٍ صحّيّة، وأمام قسمٍ من الجسم الطبّيّ لا يهتمّ إلّا بالربح. إضافةً الى وجود مستوًى متدنٍّ من المهنيّة (لدى بعض الأطبّاء والممرّضين على السواء)، وتهاونٍ بحياة الناس. إذًا، لا مجال لمواجهة الوباء بالشكل السليم.

 

* كم مستشفًى حكوميًّا مؤهَّلًا لكي يكون فيه قسمٌ للعناية الفائقة؟

- في القطاع العامّ، المستشفى الوحيد ذو المواصفات شبهِ الكاملة هو "مستشفى رفيق الحريري" فقط، ولديه 16 سرير عناية فائقة فقط.

 

* أتمنّى، دكتور، أن توجزَ لنا الرصدَ اليوميَّ الذي قمتَ به منذ اليوم الأوّل لتسجيل أوّل حالة كورونا وحتى اللحظة، وأن تقوِّم الأداء بشكل عامّ.

- عندما بدأت الجائحة، طالبتُ بتخصيص "مستشفى رفيق الحريري" لمواجهة الكورونا كما سبق الذكر، ليس لأنّه كبيرٌ ويتّسع لأعدادٍ كبيرةٍ من الأسرّة (540 سريرًا)، بل لكي يكون مَرْجعًا لكيفيّة المواجهة: بحيث نوسِّع الدائرةَ بعد ذلك، ونستعينُ بالقدرات التعليميّة في المستشفيات الجامعيّة (كالجامعة الأميركيّة واللبنانيّة واليسوعيّة) بقيادة وزارة الصحّة، وبناءً عليه تتشكّل هيئةٌ علميّةٌ مهمّتُها مراقبةُ أداء "مستشفى الحريري" وتدريبُ العاملين فيه كي يكون أنموذجًا يُحتذى لكيفية مواجهة الكورونا -- بدءًا من الطبيب، ووصولًا إلى البنى التحتيّة البشريّة (كالتمريض، وجميع الموظّفين، بمن فيهم عناصرُ الأمن) والمادّيّة (التجهيزات). عندها، يتشكّل فريقٌ متكاملٌ لمواجهة الكورونا، ومنه ننطلق للمواجهة على صعيد لبنان كلّه.

بصراحة، أشعرُ بالخوف، بل بالرعب، لأنّ أعدادَ إصابات بالكورونا تنحو في اتجاهٍ تصاعديّ، ولا قدرةَ لدينا على المواجهة الاستشفائيّة. لذا طالبتُ أيضًا بمراقبة المختبرات، والتدقيقِ في نتائجها. وفي "الهيئة الوطنيّة الصحّيّة الاجتماعيّة" تراكمتْ لدينا ملفّاتٌ عديدة، من ضمنها ما يتعلّق بالمختبرات التي تعطي نتائجَ وهميّةً وغيرَ دقيقةٍ عن أمراضٍ كالإيْدز والتهاب الكبد س (Hepatitis C)، وهي أمراضٌ أخطرُ من الكورونا. فهذه المختبرات أحيانًا تقول للمرضى إنّهم غيرُ مصابين بالفايروس، لكنّهم في الحقيقة يكونون حاملين له! لماذا هذه النتائج؟ لأنّ الموظّفين غيرُ مؤهَّلين لاستخدام الـPCR kit (عُدّة فحص الكورونا) لكون هذا الفحص يحتاج إلى مهارةٍ في تطبيق التقنيّة، والى دقّةٍ عالية.

وطالبتُ الحكومةَ أيضًا بأن تأخذ قراراتٍ استثنائيّةً بوضع اليد على مؤسّساتٍ غير مستعملة، من فنادقَ ومدارسَ وأبنيةٍ فارغة، من أجل مواكبة مرحلة فتح المطار وحَجْر الآتين إليه. وطالبتُ بأن يكون الحَجْرُ مراقَبًا، لا أن "نطلب" إلى المواطن المصاب أن ينحجرَ في منزله؛ إذ كيف نَطلب من الناس أن يَحْجروا أنفسَهم، وجزءٌ منهم ليسوا مقتنعين حتى اللحظة بوجود كورونا؟!

ثمّ إنّني طالبتُ بتشديد الرقابة على القنصليّات والسفارات في الخارج. فهناك درجتْ قصةُ "التزبيط": أيْ يأتي مسافرٌ إلى لبنان بنتيجة PCR مزوّرة!

 

* هل لك، دكتور، أن تتوقّف قليلًا عند عُدّة فحص الكورونا (PCR Kit

- بعضُ هذه العُدّة يأتي من الصين. هنا لا أقصد أن أسيء إلى الصناعات الصينيّة أبدًا بالطبع، لكنّها - شأنَ أيّ صناعات عند أيّ دولة - فيها النوعيّةُ الممتازة، وفيها النوعيّةُ غيرُ الممتازة. ولدينا تجربةٌ مع دواء Plavix (لشرايين القلب) القادم من الصين. فقد قمتُ بكشفه عندما تسبّب بمقتل شابّ (47 سنة) لأنّ مستوى فعّاليّته (active ingredient) هو 54% فقط. وقد تبيّن أخيرًا أنّ الخلافاتِ الطويلة بين وزارة الصحّة وبعضِ أعضاء "اللجنة العلميّة لمواجهة الكورونا،" بصدد اعتماد الفحص السريع (rapid test) أو عدم اعتماده، إنّما هي خلافاتٌ تعود إلى صفقة PCR ما تزال ساريةَ المفعول! ونتيجةُ هذه الصفقة مغالطاتٌ في النتائج، بل قد تظهر النتيجةُ ويظهر نقيضُها في اليوم التالي (مثلما حصل في مستشفى شبعا الحكوميّ، ومستشفى مشغرة الحكوميّ، ومستشفى الهراوي الحكوميّ). كما تناقضت النتائجُ بين مستشفى أوتيل ديو ومستشفى رفيق الحريري.

 

* هل يمكن أن تعطينا مثلًا على هذه الصفقات؟

- لقد رُصدتْ أكثرُ من حالة "قياس حرارة" أمام المؤسَّسات، العامّةِ والخاصّةِ والتجاريّة، من ضمن الإجراءات المتَّبعة لمواجهة الكورونا. فأثناءَ فحص حرارة الناس قبل دخولهم إلى تلك المؤسّسات، سُجِّلتْ مرارًا درجاتُ حرارةٍ منخفضة بلغتْ 32 درجةً؛ وهذه هي درجةُ حرارة الميّت! كيف لهذا الميزان أن يلتقطَ هذه الحرارة لأشخاصٍٍ على قيد الحياة؟ هذا مؤشّرٌ على أنّ هذه الأجهزة فاسدة، ولا تفي بالغرض المطلوب.

 

* تحدّثتَ عن أداء حكومةٍ غير مسؤولة تجاه أزمة كورونا. ماذا عن أداء وزارة الصحّة تحديدًا؟ هذه الوزارة أتت على أنقاض الوزارت السابقة، فهل كان في مقدور الوزير أن يقومَ بدورٍ أفضل ممّا يقوم به حاليًّا؟

- استمرَّ الأداءُ السياسيّ الصحّيّ على حاله في الوزارة الحاليّة كما كان قبلها تمامًا، بل قد يكون أسوأ في بعض الحالات! هل هناك إمكانيّةٌ لأن يقوم الوزيرُ الحاليّ بأداءٍ أفضل؟ نعم، يمكنه ذلك، لكنْ بحدودِ ما يُسمح للشخص.

جميعُنا يَعرف أنّ للوزير في لبنان "حضنًا" سياسيًّا؛ وهو ما ينطبق على وزارة الصحّة بالتأكيد. وهذا يمكن أن يعرِّضَ الوزيرَ لضغوط: فإذا أراد أن يحاسِبَ، فقد يوقفه "الحضنُ" المذكورُ لحساباتٍ سياسية. ولكنّ ذلك لا يعني أنّ الوزير مجبرٌ على الاستسلام لهذه القاعدة، بل يستطيع أن يحتفظَ بهامشٍ يعبِّر فيه عن نفسه بشكلٍ يختلف عمّا سبقه من الوزراء.

لقد تقاعد المديرُ العامُّ للوزارة، وليد عمّار. وهذا الشخص مشهودٌ له بهندسة الصفقات مع المنظّمات الدوليّة، وهو من المسؤولين عن الفساد في الوزارة. لكنّ الوزير الحاليّ [حمد حسن] كرّمه، ووصفه بتميّزه في المتابعة الميدانيّة الدقيقة. فمَن قال للوزير هذا الكلام؟ غرفةُ المدير العامّ المتقاعد مقفلةٌ دائمًا، لا يتجرّأ موظّفٌ على قرْع بابه. وقد حصر اهتمامَه بإدارة برامج الأمم المتحدة بمليارات الدولارات وتوزيع التنفيعات والسرقة والنهب وما شاكل!

ثمّ إنّ أهمّ مستشفى حكوميّ في لبنان، مستشفى رفيق الحريري، بلغ حدَّ الانهيار، ووقع منذ 4 سنوات تحت مئة مليار ليرة من الديون المتوجّبة إلى المؤسّسات و"الضمان" وتجّارِِ المستلزمات الطبّيّة، بسبب أعمال الفساد التي أغرقتْ هذا المستشفى، مثل أزمة أدوية السرطان الفاسدة، التي حمّلوها السيّدةَ منى بعلبكي وحدَها. ولكنّ هذه الجريمة شارك فيها مديرُ عامّ، وأطّباء، وموظّفو وزارة، ووزيرٌ، أيضًا. أضيفي إلى ذلك تهريبَ المازوت من ذلك المستشفى، وسرقةَ تبرّعات الهلال الأحمر الإماراتيّ إليه، وتخمةً في التوظيفات السياسيّة فيه. كلُّ ذلك أرهق هذا المستشفى، وأخرجه عن دوره المطلوب.

هذا الشخص، وليد عمّار، يَشْغل منذ عشرين سنة منصبَ مفوّض الحكومة لدى المستشفى الحكوميّ. لكنّه لم يزرْ هذا المستشفى إلّا نادرًا جدًّا، على الرغم من الانهيارات المفضوحة التي لم يهتزَّ له جفنٌ وهو يراها!

الوزير حمد حسن وصف المديرَ العامّ المذكور أيضًا بأنّه شبكةٌ من "العلاقات الدوليّة." لم يعلم الوزير أنّ هذه المهمّة هي من مهامّ الوزير، لا المدير العام. لكنّ الواقع هو أنّ كلَّ الوزراء استفادوا منه، ومن علاقاته، فتركوه لهذه المفاوضات!

كما تحدّث الوزير في تكريم عمّار عن نجاحات وزارة الصحّة بفضله. عن أيّ نجاحاتٍ يتحدّث؟ وزارةُ الصحّة هي أفشلُ وزارةٍ في لبنان!

الأخطر من ذلك أنّ الوزير كلّف الشخصَ المذكور بـ"لجنة كورونا العلميّة،" وهذا الأخير يقوم حاليًّا بالتواصل مع الجهات الدوليّة؛ ما يخالف قانون 111، الذي يمنع أيَّ متقاعدٍ من مزاولة أيّ مهامّ له في الوزارة.

كلّ ما أوردتُه هو من أجل تبيان الهامش الشخصيّ الذي يستطيع الوزيرُ أن يعملَ في إطاره، ولكنّه لم يفعلْ. وأعتقد أنّ حضنَه السياسيّ لم يكن ليعارضَ ذلك العمل.

 

* أفهمُ ممّا تحدّثتَ به أنّ "لجنة كورونا" قائمةٌ على الصفقات؟

- طبعًا. ذلك لأنّ خبيرَ الصفقات وإدارةِ اللعبة هو المديرُ العامُّ المذكور منذ 27 سنةً. هذه مناسبةٌ لنتحدّث عن أربعين مليون دولار اقتُطعتْ من قرض البنك الدوليّ (الذي هو 120 مليون دولار) لتأهيل المستشفيات الحكوميّة من أجل مواجهة كورونا. كان المطلوب، من أجل الشفافيّة، تقديم كشفٍ شهريّ للمواطنين بصرف المبالغ. لماذا تُرك المجالُ للوزير السابق إلياس أبو صعب كي يسجّل نقاطًا على الوزارة الحاليّة بطرح سؤالٍ عن هذا المبلغ مرّتيْن متتاليتيْن؟ لدينا معلوماتٌ مؤكّدة عن قوائمَ تُرفع إلى منظّمة الصحّة العالميّة، تسجِّل نفقاتِ كلّ مريض كورونا بمبلغٍ وقدرُه 800 دولار أميركيّ. هذا سلوك خطير، ويفتح المجالَ لتسجيل حالات وفَيات بغير الكورونا على أنّهم مرضى كورونا. وكلامي موثَّقٌ بإثباتاتٍ طبعًا.

 

* أيَّ واقعٍ سيواجه المواطنُ اللبنانيّ في ظلّ وباء كورونا؟

- إصاباتُ الكورونا إلى ازدياد. ما يخيفني هو أنّ القطاعَ الصحّيّ بدأ يضعف أمام مواجهة هذه الجائحة. الجائحة تسبق محاولةَ ترميمِ ما راكمه الفسادُ من عقودٍ من التشويه. القطاع لم يعد في مقدوره أن يواجه هذه الأزمة الحادّة.

 

* هل سنواجه سيناريو إيطاليا؟

- لا أستبعدُ ذلك لأنّ الأرضيّة خصبة. قطاعُنا الصحّيُّ منهار، وقدرتُه على المواجهة ضعيفةٌ جدًّا. الله يستر!

بيروت

 


[1] http://al-adab.com/article/د-إسماعيل-سكّريّة-لـ-الآداب-مافياتُ-الصحّة-وتجّارُها