منيرة
31-10-2018

 

النساء في قريتنا نسخةٌ واحدة في أشكالهنّ، حياتِهنّ، قصصِهنّ، غراميّاتِهنّ. كلُّهنّ ينصحن بعضهنّ بعضًا، وكلّهنّ في حاجة إلى النصيحة. كلٌّ منهنّ تظنّ أنّها تحيا حياةً أفضلَ من نساء قريتها، في حين أنّهنّ جميعًا "في الهواء سواء."

كانت نساءُ قريتنا يجتمعن عصرَ كلّ يوم، قرب بيت جارتنا أمّ منيرة، يتحدّثن في شؤون المنزل والأولاد والأزواج.

"الزلمة بالبيت رحمة ولو كان فحمة": هذه كانت نصيحةَ إحدى النساء لجارتها التي تشكو زوجَها الظالم.

وكان يحلو لي، عندما كنتُ في القرية، أن أسمّي جلستَهنّ اليوميّة: "تجمّع الزلمة بالبيت رحمة ولو كان فحمة."

***

"تريدين الطلاق؟ ماذا سيقول الناس؟ الله أعلم ماذا فعلتْ حتّى طلّقها زوجها؟"

"المرأة التي تتحمّل ظلمَ زوجها تكسب أجرًا وثوابًا."

شعرتْ منيرة بشيءٍ من الاستفزاز إزاء هذه الجملة الأخيرة، فردّت بصوتٍ مرتفع: "يعني تُضرب المرأة لتكسب الأجرَ والثواب؟"

نهرتْها أمُّها بالصراخ: "اسكتي. غدًا عندما تتزوّجين ستعرفين."

سكتتْ منيرة، والتزمتْ وصايا أمّها ووصايا أولئك النسوة.

***

بعد فترة، شاع في القرية خبرُ خطبة منيرة.

"شابّ حلاوة، معلّم، مثقّف، فهمان، مرتّب."

خفتُ أن يمرّ هذا الشابّ من أمام تجمعهنّ، فيقطِّعن أيديهنّ لشدّةِ ما تغزّلن بجماله.

لكنّه، في الواقع، لم يكن غيرَ إيهاب، صاحبِ الحمار الذي لم يرثْ غيرَه عن أبيه. أذكر أنّه كان يوصلني إلى مدرستي كلَّ يوم على ذلك الحمار، مقابل الحصول على بعض الخضار من حقل أبي، وعلى بعض الملابس من خياطة أمّي.

وكان قد ورث مكتبةً صغيرةً عن جدّه، الذي كان مختارًا قبل سنوات طويلة. لكنّي أقطع يدي إنْ كان يعرف أنّ في بيته ـــ المؤلّفِ من أربع غرف ــــ مكتبةً.

***

حين تزوّجَتْ منيرة، أقام أهالي القرية عرسًا ضخمًا للعروسين. لم تبقَ فتاةٌ في الضيعة (باستثنائي، وكنتُ أساسًا صغيرةً) إلّا ومزّق الحسدُ قلبها.

"لماذا منيرة هذه المعتوهة؟ الله ما بيعطي الحلو إلا للّي ما عندو ضراس!"

وكانت إحداهنّ لفرط غيرتها قد وصفتْها بـ "المقمّلة"... مع أنّ الجميع هنا يشهد على نظافة أمّ منيرة.

***

مرّ شهران على زواج منيرة وإيهاب. طوال هذين الشهرين، لم تتوقّف منيرة عن الحديث في تلك الجلسات عن إيهاب، وكرمِ إيهاب، وأخلاقِ إيهاب، وطيبةِ إيهاب. وكانت النسوة من حولها يلطمن حظَّهنّ البائس. امرأة تطلب منها نصيحة كي يحبّها زوجُها، وفتاة تتسلّل إلى بيت منيرة لتسألها عن طريقةٍ لتصطاد عريسًا "دسمًا."

وكانت منيرة كريمةً مع الجميع، ولم تبخلْ بنصائحها عليهنّ. حتّى خِلتُ أنّها ستؤلّف كتابًا عن "ترويض الزوج" أو "الحياة الزوجيّة السعيدة."

لكنّ هناء الزوجين لم يدم طويلًا.

"عين وصابت".

فحين وضعتْ منيرة مولوديْها التوأم الذكَريْن، وتجمّعت النِّسوة في بيتها ليباركن إيهاب بهما،

جُنّ.

"ولماذا لم تنجبي بنتًا؟ ممَّ تشكو البنات؟ لا، يا ليتها أنجبتْ صبيًّا واحدًا، لا اثنيْن." ثمّ راح يصرخ أمام الجميع: "هل تعرفين معنى ما حصل؟ عليّ أن أبني منزليْن، أن أسعى لأزوّج اثنيْن. الهمُّ همّان."

نظر إلى أمّه، وقال: "قلت لكِ إنّني أريد أن أتزوّج عاقرًا. قلتُ لك أطلبي لي عاقرًا. هل فرحتِ الآن؟"

وخرج من المنزل، ولم يعد إلّا بعد أسبوع.

انتشر خبرُ ما حصل يوم ولادة الصبيّين في القرية كلّها. قلوبٌ كثيرة رقصتْ فرحًا وشماتة، وصارت قصّةُ منيرة على كلّ لسان.

لم تستطعْ منيرة أن تسكتَ عن إهانة إيهاب لها. فقرّرتْ أن تمنعه من دخول المنزل إنْ عاد وحمارُه، ورمت ملابسَه وكلَّ أغراضه خارجًا.

وصل إيهاب إلى المنزل. دقّ بابَ البيت بغضب. صرختْ منيرة: "عد من حيث أتيت." لكنّ إيهاب تمكّن من خلع الباب. وفور دخوله اقترب من منيرة وضربها حتّى فقدتْ وعيَها.

سمع أهالي القرية صراخَ منيرة مستغيثةً، لكنّهم تجاهلوا الموضوع؛ "فلا يحقُّ لها أن تتصرّف مع زوجها بهذا الأسلوب. هي ضيفة في منزله بالنّهاية."

***

منذ ذلك الحين، صار المألوف في القرية سماعَ صوت تكسيرٍ وصراخٍ في بيت إيهاب ومنيرة. إيهاب يعامل منيرة على أنّها "عبدتُه." وحين تحاول منعَه من ضربها، يردّ عليها بضربٍ أشّد.

في إحدى المرّات لم نسمع صراخَ منيرة. حينها، ذهب الجيرانُ إلى والدها، وطلبوا منه التوجّهَ إلى بيت إيهاب. "يمكن الزّلمة قتلها للمسكينة!" لكنّ شيئا من ذلك لم يكن. "كلّ القصّة أنّ إيهاب تأخّر ليرجع عالبيت."

***

بقي الوضعُ على هذه الحال سنةً كاملة. في هذه السنة، كان الجميع يتظاهر بأنّ شيئًا لم يكن يحصل: تخرج منيرة من بيتها كأنّها لم تُضربْ، ويتعامل الجميعُ معها وكأنّ صوتَها لم يكن يملأ سماءَ القرية كلها.

عاد "تجمّع الزلمة بالبيت رحمة ولو كان فحمة" من جديد. وكان همُّهم، هذه المرّة، إيجادَ حلٍّ لحياة منيرة.

"لا يحقّ لكِ يا منيرة أن ترفعي صوتك في وجه زوجك!"

"إنّه رجل، والرّجال يغضبون!"

"الزلمة لازم يفشّ خلقه. إذا ما فشّ خلقه ببيته، وين بفشّه؟!"

"عليك أن تتحمّلي، وأن تحافظي على بيتك!"

"الرّجل على حقّ دائمًا. النساء عاطفيّات. الرجال عقولهم أكبر وأوعى!"

"هل تضربينه عندما يضربك؟ مجنونة أنت؟ امرأة تضرب رجلًا؟!"

***

بعد ذلك لا أعرف ما حلّ بمنيرة. لكنّني أتذكّر أنّ منيرة كانت الفتاةَ الوحيدة في قريتنا التي ذهبتْ إلى الجامعة وتخرّجتْ. وهي الوحيدة التي دافعتْ عن نفسها، وتجرّأتْ على الاعتراض. مشكلتها أنّها كلّما جرّبتْ رفعَ رأسها، كانت نسوة القرية يجبرنها على خفضه.

أمّا أنا فقد فَضَّلتُ تَركَ القرية، لأنّ حالَ منزلنا لم تكن أفضل. والدتي لم تكن حالُها أفضلَ من والدة منيرة. ووالدي لم تكن حالُه أفضلَ من والد منيرة. وأنا لا أرغب في أن أكون منيرة جديدة.

 

بيروت

يارا سعد

طالبة ماجستير صحافة في كليّة الإعلام-الجامعة اللبنانيّة.