هكذا تكلّمت السعداوي
15-04-2021

 

لا يختفي الاسمُ برحيل الجسد. ستبقى دائمًا نوال السعداوي. ولذلك لا معنى للرثاء، ولا لإعادةِ التذكير بأعمالها. ولا معنى أيضًا لتلك الأقوال الكيتش: "أثّرتْ نوال السعداوي فينا"؛ فنحن نتأثّر ونتفاعل، سلبًا أو إيجابًا، مع كلّ منظومةٍ خطابيّةٍ تُشكّل الواقعَ من حولنا، ومن ثمّ تساهم في تشكيل أفكارنا لنكونَ ما نحن عليه.

لا جدال في الإسهام الذي قدّمتْه السعداوي في تشكيل أفكارنا ورؤانا، سواء اتّفقنا مع السعداوي أو اختلفنا. جزءٌ من تأثيرها هو أنّ كلَّ ما كتبتْه أو صرّحتْ به يدخل تحت بند الإسهام المعرفيّ، حتى عند الاختلاف مع جوهر رأيها. تحتوي هذه الجملةُ على ما قد يبدو، للوهلة الأولى، تناقضًا؛ لكنّه تناقضٌ ظاهريٌّ وسطحيّ فحسب. فالاختلاف مع آراء السعداوي (بل الذهابُ إلى إعلان العداء الصريح معها) يعني أنّ خطابَها قد أدّى إلى توليد السؤال المزعج. ولا أعني هنا السؤالَ المسكوتَ عنه، وإنّما أعني السؤالَ الذي حاولتْ كلُّ أطراف السلطة الأبويّة محوَه من اللاوعي والتظاهرَ بأنّه لم يوجدْ قطّ.

طرحت السعداوي سؤالَ جسد المرأة في كلّ تجلّياته لدى العقل الأبويّ السائد: الجسد المشوَّه (جرّاء ختانٍ أو أيّ عنفٍ آخر)، والجسد المغلق (نتيجةً لتعتيم الرؤية)، والجسد-السلعة المَبيعة (مرموزًا إليه بغشاءِ البكارة). يُحيل هذا السؤالُ على محاسبةٍ واستنطاقٍ لتصالُح الأبويّة -- السلطويّة اليمينيّة والسلطويّة الدينيّة -- مع الرأسماليّة، وصولًا إلى البنية الداخليّة لعلاقات القوى في العائلة.

لم يتحملْ أيُّ طرفٍ هذا الكشفَ. فأطرافُ المنظومة الخطابيّة السائدة أطرافٌ هشّةٌ في العمق، تعتمد على موروثٍ جرى تقديسُه، وهي تُعيد إنتاجَه في بلاغةٍ إنشائيّةٍ جوفاءَ تُهيل مزيدًا من القدسيّة على ذهنيّة التحريم. وفي حال قيامنا بمدّ الخطّ على استقامته، تتحوّل هذه الذهنيّةُ إلى المعادل الموضوعيّ لمفهوم "الشرف." ومن ثمّ عمد كلُّ طرفٍ إلى حشد أسلحته المعتادة:

- فدفعت السلطةُ السياسيّةُ بصبيانها إلى المحاكم من أجل اللعب على مشاعر المواطن العاديّ، مُطْلقةً على السعداوي تهمةَ "ازدراء الأديان" حينًا، ومطالبةً بإسقاط الجنسيّة المصريّة عنها حينًا آخر.

- ثم دفعت السلطةُ اللاهوتيّةُ بصغارها إلى المنابر، حيث جرى ترويجُ تهمة "الكفر والإلحاد" في حقّها.

تدلّ كلُّ هذه الألاعيب الصغيرة على الذعر من وصول أفكار السعداوي إلى المعنيّين بالأمر: النساء والرجال. ذلك لأنّ وصولَها يعني تهديدَ موازين علاقات القوى، وكشفَ الزيْف عن بعض "الموروث،" وفضحَ خواء البلاغة الكلاميّة.

مُنعت السعداوي حقَّ الرد، وتجاهلَ الإعلامُ هذا الحقَّ من باب عدم الاكتراث بأمر "المرأة ذاتِ الشعر الأبيض المهوَّش" والكاتبة التي "تتحدّث عن أشياءَ غيرِ لائقة." ثم تحوّل عدمُ الاكتراث إلى تواطؤ؛ فالإعلام لا يرغب في مواجهة السلطة ولا يريد أن يَفقدَ الميزاتِ التي يحصل عليها. وعندما سُمح للسعداوي بالكتابة في السنوات الأخيرة، كانت السلطةُ قد اطمأنّتْ إلى أنّها قد أفلحتْ في تدجين المجتمع بشكلٍ يكاد يكون تامًّا. فترسّخ في وعي السواد الأعظم من المجتمع أنّ السيطرةَ على جسد النساء هو المعادلُ للسيطرة على مقاليد الأمور التي أفْلتَ زمامُها منذ زمن، واستسلمتْ غالبيّةُ المواطنين العرب لسلطةٍ تمارس عليهم القهرَ والقمعَ والإذلال، فلا مفرَّ لديهم - كما ظنّوا - سوى السيطرةِ على جسد النساء. وبالمقابل تركت السلطةُ هذا الجسدَ لينفّس فيه الرجالُ عن حريّتهم المسروقةِ بالإكراه.

ثم جاء انتقالُ السعداوي للتدريس في جامعة ديوكْ في الولايات المتحدة بمثابة إنقاذٍ للسلطة السياسيّة التي لا ترغب في مواجهة خطابٍ دينيّ سلفيّ رجعيّ مسيطِر من أجل "امرأةٍ" واحدة. وهو ما حدث مع نصر حامد أبو زيد، إذ جاءت دعوتُه إلى هولندا بمثابة حفظ ماء وجه السلطة في حينها. بل جاء تدريسُ السعداوي الجزئيّ (part-time) في جامعة ديوك ليضيفَ تهمةً جديدةً إلى تلك التهم الفجّة التافهة: "الغرب يَدفع للسعداوي لتتكلّمَ هكذا!" لكنْ، بحسب هذا المنطق، قد يسأل سائلٌ أصحابَ هذه التهم: ومن يَدفع لكم أنتم لتقوموا بما تقومون به؟

ظلّ صمودُ السعداوي بمثابة شوكةٍ في حلق النظام وأتباعِه. وهو ما ظهر بوضوحٍ عندما أُعلن خبرُ رحيلها. فقد انتشرت الفجاجةُ والتفاهة، لتكشفَ عن القدرات المحدودة لخطابٍ لم يتحمّلْ أسئلةَ السعداوي -- تلك الأسئلةَ التي كانت تهزّ أركان المطمئنّ في ركوده، القانعِ بمحدوديّته، المستمدِّ وجودَه من السيطرة الزائفة على آخرَ أنثويّ.

***

لكنْ، هل كانت السعداوي واعيةً مقدارَ الإزعاج والذعر الذي تسبّبه للكثيرين؟

يبدو هذا الأمرُ ملتبسًا بعضَ الشيء. فالأكيد أنّها كانت على يقينٍ من أنّها تخلخل شيئًا من الثابت والراسخ، وهو ما جعل كلَّ الأطراف (بما في ذلك بعضُ اليسار) يقف في الموقع المعادي لها. ومن هنا تنبع قوّةُ السعداوي: صمودُها بمفردها تقريبًا في مواجهة مختلف البنى الخطابيّة والسياسيّة والاجتماعيّة. لكنْ، على الناحية الأخرى، لم تكن السعداوي لتَقْبلَ موقعَها في الهامش؛ فقد كانت ترى الهامشَ بمثابة تهميشٍ واستبعاد، بالرغم من أنّ الهامش قوّةٌ في حدّ ذاته (على ما أوضح إدوارد سعيد في تشريحه لموقع المثقّف، وكما شهدت المفكِّرةُ النِّسويّة الأفرو-أمريكيّة بَلْ هُوكْسْ عن نفسها حين أقرّت باختيارها الهامشَ مساحةً راديكاليّةً للحرّيّة).

***

هل كانت السعداوي تشجب تهميشَ السلطة لها بغية الحصول على اعتراف هذه السلطة عينِها التي كانت تهزّ أركانَها بخطابها؟

بالتأكيد لم تراود السعداوي الفكرةُ بهذه الصياغة. لكنّ الأكيد أنّها لم تحوّل الهامشَ الذي حوصرتْ فيه إلى مساحةٍ للتواصل من خلال الثُّغَر التي لا تهتمّ بها السلطة. كانت السعداوي تتوقّع أن تتنازلَ السلطةُ عن غرورها وعنادها، وهو توقّعٌ أعتقدُ أنّها جانبتِ الصوابَ فيه.

إنّ كلَّ كلمةٍ من كلمات السعداوي كانت تزيد من ذعر السلطة، التي نجحتْ في شيءٍ واحدٍ بالتأكيد: ترسيخ اغتراب المجتمع عن خطاب السعداوي. حدث الأمرُ ذاتُه مع ستيلا نيانزي، الناشطة النسويّة المعروفة في أوغندا، وقد حوكمتْ سنة 2017 لأنّها تجرّأتْ على الرئيس ووصفته بألفاظٍ "غير مهذّبة."

***

يبدو مسارُ السعداوي طبيعيًّا جدًّا. فقد اشتبكتْ مع ما يُدعى "تابوهات": من جنسٍ ودينٍ وسياسة. هكذا تكلّمت السعداوي، وهكذا فقد الأبُ عقلَه، فلم يملكْ سوى أن يرميَِها بالتهمةِ تلو الأخرى.

القاهرة

شيرين أبو النجا

 أستاذة الأدب الإنجليزيّ والمقارن في جامعة القاهرة. من كتبها: عاطفة الاختلاف : قراءة في كتابات نسويّة (1998)، نسائيّ امْ نسويّ؟ (2002)، مفهوم الوطن في فكر الكاتبة العربيّة (2003)، من أوراق شاهندة مقلد (2006)، الحجاب بين المحلّيّ والعولميّ: هويّة سياسيّة أمْ دينيّة (2008)، المثقف الانتقاليّ: من الاستبداد إلى التمرّد (2014). ولها رواية بعنوان: خيانة القاهرة (2009)،

كلمات مفتاحية