نبوءة الضَّريح
30-01-2019

 

في حضرة ضريح القائد الوطنيّ الفلسطينيّ جورج حبش (1925  ــــ 2008)، لا يحتاج المرءُ إلى مهاراتٍ خاصّةٍ في السيميولوجيا ليَفهم "حكمةَ الحكيم"؛ إذ تنطق واجهاتُ الضريح السِّتُّ، بعلاماتها النصّيّة، الكلاميّة والصوريّة، بالكثير. لقد صمَّم "الحكيمُ" سيرتَه كتابةً، لكنّه لم يصمِّمْ معمارَ ضريحه، الذي يواصل فاعليّةَ الثورة بعد موت هذا الثائر المتفرِّد، الذي وصفه القائدُ والمنظِّر الوطنيّ أحمد قطامش بـ"البراكسيس المتشعِّب"[1] الذي "وحَّد النظريّةَ والممارسةَ في ثوريّةٍ فاعلة."[2]

شعارٌ، وصورةٌ، وشاهدةٌ، وأربعُ عبارات، توجز مسيرةَ الثورة الفلسطينيّة ــ ــ أرضًا، وناسًا، وحكاية. ولكنّ إجراءَ تمرينٍ سيميولوجيٍّ أوّليّ في توضيح الضريح ينبغي ألّا يَحجب عنّا أهمّيّةَ التعمُّق في سبر السلاح النظريّ الذي أولاه الحكيمُ غايةَ الاهتمام: من ترؤسِّه "العروةَ الوثقى" في منتصف الألفيّة الماضية، حتى تأسيسه "مركزَ الغد للدراسات" في آخرها.

و"السِّلاح النظريّ في معركة التحرير" لم يكن مجرّدَ مقالٍ كتبه الحكيم سنة 1969، في محاكاةٍ مبدعةٍ لمقال أملكار كابرال "سلاح النظريّة" وماو تسي تونغ في "تحليل المجتمع الصينيّ"...[3] وإنّما هو دليلٌ مكثَّف عزَّ نظيرُه في إرث حبش وفي ما كُتِبَ عنه. فالمقال يُقطِّر المقولاتِ اليساريّةَ الكبرى في الثورة وعنفِها وأصدقائها وأعدائها، منطلقًا من أنّ الشرطَ الأساسَ لانتصار أيّ ثورة هو رؤيتُها الواضحة إلى الأمور، إذ استنادًا إلى هذه الرؤية تتحدّد استراتيجيّةُ الثورة وتكتيكُها؛ رؤيةٌ تلتقطها الجماهيرُ، فتكون برنامجًا للممارسة اليوميّة للثورة. ولعلّ السَّطر الأكثر مركزيّةً في هذه الأطروحة هو تحديدُ العدوّ الذي لا يزال قائمًا: إنّه الكيان الإسرائيليّ في وصفه "استعمارًا استيطانيًّا اغتصابيًّا،" والحركةُ الصهيونيّة العالميّة، والإمبرياليّةُ العالميّة، والقوى الرجعيّة العربيّة (بما فيها الفلسطينيّة).

 

أنا أموت، إذًا أنا موجود

أمّا الكتابة، هنا، وإنْ صادفت الذكرى السنويّةَ الحاديةَ عشرة لرحيل الحكيم، فهي وصفٌ لنبوءة الضَّريح، في مقبرةِ "سحاب" في عمّان، وذلك ضمن مشروع "المقبرة الفلسطينيّة الحيّة،"[4] كما بدا في زيارةٍ قمتُ بها، في 8 نيسان 2018، والتقطتُ الصُّورَ المرفقةَ في حينه؛ في حين أعدَّت المعماريّةُ المقدسيّة ميرا إدريس المخطَّطاتِ المعماريّةَ في كانون الثاني 2019. 

 

    ضريح جورج حبش في عمّان

 

تؤمِّن المقبرةُ الفلسطينيّة فضاءً خصبًا للتواريخ البديلة. ففيها، يُمْكن أن يخرجَ الفلسطينيُّ من حدّ الموت بالقوّة إلى حدّ الموت بالفعل، وذلك عبر ممارسة العودة، عيانًا، إلى الأرض. إذ فضلًا عن كون هذه المقبرة مكانًا متغايرًا، فإنّها تجسِّدُ، في ظلِّ تواصل استعمار فلسطين، زمانًا متغايرًا. وعلى حدِّ هذا التغاير البينيّ الفريد، تقف المقبرةُ الفلسطينيّةُ شاهدةً على نكبةٍ تحت الأرض، تستعصي على سياسات الذاكرة والنسيان الرسميّة، فلسطينيّةً كانت أو صهيونيّة؛ كما تستعصي على تراتبيّات السَّلب الأنطولوجيِّ التقليديّة.

وبذلك، تختزن المقبرة إمكانيّاتٍ هائلةً لانقلاب سياسات الموت والحياة السائدة على فاعلها، إذ يصير بإمكانها وعلى غفلةٍ من جبروت "المنتصر" وضعفِ "المهزوم" ــــ أن تكون الصوتَ الأعلى في كتابة تاريخٍ لا تحْكمه تلك العلاقات. حين تَحُول "ديمقراطيّةُ" المشروع الصهيونيّ، ووكلائه الجدد، دون "ديمقراطيّة القرار والمشاركة"[5] التي أرادها الحكيم، فإنّ ديمقراطيّة الموت تتولّى المهمّة، فيكتسبُ كلٌّ جغرافيّةَ ضريحه بجدارة الموت، ويكتب كلٌّ تاريخَ ما قبل الضريح بجدارة الحياة. وبذا، تصير المقابرُ (أمكنةُ الموتى) عتبةَ انتقال الفلسطينيّ الذي تحت الأرض من حدِّ الموت بالقوّة إلى حدِّ الموت بالفعل، وذلك حين تَعْجَزُ المَحَايي (أمكنةُ الأحياء) عن توفير عتبة انتقال الفلسطينيّ الذي فوق الأرض من حدِّ الوجود بالقوّة إلى حدِّ الوجود بالفعل، ويردِّد الفلسطينيُّ نشيدَ ممكنه الوحيد (الكوغيتو) الذي لا يعرف المستحيل: "أنا أموت، إذًا، أنا موجود."

 

ضريح الحكيم: العمارة والإشارة

يقع ضريحُ الحكيم حبش في مقبرة سحاب المسيحيّة، قرابة عشرة أميال إلى الجنوب الشرقيّ للعاصمة الأردنيّة عمّان. وبالاتجاه يسارًا، من ساحة الكنيسة المقابلة لمدخل المقبرة، ثمّة شارعٌ بَيْنِيّ يقود إلى الضريح. وهناك، يفضي ممرٌّ خارجيٌّ من البلاط البلديّ الموشّى إلى روضة الضريح على يمين الشارع. هذا، ويحدُّ الممرَّ حوضان مزروعان بالورود، وشجرةُ سروٍ في كلّ منهما.

أمّا روضة الضريح، فغرفةٌ مربَّعة، غيرُ مسقوفة، حيطانُها من الحجر البلديّ الكهرمانيّ الموشّى. وقد أُثْبتتْ في منتصف حائطها الشرقيّ ثلاثُ سارياتٍ تحمل: علمَ فلسطين، وعلمَ الأردن، ورايةَ الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين في الوسط.

وأمّا بابُ الضريح، ففي منتصف الواجهة الغربيّة ــــ الشماليّة للروضة الخارجيّة، ويعلوه مثلّثٌ حجريٌّ متساوي الساقيْن. ويجاور البابَ الحديديَّ، الذي تتشكّل من دفَّتيْه المطليّتين باللون الأبيض قوسٌ عربيّة يُرى منها الضريح، شُبّاكان غيرُ مقموطيْن. وعلى "سلاحه" الأيمن لافتةٌ رخاميّةٌ مستطيلةٌ بيضاء، حُفرتْ عليها عبارةٌ مؤطَّرةٌ بالأسود، في أربعة أسطر: "هنا يرقد الشهيد القائد المناضل د. جورج حبش."

 

مخطّط معماري لضريح "الحكيم" (إعداد: ميرا إدريس)

 

الأعلى: البندقيّة والخارطة

تتكوَّن الواجهة العلويّة من ثلاث طبقات: 1) مستطيل علويٌّ؛ و2) قاعدة على مثلَّثين قائمَي الزاوية. يحمل المستطيلُ نحتًا على الحجر، يَظهر فيه شعارُ الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين: النِّصفُ الأماميُّ من بندقيّة كلاشينكوف وشعلةُ الفوهة، وإلى يسارها خارطةُ فلسطين التاريخيّة، ويربط بينهما الشِّعارُ المقوَّس: جـــــشـ.

ولعلّ ثنائيّة البُعد لِما حُفِرَ على رخام الواجهة (من بندقيّة وخارطةٍ وشعار)، وحالت حوائلُ معيّنةٌ دون أن "يُجسَّمَ،" تُعتبر إشارةً مفتاحيّةً في نبوءة الضريح، التي تفصح، رمزًا، عن ثوابت القضيّة الفلسطينيّة: أنّ الكفاح المسلَّح هو الطريق الذي ينبغي على حركة التحرر الوطنيّ الفلسطينيّ أن تسلكَه لتحرير فلسطين من ربقة  "إسرائيل."

ففي حين تحيل الخارطةُ على ضياع فلسطين، تحيل البندقيّةُ على طريق استرجاعها، التي عُمِّدتْ بالدم، ولا تزال: مِن بيْع الدم، حرفيًّا، لتمويل خلايا "كتائب الفداء العربيّ" إثر نكبة العام 1948؛[6] مرورًا بما بُذل من دمٍ في سبيل تحقيق شعار "وحدة، تحرُّر، ثأر (استرجاع فلسطين)" الذي رفعتْه حركةُ القومييِّن العرب حتى نكسة العام 1968؛ وانتهاءً بما قدَّمته الجبهةُ الشعبيّةُ لتحرير فلسطين من تضحيات، حتى اللحظة، في طليعة فصائل الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة،[7] التي سكنها شعارُ وديع حدّاد: "وراء العدوّ في كلِّ مكان." وليس غريبًا أن تُلازم البندقيّةُ الحكيمَ وتعلو ضريحَه، وهو الذي آثر فكرَ قسطنطين زريق والسيّد محمد حسين فضل الله ــــ وهو فكرٌ قرن الكفاحَ المسلَّح بالسعي إلى الوحدة والتحرير ــــ [8] على فكر ميشيل عفلق وساطع الحصري.

 

الأمام: الطريق والسالكون

أمّا الواجهة الأماميّة للضريح الرُّخاميّ، فذاتُ شكلٍ شبهِ منحرف، متساوي القائمين. وهي مقسَّمة إلى ثلاثة مقاطع عرضيّة: 1) علْويّ، تتوسَّطه صورةٌ بالأبيض والأسود للراحل حبش (هي صورةُ غلاف سيرته بالفرنسيّة التي تُرجمتْ إلى العربيّة)، وقد كُتب على أسفلها بالأحمر: "إلى المجد يا حكيم الثورة." ويعلو الصورةَ صليبٌ رخاميٌّ أبيض. 2) أوسط، غائر، ومغطًّى بالزُّجاج، وقد ثُبّتتْ عليه عبارة: "لا تستوحشوا طريقَ الحقِّ لقلَّة السائرين فيه" بمعدنٍ ناتئ نحاسيّ اللون. 3) سفليٌّ، تتوسَّطه شاهدةٌ تقليديّة مستطيلة مثبتة في رخام المقطع، حُفرَ عليها بالأسود خمسةُ أسطر، "مَن آمن بي، وإنْ مات، فسيَحيا"؛ وقد أُتبعتْ برسم الصليب وسيرةٍ موجزة: "هنا يرقد بالرَّبّ المرحوم الشهيد الدكتور جورج حبش 1925 ــــ 2008."

في هذه الثلاثيّة العنقوديّةِ الإحالات، ليس للحكيم الفرد إلّا اسمُه وتاريخُ مروره بهذه الأرض. وأمّا سوى ذلك، فمحوٌ أجراه حكيمُ "الجماعة" للمسافة المتوهَّمة بين الدين والدنيا، على طريق الثورة. فأيُّ كلامٍ له أن ينال شرفَ الحفْر على ضريحه إلّا كلامُ مَن أحبَّهم وامتدحَ فعلَهم الثوريّ، أمثال: المسيح الفلسطينيّ، وعليّ ابن أبي طالب العربيّ، وتشي جيفارا الأمميّ، وغيرهم كثر من رموز الثورة المشاعيّة في الشرق؟[9]

"الثوريون لا يموتون أبدًا": هذا ما تُفصح عنه الصورةُ (التي استُنسِختْ من غلاف سيرة الحكيم كما ذكرنا)، وتتضافر مع مقولة "البيت" و"آلِهِ" المحوَّرةِ عن مقولة عليّ ابن أبي طالب في عدم استيحاش طريق الحقّ وإنْ قلَّ سالكوه[10] أو صُلبوا أو قُتِلوا. وتتقاطر الدلالاتُ، من أعلى الصليب إلى أسفل الشاهدة، لتؤكّد لزائر الضريح أنّ لساكنه "قيامةً وحياةً،" وأنّ مَن آمَنَ بدربه فسيحيا،[11] بعيدًا من القدس بالفعل، قريبًا منها بالقوّة، حيث تزهد "القيامةُ" بخاصِّيّتها السَّرمديّة، كنهاية للتاريخ، وتصير فاعلًا فيه لحظةً بلحظةً، ينجزها "ثوريّون لا يموتون."

 

اليسار: الوحدة والتحرّر

وأما الواجهة اليُسرى، فتتكوّن من طبقتين: 1) سفليّة، على شكل شبه منحرف قائم الزاوية. وهي تنقسم إلى ثلاثة مقاطع عرضيّة: علويّ؛ وسفليّ؛ وأوسط غائر ومغطَّى بالزُّجاج، وقد ثُبّتتْ عليه عبارة "سيأتي اليوم الذي تسقط فيه كلُّ الحدود بين الدُّول العربيّة" بمعدنٍ ناتئ نحاسيِّ اللون. 2) علويّة، هي القاعدة اليُسرى للواجهة العلويّة.

تكثِّف المقولةُ الناتئة على هذه الواجهة خلاصةَ "إجابة التاريخ"[12] على سؤال المعضلة الثوريّة عن "ترتيب" شعار حركة القومييّن العرب (ومن بعدها الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين) أو "تتابُعِه" في ما يخصّ برنامج العمل النضاليّ (استراتيجيّةً وتكتيكًا). وهذه الإجابة تقول بأنّ سؤال "الترابط" بين شعارَي الوحدة والتحرُّر أكثرُ جدوى من سؤال "التتابع."

ومع ذلك، فثمّة مغزًى لإطلاق الحكيم عبارتَه بيقينيّةٍ لافتة، قبيل إسلامه الرُّوحَ بساعات. إذ يروي ماهر الطاهر أنّ الحكيم، مساءَ رحيله، في 26 كانون الثاني 2008، سأله، وهو في غرفة العناية المركَّزة، عن غزّة وأهلِها والحصار. وحين أخبره الطاهر أنّ الناس اقتحموا معبرَ رفح نحو الحدود المصريّة، قال مقولتَه الفصل: "سيأتي اليومُ الذي تسقط فيه كلُّ الحدود بين الدول العربيّة،"[13] مؤكِّدًا تحليلَه العميقَ لبنية العدوّ والصديق، وأنّ الرجعيّات العربيّة (والفلسطينيّة ضمنها) حقّقتْ نبوءتَها بذاتها: إذ بدلًا من تحرير فلسطين، حرَّرتْ نفسَها من "عبء" فلسطين. ولكنّ التّاريخ، الذي تصنعه الشعوب، كما تشي عبارةُ الحكيم، قادرةٌ دومًا على تحقيق نبوءة التحرير والوحدة. 

 

اليمين: الرجوع والعودة

وأما الواجهة اليُمنى فتتكوّن من طبقتين: 1) سفلى، على شكل شبه منحرف قائم الزاوية. وهي تنقسم إلى ثلاثة مقاطع رخاميّة عرضيّة: علويّ؛ وسفليّ؛ وأوسط غائر ومغطَّى بالزُّجاج، ثُبّتتْ عليه عبارة "لن أعود إلى فلسطين إلّا ومعي ملايينُ اللاجئين،" بمعدنٍ ناتئ نحاسيِّ اللون. 2) علْويّة، هي القاعدة اليمنى للواجهة العلويّة.

هذه المقولة الذائعة لم تُقَل لمناسبة، بل كانت تجري على لسان الحكيم كما تجري اللدّ وفلسطينُ في دمه. ولعلّ محمود درويش يُعفي من الكثير من الكلام هنا، إذ وصف رجوعَه إلى فلسطين المنقوصة بالقول: "أتيتُ ولم أصلْ، وجئتُ ولم أعُدْ."[14] فـ"المجيء" يكون إلى غزّة وأريحا وما هو في حكمهما من "فلسطين أوسلو،" في حين أنّ "العودة" تكون إلى عكّا والبروة وما هو في حكمهما من "فلسطين الميثاقيّة." أمّا الحكيم، فلم يرجِعْ ولم يَعُدْ، لكنّه بقي وفيًّا للعودة الكاملة حتى آخر زائرٍ لضريحه.

يفصح الحكيم في سيرته، كما في مسيرته التي كرَّسها للوحدة والعودة، أنّه "أعطى الضّوءَ الأخضرَ للرِّفاق الذين كانوا يعبِّرون عن رغبتهم في العودة" إلى الضّفّة الغربيّة وقطاع غزّة، بعد أربعة أعوام من تأسيس السُّلطة الفلسطينيّة، لكنّه امتنع عن ذلك "من حيث المبدأ" لأنّ "فلسطين عند(ه) هي اللّد."[15] وكان يقول دائمًا: "لن أعودَ إلّا عندما يعود الخمسة ملايين لاجئ إلى فلسطين،"[16] لأنّه لا يستطيع قبولَ عودةٍ مشروطةٍ من معْبرٍ يُرفع عليه العلمُ الإسرائيليّ، لكونها عودةً تخالف قناعاتِه وتفوق قدرته على الاحتمال؛[17] ذلك أنّ مثل هذه العودة عودةٌ يائسةٌ بلا تحرير،[18] وهو ثائرٌ لا يعرف اليأسَ، ومؤمن بالتحرير، وبالعودةِ إلى بيته في اللّد بعد الانتصار على المشروع الصهيونيّ. 

 

الخلْف: الممكن والمستحيل

وأما الواجهة الخلفيّة، فتتكوَّن من طبقتين: 1) سفليّة، على شكل شبه منحرف متساوي الساقيْن، وقد ثُبّتتْ في وسطها عبارة "الثورة الفلسطينيّة قامت لتحقيق المستحيل" بمعدنٍ ناتئ نحاسيّ اللون؛ و2) عُلويّة مستطيلة، هي القاعدة الخلفيّة للواجهة العليا. ولعلّ هذه المقولة كانت مبدأً فكريًّا وممارسةً سياسيّةً قبل أن تكون إجابةً تاريخيّةً على الموقف من خيار أوسلو (الذي وصفه إدوارد سعيد، مرَّةً، بأنَّه "فِرْسايْ فلسطينيّة").[19] فالحكيم كان على قناعة بأنّ "الثورة عِلْم،"[20] والعِلْم لا يعرف المستحيل. وكان يعتقد أنّ الفلسطينييِّن يقاتلون بسواعدهم أوّلًا، وبقلوبهم ثانيًا، لأنَّهم على حقٍّ؛ أمّا العقل فلم يستعملوه بما فيه الكفاية.[21]

يتخلّل جينيالوجيا مقولة الحكيم هذه العديدُ من المحطَّات التاريخيّة المفصليّة، من بينها انتفاضةُ الحجارة (1987). ففي تعقيبٍ ضِمنيّ على مقولة الشهيد ياسر عرفات "الدولة على مرمى حجر،" يتحدَّث حبش عن الدولة في وصفها "إمكانيّةً تاريخيّةً واقعيّة."[22] فالعودة، التي وُصِفتْ آنفًا، هي قرينةُ الإمكان لا المستحيل في فكر الحكيم؛ ذلك أنّه لم يغيِّرْ موقفَه من مشروع الدولة الفلسطينيّة الديمقراطيّة على "أرضنا حتى آخر ملمتر مربَّع."[23]

لم تتزعزع قناعةُ الحكيم بحتميّة العودة، وإمكانها، رغم مرور عقود على النكبة. كان يرى أنّ عدم قابليّة الهدف للتحقُّق في لحظة تاريخيّة معيّنة لا يعني أنّ هذه الإمكانيّة لن تأتي مع الأيام "لأنَّه ليس هناك ما هو مستحيل،" إذ لم يزدد مَن وُلدوا خارج حدود فلسطين بعد نكبة العام 1948 إلّا شغفًا بالعودة مع مرور الزمن. وعلى ذلك، فلم تكن إجابةُ الحكيم لعرفات، حين دافع الأخيرُ عن خيار تسوية أوسلو بالقول "إنّ هذا الاتّفاق هو الممكن،" إلّا عبارتَه المأثورة: "إنّ الثورة الفلسطينيّة قامت لتحقيق المستحيل، لا الممكن."[24] وكأنّ الحكيم، وقد لابسَ الثورةَ على الأرض، يريد توسيعَ الملابسة إلى اللغة، بحيث يبدو كمن يدجِّن مفهومَ "المستحيل" لينزلَه من اللاممكن المطلق إلى الممكن الذي لم تحن لحظةُ تحقُّقه بعد.

 

الأسفل: الموت والحياة

وأمّا أرضيّة الروضة فمربّعةُ الشكل، ومبلَّطة بالطُّوب الناريّ القرميديّ، يتوسَّطها الضريح. ويحدُّ حوافَّ الضريح (باستثناء الحافّة الخلفيّة) حوضٌ متواصل للزُّهور. كما يحدُّ بالحائطين الأيمن والأيسر باتجاه المدخل حوضان للزُّهور، وسروةٌ صغيرة في زاوية كلٍّ منهما.

للناظر من على حافّة أيٍّ من حيطان الروضة، يبدو التناقضُ الأنطولوجيُّ اللافت بين الموت والحياة في أوديسة الفلسطينيّ. فثنائيّةُ البندقيّة والخارطة تحتضن الموتَ خارج هذه الروضة، المبشّرَ بالحياة فيها؛ ورخامُ الضريح البارد يحتضن عباراتِ الحكيم المتفجِّرة؛ وبلاطُ الأرضيّة النّاريُّ الصلد يَحتضن الشُّجيْراتِ والزُّهور. ثباتُ الموت، وتغيُّرُ الحياة، في روضة ضريح الحكيم، يحيلان على "البراكسيس المتشعِّب" الذي بشَّر به أحمد قطامش في أمثولة الحكيم؛ فكأنّ العشب، في حضرة الغياب، يدلُّنا على أنّ "الموت فلاحةٌ من نوع آخر،"[25] كما قال درويش، مرّةً.

بين "بيت البرد" الذي يدفِّئه رفاتُ حكيمنا في سحاب، و"بيتِ الدِّفء" الذي تبرِّده أجسادُ أعدائنا في اللدّ، صحراءُ مجازٍ جافَّة، ونهرُ لاهوتٍ يكاد يجفُّ، وطريقٌ إلى المعرفة الثوريّة سلكها الفلسطينيُّ الأوَّل حاملًا صليبَه نحو الجلجلة، معمَّدةٌ بدمٍ لا يدركه الجفاف. لكنّ ما تغيَّر اليوم، خارج درجات الجفاف بين سحاب واللدّ، أنّنا صرنا أكثرَ مهارةً في إجلاس الأساطير الواقفة على رأسها، واستضافتها، كما يليق بأهل المكان، من الفلسطينييِّن الأصلانييِّن، أن يفعلوا. وبدلًا من أن نأخذ مجازَ اسم الحكيم "جورج" إلى مقارنة سطحيّة مع سيرة مُواطِنِه جرجس (الخضر)، كما فعل زعيمٌ عربيٌّ ذات مرّة،[26] فقد كانت نبوءةُ الضريح أكثرَ سماحةً في وصاياها حيال مصارعة التِّنين.

ففي هذه النبوءة، لم تعد الأسطورةُ تتَّسع لفارسٍ واحد، "زارعٍ، سريعِ النَّدهة،" يخلِّص الفلسطينيين من تربُّع التنّين الصهيونيّ على نبعهم. ولم يعد لدى الفلسطينييِّن مزيدٌ من القرابين المجّانيّة. لكنّ العجز عن صرع التنّين لا يعني الكفَّ عن مصارعته؛ كما أنّه لا يعني تحوَّلَ الصيّاد إلى تنّين، على ما تقترح مقولةٌ فلسفيّةٌ رائجة؛ بل يعني مواصلةَ الطّريق، حتى التحرير والعودة.

 

جامعة بيرزيت، فلسطين

 

[1] أحمد قطامش، "في الذكرى السنويّة الأولى لرحيل الحكيم جورج حبش،" في: لمى حبش (إعداد)، شهادات في زمن الحكيم (عمان ــــ رام الله: دار الشروق، 2010)، ص 69 ــــ 75.

[2] أحمد قطامش، "في ذكرى رحيل الحكيم: الدكتور جورج حبش،" اتجاه، 25 كانون الأول 2016.

[3] جورج حبش، "السلاح النظريّ في معركة التحرير،" مجلة الطليعة، السنة 5، العدد 6، 1969، 37  ــــ 45. وأنظر كذلك التوضيحات في: جورج حبش، "الحديث الثاني مع الأخ الدكتور جورج حبش،" شؤون فلسطينيّة، ع 4، 1971، ص 291 ــــ 299؛ و: ماهر الشريف (محاورًا) ماهر الدسوقي (محرِّرًا)، حبش: لنحتكمْ إلى الجماهير (القدس: المركز الفلسطينيّ للدراسات والنشر، 1992).

[4] مشروعٌ بحثيٌّ متواصل، انطلق في العام 2010، من أجل إنتاج معرفة فلسطينيّة بديلة، على المستويات النظريّة والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، عبر تدشين مدوَّنة شاملة لسياسات الحياة والموت في فلسطين التاريخيّة والشَّتات.

[5] جورج حبش، أزمة الثورة الفلسطينيّة: الجذور والحلول (بيروت: دار الفارابي، 1985)، ص 23.

[6] هاني الهندي، "مع جورج حبش أيّام الدراسة،" مجلة الدراسات الفلسطينيّة، العدد 73، 2008، ص 79 ــــ 82.

[7] للمزيد عن تبلور مفهوم الكفاح المسلَّح، وارتباطه بمفهومَي الوحدة والتحرير، وتحوُّلاته بين النضال القوميّ والنضال القُطريّ من أجل فلسطين، أنظرْ: باسل الكبيسي، حركة القوميين العرب (بيروت: دار العودة ومجلة الهدف، 1973)؛ ومحمد جمال باروت، حركة القوميين العرب: النشأة، التطوّر، المصير (دمشق: المركز العربيّ للدراسات الاستراتيجيّة، 1997).

[8] للمزيد، أنظر: جورج حبش، الثوريون لا يموتون أبدًا (حوار: جورج مالبرينو، ترجمة: عقيل الشيخ حسين)، (بيروت: دار الساقي، 2009)، ص 25، 33، 71؛ وأسعد أبو خليل، "جورج حبش وحركة القوميين العرب: لا الوحدة ولا التحرّر،" النهج، مجلّد 18، عدد 66، 2000، ص 188 ــــ 202.

[9] جورج حبش، التجربة النضاليّة الفلسطينيّة ــــ حوار شامل مع جورج حبش (حوار: محمود سويد) (بيروت: مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، ط 2، 2008)، ص 113.

[10] للمزيد في مقارنة المقولة، أنظر: عبد الحميد بن أبي حديد،  شرح نهج البلاغة (بيروت: دار مكتبة الحياة، 1963)، الخطبة 199.

[11] العهد الجديد، إنجيل يوحنا (11: 25).

[12] حبش، التجربة النضاليّة الفلسطينيّة، ص 16.

[13] ماهر الطاهر، "جورج حبش ضمير فلسطين،" في: مازن صباغ (إعداد)، جورج حبش: ضمير فلسطين (بيروت: مختارات، 2009)، ص 298.

[14] محمود درويش، في حضرة الغياب (بيروت: دار رياض الرَّيس، 2006)، ص 145 .

[15] سلمان أبو ستّة، "نبيّ الثورة،" في: لمى حبش (إعداد)، شهادات في زمن الحكيم (عمان ــــ رام الله: دار الشروق، 2010)، ص 110 ــــ 113.

[16] حبش، الثوريون لا يموتون أبدًا، ص 256، 304.

[17] شربل، جورج حبش: ضمير فلسطين، ص 243.

[18] غسان شربل، أسرار الصندوق الأسود: وديع حدّاد، كارلوس، أنيس النقّاش، جورج حبش (بيروت: رياض الريِّس للكتب والنشر، 2008)، ص 402.

[19] إدوارد سعيد، غزّة أريحا ــــ سلام أمريكيّ (القاهرة: دار المستقبل العربيّ، 1994)، ص 39.

[20] حبش، أزمة الثورة الفلسطينيّة، ص 45. 

[21] حبش، التجربة النضاليّة الفلسطينيّة، ص 117.

[22] حبش، الثوريون لا يموتون أبدًا، ص 256، 205.

[23]  أسعد أبو خليل، "جورج حبش والزهد الثوريّ،" في: صبّاغ، جورج حبش: ضمير فلسطين، ص 56؛ وحبش، الثوريون لا يموتون أبدًا، ص 299، 300.

[24] حسام كنفاني، "غياب جورج حبش، حكيم الثورة وضميرها،" في: صبّاغ، جورج حبش: ضمير فلسطين، ص 95.

[25] درويش، في حضرة الغياب، ص 167.

[26] حبش، الثوريون لا يموتون أبدًا، ص 295.

عبد الرحيم الشيخ

شاعر وناقد من القدس. وُلد لعائلة فلسطينيّة لاجئة من الرَّملة المحتلَّة. يعمل أستاذًا للفلسفة والدراسات الثقافيّة والعربيّة في جامعة بيرزيت في فلسطين. يتمحور عملُه الفكريّ على القوميّة، وسياسات الهويّة، والشِّعريّة العربيّة، والترجمة، ويتركَّز نقدُه الفنّيّ على التعبيرات البصريّة للهويّة الفلسطينيّة.