افتراضات الافتراضي: عن مهند أبو غوش والإفراط الثوري
02-02-2021

 

الافتراض واحد حول فلسطين، لأنّها واحدة، ولأنّها فكرة؛

والافتراضيّ واحد، لأنّه فلسطينيّ، ولأنّه مهنّد أبو غوش، ولأنه يفكِّر؛

و"الإفراط الثوريّ" واحد، لأنّه إفراط، ولأنّه ثوريّ، ولأنّه طريقةٌ في التفكير والممارسة؛

وهذه بعض التفاصيل.

اعتقلتْ سلطاتُ الاحتلال الصهيونيّة مهنّد أبو غوش من بيته في حيفا يوم الإثنين (25 كانون الثاني 2021)، وحرمتْه حقَّه في لقاءِ محاميه، على الرغم من تقديم استئنافٍ لتمكينه من ذلك، وللإفراج عنه؛ وهما أمران رفضتْهما المحكمةُ الصهيونيّة. وقد أصدر "حراكُ حيفا" بيانًا بعد يوميْن من اعتقال أبو غوش جاء إثر "اشتداد الهجمة القمعيّة عبر الاعتقالات التعسفيّة التي تستهدف شبابَنا في فلسطين المحتلّة عام 48، كما في القدس والضفّةِ الغربيّة، من قِبل أجهزةِ "إسرائيل" الأمنيّة، وبتحريضٍ دؤوبٍ من المستوى السياسيّ وتواطؤٍ مفضوحٍ للقضاء الإسرائيليّ. تأتي حملاتُ الاعتقالات هذه بدعوى "التواصل غير المشروع" بالتركيز على تواصل الفلسطينيّ مع أبناء شعبه."

وعليه، فإنّ سلطاتِ الاحتلال الصهيونيّة لا تزال تصعِّد من سياستها الرامية إلى عزل الفلسطينيّ عن مجاله العُضويّ داخل فلسطين التاريخيّة، وعن مجاله الحيويّ في البلاد العربيّة، وعن مجاله المعنويّ في العالم، وذلك لإحكام السيطرةِ عليه في زمنٍ موقوتٍ ومكانٍ موقوت، لا تكفُّ أجهزتُها الاستعماريّةُ عن تصميمهما.

وانطلاقًا من رفض الامتثال لسياسات الصداقة والعداء التي تحاول دولةُ المستوطنين ("إسرائيل") فرْضَها على ضحاياها الأصلانيّين (الفلسطينيّين)، دعا "حراكُ حيفا" إلى إطلاق وسم "#متواصلون، هنا فلسطين" كفعلِ تحدٍّ للتهمةِ المنسوبةِ إلى أبو غوش. وقد جاء في الدعوة:

"تزداد شراسةُ أجهزة الاحتلال الصهيونيّ في ملاحقة الناشطين من أهلنا في الأرض المحتلّة. وقد ابتَدَعتْ تهمةً لتبرير الاعتقالات، وهي "التخابرُ مع جهاتٍ أجنبيّة،" بهدف التخويف وردعِهم عن التواصل مع أهلهم وأصدقائهم في الضفّة وغزّة والعالم العربيّ خارج إطار التطبيع المجّانيّ المسموح رسميًّا، والذي لا يفتقر اليومَ إلى شركاءَ رسميّين من الجانب العربيّ. لأنّ الصلةَ بين داخل وخارج فلسطين لا تحتاج لإذنٍ من الصهاينة؛ [و]لأنّنا نرفضُ أن يكون التواصلُ مع أهلنا عبر التطبيع مع الصهاينة؛ لنقُلْها معًا، غدًا الجمعة 29 يناير 2021، الساعة 19:30 بتوقيت القدس. شاركوا مواقفَكم وتغريداتِكم على هاشتاغ: #متواصلون."

لقيت الحملةُ استجابةً مذهلةً، فلسطينيًّا وعربيًّا وعالميًّا. ولا تزال مستمرّةً حتى اللحظة.

أمّا مهند أبو غوش، فهو، قبل الأسْر وفيه وبعده، "واحدٌ افتراضيّ" كما تفيد المدوَّنةُ التي تقول كلَّ شيءٍ عنه تقريبًا: فلسطينيٌّ من الريف الغربيّ لمدينة القدس، يَعْرف عن فلسطين والفلسطينيّين والفلسطنة ما يكفي أن يحيلَ الماءَ نارًا. لكنّه افتراضيّ، يُنْتج الافتراضَ، ويعيش فيه، ويحرِّض الآخرين على تأمّله. وسيلتُه في الافتراض، وإنْ صبغتْها البلاغةُ الثوريّةُ التي تنتجها غصَّةُ اللغة المختنقة ببؤس الواقع، تستند إلى افتراضٍ بسيط: حين لا يعودُ "الخجلُ عاطفةً ثوريّة" بفعل التقادم أو التآخُر، فإنّ مهمَّةَ الافتراضيّ تكمن في تحويل البذاءة إلى فنٍّ ثوريٍّ قادرٍ على بعث عاطفة الخجل من بياتها الشتويّ.

وفي هذا كلَّه، يُفْلت مهنّد أبو غوش، دائمًا، وبأعجوبة، من نماذج التنميط: فلا هو "الهامشيُّ-المركزيّ" الذي يحترف النضالَ من دون أن يَحرف البوصلة، ولا هو "الجوَّالُ-الحالم" الذي يهشِّم مغناطيسُه النقديُّ مرايا المدينة، ولا هو "المثقّفُ-العضويّ" الذي يتحسّس سلامةَ أعضائه كلّما نطق... بل هو "المنتبهُ-الجماعيّ" الذي يعرف كيف يُحْرج قلوبَنا من دون أن تلتقي العيون.

بالكلمة، والملصق، والصوت، يبني مهنّد أبو غوش افتراضاتِه: "إسرائيل،" كلُّها، مجرمة. الرسميّاتُ العالميّةُ شريكتُها. الرسميّاتُ العربيّةُ خائنة. الرسميّةُ الفلسطينيّةُ متواطئة. فلسطينُ وحيدة. الحريّةُ واحدة. الأحرارُ كثُر. المقاومة مقدَّسة. الشهداءُ سيعودون؛ سنلاقيهم في الطريق. الطريق طويل... وهكذا.

"لم أُبعثْ شتّامًا،" قال لي مرَّةً، وهو يستدرج النبيَّ الذي فيه ليُقْنع الجاحدَ الذي فيَّ بضرورة الشتيمة، وإنْ أمكن غيرها. حِرْتُ كيف لمن يُحْسن اشتقاقَ الجَمال من المسارب العديدة بين المخيّمِ والسجنِ والمقبرة، أقانيمِ فلسطين الثلاثةِ الباقية، أن يرى في الشتيمة مَخرجًا من المتاهة؟ وحدَه "الإفراطُ الثوريّ" هو ما يفسِّر انحيازَ مهنّد أبو غوش إلى افتراضاته الجارحة.

و"الإفراط الثوريُّ" ليس لغزًا نظريًّا، بل هو هديّةٌ نادرةٌ من علم الأخلاق والجمال، بالغةُ الخطِّيّة والتحديد، وُلدتْ بالتزامن مع ولادة مهنّد أبو غوش في مطلع سبعينيّات القرن الماضي، بين العراق وفلسطين ومصر والمغربِ العربيّ. وُلِدَ "الإفراط الثوريّ،" كمقولة، للردِّ على خمول الكون في الإصغاء إلى دوران "الكواكب اليتيمة،" وقمرِها الأجملِ-فلسطين. هكذا قال الثوريّون الكبار حين وُلد مهنّد أبو غوش، إذ العالمُ -- هنا في فلسطين، وهناك في العرب، وما بعد الهنا والهناك، في الروم والعجم -- لن يرى الفلسطينيَّ إلّا حين يحمله الفلسطينيُّ على النظر: بفَقْءِ بؤبؤ عينه؛ ولن يُصغيَ إلى الفلسطينيّ إلّا حين يُلزِمُه الفلسطينيُّ بالإصغاء: بقرعِ طبلةِ أذنه؛ ولن يَنطقَ اسمَ فلسطين إلّا حين يُكْرِهه الفلسطينيُّ على الصراخ: بسحبِ رأسِ لسانه، وبكيِّه بجمرة النبيّ، الذي لم يكن يهوديًّا ولن يكون. فالنبيّ النبيل، الذي يحترف الإفراطَ الثوريّ، لا يليق به إلّا تحويلُ الشفقة إلى عطف، والعطفِ إلى تضامن، والتضامنِ إلى التزام، والالتزامِ إلى فعلٍ غاضب يُقَرْصِنُ جوارحَ المتفرِّج الخامل، ويغتنمُها، ويسيطرُ عليها، ويستخدمُها في معركة الحرّيّة.

لا حدَّ لمديح "الإفراط الثوريّ" في أيّ مكان، ولا ينبغي أن يكون له حدٌّ في فلسطين تحديدًا. هنا، يَستثمر المفرِطُ الثوريُّ نمشَ وجهِ الشهيد، ورجفةَ يدِ رافعِ العلم، وخلايا جسدِ المشتبِك، ومَلاحةَ الساخر من كلّ شيء ومن المجرمين والخائنين والمتواطئين، ونباهةَ مَن يعيدُ إلى بدائيّة البشريّة جماليّتَها. فقد روت "كتبُ التاريخ،" على ذمَّة سعد الله ونُّوس:

"عن جماعةٍ ضاق سوادُها بالظلمِ والجورِ والشقاء. فاشتعل غضبُها، وذبحتْ ملكَها، ثم أكلتْه. في البداية شعروا بالمغص، وبعضُهم تقيّأ. لكنْ بعد فترة، صحَّت جسومُهم. تساوى الناسُ، وراقت الحياةُ. ثم لم يبق تنكُّرٌ، ولا متنكِّرون."

الحريّة لمهنّد أبو غوش.

الحريّة لمزيدٍ من الإفراط الثوريّ.

 

القدس، فلسطين المحتلة

 

عبد الرحيم الشيخ

شاعر وناقد من القدس. وُلد لعائلة فلسطينيّة لاجئة من الرَّملة المحتلَّة. يعمل أستاذًا للفلسفة والدراسات الثقافيّة والعربيّة في جامعة بيرزيت في فلسطين. يتمحور عملُه الفكريّ على القوميّة، وسياسات الهويّة، والشِّعريّة العربيّة، والترجمة، ويتركَّز نقدُه الفنّيّ على التعبيرات البصريّة للهويّة الفلسطينيّة.