أبحث عن قصةٍ مدفونةٍ في مكانٍ ما، لم يَكتب عنها بعدُ أحد.
رحلتي نحو الحكاية
21-12-2018

 

يبدو المكانُ للمارِّين بقربه عاديًّا جدًّا، ولكنه بالنسبة إليّ أشبهُ بالمعجزة. فأنا أنتظر في باحته منذ ثلاث سنوات: أطرق بابَه كلَّ يوم طرقةً خفيفة، وأعود لأجلس. ألفُّ معطفي جيّدًا حول كتفيّ وأفكّر: على الباب أن يُفتح في النهاية.

يقع المبنى على قمّة جبل عند الجهة الشرقيّة من البلاد. اختلف المهندسون في شأن تصميمه: فمنهم مَن اقترح جعلَه على شكل كتاب كبير مفتوح في منتصفه، تنتشر حجراتُه على طول الصفحتين في الواجهة. ومنهم مَن أصرّ على أن يكون مبنًى عاديًّا كأيِّ مبنى تُدرَّس فيه الأشياء. إلى أن ظهر فريقٌ ثالث، نجح في إقناع مديرةِ المشروع برؤيته، فوُلد في النهاية مبنى الحكّائين على شكلِ درجاتٍ أربع، تصاعديّ كأنك ترتقي سلّمًا، تُمثل كلُّ درجةٍ منه مرحلةً، لا أعلم عنها شيئًا بعد. وقد جعلوا أمامه باحةً كبيرة، ليس فيها سوى شجرةِ زيتونٍ كبيرة، وبضعةِ مقاعد خشبيّة.

على مدى ثلاث سنواتٍ من الانتظار في الباحة الأماميّة للمبنى، شهدتُ الكثيرَ من المارّة. منهم مَن فُتح له البابُ عند أوّل طرقة، ومنهم مَن انتظر سنةً ثمّ دخل، ومنهم من ملَّ الانتظارَ ورحل. وأنا فوق مقعدي: أطرق الباب كلّ يوم طرقةً خفيفة، وأعود لأنتظر.

لمديرةِ المكان قوانينُها الغريبة، إذ لا يَخضع الوافدون لأيّ امتحان أو اختبار أو مقابلة. حين يُفتح الباب لك، فأنت قد قُبِلت. وحين لا يُفتح، فأنت لم تُقبل بعدُ وعليك أن تنتظر.                  

أراها ترقبني كلّ صباح من شبّاك مكتبها فوقي. أرشقها بنظرةٍ يملؤها العنادُ والثباتُ والصبر، لأقول لها: "أنا هنا، ولن أبرح المكان حتى يُفتح بابي!" عليَّ أن أعترف بأنّ ثلاث سنوات من الصمت والتأمّل علّمتني الكثير. فقبل ذلك، كانت الشجرة بالنسبة إليَّ شجرةً فقط. أما الآن فهي جدَّةٌ صلبةٌ لا تذهب إلى مكانٍ وتأتيها كلُّ الأمكنة؛ عصفورٌ يتّكئ على كتفها يحكي لها عن كلّ الأمكنة التي زارها ومرَّ بها؛ نحلاتٌ وسناجبُ وضوءُ شمس. الشجرة ما عادت شجرةً فقط، وأنا لم أعد أنا. فقد نضجتْ حواسّي، وصارت أكثرَ تحسّسًا بفكرة الوجود. صرت أتسع وأتسع، حتى أصبحتُ جزءًا من المكان، كالشجرة والمقاعد الخشبيَّة. صرت والباحة واحدًا.

كعادتي في الوقت المعتاد من كلّ يوم، رفعتُ رأسي نحو شبّاك غرفة المديرة لأرمقها بنظرة الإصرار المألوفة، فوجدتُ في نظرتها هذه المرّة شيئًا مختلفًا، يشبه ابتسامة! مِلتُ برأسي، بغير وعي، نحو بابي، فوجدتُه مفتوحًا نصفَ فتحة! رفعتُ رأسي من جديد باتجاه المديرة، فلم أجدها. أخذتُ نفسًا عميقًا، ووقفت. كنتُ أعلم أنّ الباب سيُفتح في النهاية، ولكنّي كنتُ أظنّ أنني سأنتظر عشرَ سنوات قادمة. أغلقتُ البابَ من خلفي بهدوء ورهبة. مشاعري تختلط ودقّاتُ قلبي تتسارع. خطوتُ إلى الداخل بضع خطوات، ورحتُ أجول المكانَ بلهفة.

بهوٌ طويلٌ تنتشر من حوله حجراتٌ كثيرة، وتتدلّى من سقفه مصابيحُ نصفُ مضاءة. عند نهاية البهو ردهةٌ كبيرة. المكان هادئ ودافئ. تشعر كأنّك في بيتك. تقدّمتُ بضع خطوات باتجاه الردهة. أوقفني شابّ جميل. حيّاني بلطف، وأخبرني أنّ المديرة تنتظرني. قادني نحو مكتبها. طرقتُ الباب بضع طرقاتٍ، ودخلتُ.

غرفتُها متوسّطة الحجم، فيها مكتبةٌ ضخمةٌ ومكتبٌ وبضعُ تماثيل وصور. مكان هادئ ولطيف، كما المبنى. تقدّمتُ نحو الكرسيّ المقابل لمكتبها. حيّتني بلطف، ودعتني إلى الجلوس. راحت تحدّق فيَّ لنصف دقيقة. وحين التقتْ أعينُنا، خفضتُ وجهي؛ فالنظر في عينيَّ يؤلمني ويعرّي أفكاري، وأنا كنتُ حينها أستدعي كلَّ قواي. حين لاحظتِ ارتباكي توقّفتْ عن التحديق وهمستْ لي:      

ــــ كان عليّ أن أدعكِ تنتظرين لبعض الوقت.

ــــ أعلمُ ذلك.

ــــ أنتِ جاهزةٌ الآن.

 ــــ أجل.. أنا جاهزة.

ــــ أهلاً بكِ بيننا. أنتِ في منزلكِ الآن.

أعطتني ورقةً صغيرة، فيها شرحٌ موجز عن المكان والمدرّسين والحصص، وقد دُوِّنتْ في أسفلها تفاصيلُ صغيرة عن مكان غرفتي ومواعيد حصصي.                                                                 

استأذنتُها وذهبتُ إلى غرفتي. لففتُ نفسي بمعطفي جيّدًا، وغفوتُ كمن لم يغفُ يومًا.

***

في الصباح كانت حياةٌ جديدة في انتظاري. عرفتُ حينها أنَّ لكلّ طبقة اسمًا، ولكلّ اسمٍ مرحلةً، عليَّ أن أجتازها لأبلغ الطبقةَ التالية. إنه مسارٌ تصاعديٌ في رحلتي نحو الحكاية.

على مدخل الطبقة الأولى، حيث أسكن، لافتةٌ كبيرة كُتب عليها: "لماذا تكتب؟" في هذه الطبقة، ننبش أنفسَنا، ونستدعي دوافعَنا، ونقرأ سيَرَ الكتّاب الذين سبقونا، ونقف عند طفولتهم مطوَّلًا، وعند اللحظة الأولى التي كتبوا فيها.

أذهلتني الحصصُ، وجوُّها المشحونُ بالحماس والاكتشاف والتأمّل. أحببتُ زملائي كثيرًا؛ فهم هادئون لطيفون دائمو الابتسام، ماهرون في الإصغاء إلى كلّ الأصوات من حولهم؛ لهم حواسّ حادَّة تلتقط المخفيّ في الوجود. هكذا كنّا نتعلم. وهكذا كانت أحاديثنا. نتشارك أفكارَنا، ونمعن في اكتشاف أنفسنا. وعند نهاية اليوم نجتمع في الردهة نقرأ بصمت.

***

اجتزتُ هذه الطبقة، وانتقلتُ بفرح وحماس كبيرين إلى الطبقة الثانية. على مدخلها لافتةٌ كبيرة، كُتب عليها: "ماذا تكتب؟" هنا، نتعلم استنطاقَ الأشياء وابتكارَها. نخترع الأسئلةَ ونبحث عن إجاباتٍ لها. نقرأ أكثر، وننسلّ من أنفسنا قليلًا لندرس الخارج، الحياة، ونحن في جزءٍ صغيرٍ منها يقع على قمّة جبلٍ بعيد. تكثر الأسئلة في هذه الطبقة، ويبدأ جلُّها بكلمتين صغيرتين: "ماذا لو؟!" نكتشف خيالنا وقوَّته وسحرَه.

ذات يوم، كنت أخطو في اتجاه المكتبة، حين صادفتُ طفلةً في التاسعة أو العاشرة. تقدَّمتُ بفضول نحوها وسلّمتُ عليها.

ــــ ماذا تفعلين هنا يا صغيرة؟ منذ متى وأنتِ هنا؟ لقد انتظرتُ في الخارج ثلاث سنوات ولم ألمحكِ تدخلين!

نظرتْ إليَّ كمن ملَّ الإجابةَ عن هذا السؤال، وبكلّ هدوء أجابت:

ــــ لقد ولدتُ هنا. حين دخلتْ أمّي إلى هنا كانت حاملًا بي، ثمّ توفّيتْ بعد ولادتي ببضعة أشهر. هنا منزلي. أجتاز الطبقات في وقت أكثر بضعفين من غيري. لكني أجتازها. فعليَّ أن أكمل ما بدأتْ به أمّي!

أذهلني الأمر. رحتُ أتأملها جيّدًا. طفلة صغيرة، يتيمة، تخطو بثقةٍ وعزمٍ صوب الحكاية. ذكّرتني بِهرميون، من سلسلة هاري بوتر. أخبرتُها بذلك، فاحمرّت وجنتاها.

***

اجتزتُ الطبقة الثانية. في الثالثة تعلّمنا كيف نكتب. طوَّرنا أدواتِنا، وخلقنا الحبكات، ورسمنا الشخصيّات. ازدادت حواسُّنا توهّجًا، وأعينُنا اتقادًا. صرنا قريبين جدًّا من الحكاية، من الطبقة الرابعة.

كان الأمر بمثابة الصاعقة بالنسبة إليّ حين علمتُ أنّ عليّ، كي أجتاز الطبقةَ الرابعة وأخرجَ من المبنى قاصَّةً محترفة، أن أكتب عن فكرةٍ لم تُكتَب من قبل. لكنْ، ما هي الفكرة، بحقّ السماء، التي لم يكتبها بعدُ أحد؟

بعد كلّ هذا الصبر، شعرتُ بالعجز أخيرًا؛ بتفاهةِ أن أنتظر كلَّ هذه السنوات كي تعترف بي مديرةٌ غريبة. "كلُّ الأفكار كُتبت،" رحتُ أصرخ في وجه زملائي، "وكلُّ ما نفعله هو أن نعيد سردها وخلقها بصورتنا، بصورةٍ تشبهنا."

***

استيقظت بعد أيّام، وبي إصرارٌ غريبٌ على ترك المبنى. لا أريد لأحد أن يعترف بي قاصّةً. "أنا قاصَّةٌ بالفطرة،" رحتُ أردّد. لقد تعلّمتُ الكثير هنا. أحببتُ المكان بكلّ ما فيه. ولكنْ عليَّ أن أخرجَ قبل أن تتحوَّل الكتابة إلى حرفةٍ جافّةٍ تُلقَّن فيها الأشياء. كان عليَّ أن أحمي الدهشة داخلي.

فتحتُ الباب وخرجت. رحت أجوب الأرضَ كالرحّالة. أقرأ الأشياء من حولي بنهم. الجبال والسهول والمدن والقرى البعيدة والقبائل والأنهار والأطفال والموتى والقبور وبقايا الأشياء المدمَّرة والضوء والعتمة. أقرأها كلَّها وأنبشها وأعرّيها، وأنا لا أعلم أنّي ــــ بغير وعيٍ مني ــــ أبحث عن قصةٍ مدفونةٍ في مكانٍ ما، لم يَكتب عنها بعدُ أحد.

لبنان

فاطمة زعرور

حكواتيّة لبنانيّة.