"الشعبُ يُريد..."
12-11-2020

 

 

1 - في مكتب البريد

الطابور في مكتب البريد اليوم أقلُّ طولًا ممّا كان عليه بالأمس. ولو عثرتُ أمس على طابورٍ منتظمٍ، لما غادرتُ كي أعودَ اليوم.

رقمي هو 34. أسألُ الرجلَ المتجهّمَ، الواقفَ أمامي مباشرةً، عن الرقم الذي وَصَلَ إليه الدورُ. تتّسع ابتسامتي حين أعرف أنَّه 21. فمع وجود ثلاث موظّفات يعملن بهمَّةٍ ونشاط، يصبح الفارقُ مقبولًا، والانتظارُ معقولًا.

ولكنّ الرجلَ المتجهّمَ يقرّر المغادرةَ قبل أن يحينَ دورُه، فأتقدَّم خطوةً لأشغل مكانَه.

 

2 - صفقة صغيرة

يمرّ الوقتُ وأتقدّمُ رويْدًا رويْدًا، حتى يفصلَني عن مواجهة الموظفة مُراجِعٌ واحدٌ فقط.

فجأةً، يقف إلى جانبي شابٌّ يحمل في يده بطاقةً رقمُها 57. أستغربُ خروجَه من الطابور، مستعجلًا الوقوفَ في هذا المكان القريب من الكونتوار. يزداد استغرابي مع الاستهلال التقليديّ الذي اختاره لمحادثته معها: "عجقة كتير اليوم، إيه؟"

تبتسم الموظَّفة، وتجيبُ بالنفي، وتؤكّد له أنّ ما يراه اليوم لا يُعَدُّ ازدحامًا إنْ قيسَ بزحمةِ الأمس: "بالأمس لم يكن ممكنًا أن أحادثَ أحدًا أو أبتسمَ له،"تقول له ممنِّنةً.

الشابّ، الذي صار الآن مستندًا بمرفقيْه إلى الكونتوار بأريحيّةٍ كاملة، يخبرنا بنبرةٍ حزينةٍ أنَّه حضر لتسديد رسوم التسجيل الجامعيّة عن شقيقتِه الوحيدة، وأنَّه اضطُرّ إلى الانتظار حتى اليوم الأخير من المهلة المحدَّدة بسبب انشغاله بمرضها؛ فهما "يتيمان ووحيدان،" ولا يستطيع انتظارَ دوره لأنّ عليه موافاتَها إلى المستشفى حيث ستخضع "لعمليّةٍ جراحيّةٍ دقيقة."

كان الشابّ يتحدّث بصوتٍ خفيض. أجابته الموظّفةُ بصوتٍ أكثرَ انخفاضًا، لم يسمعْه غيرُنا نحن الثلاثة (إذ كان المُراجِِعُ الذي يتقدّمني قد غادر للتوّ)، أنَّها لا تستطيع التلاعبَ بالدور خشيةَ أن يثورَ عليها باقي المُراجِعين.

قلتُ إنّني لا أستطيع التخلّي له عن دوري لأنَّ الموظّفة باشرتْ في إنجاز معاملتي ولم يعدْ في إمكانها التوقّف. ابتسمَ موضحًا أنَّه لا يريد مني أكثرَ من أن أنجزَ معاملتَه بنفسي، في غفلةٍ من الجميع، فلن يكلّفني ذلك سوى انتظار ربع ساعةٍ إضافيّ، في حين سيسبقني إلى الخارج، "ويا دار ما دخلك شرّ!"

أفكّر أنْ لا دليلَ لديّ على حكايته الحزينة، وأنَّه لا يليق بي - أصلًا - أن أطالبَه بدليل؛ فضلًا عن أنَّ لكلٍّ من هؤلاء المنتظرين حكايتَه الخاصَّة. والحكاياتُ في هذه البلاد لا تكون إلّا حزينةً. ومَن لا يملكُ حكايةً حزينةً لا يقفُ في الطوابير، وإنّما يرسلُ سائقَه لينتظرَ عنه إنجازَ المعاملة.

قبل أن أصوغَ أفكاري في عبارةٍ حاسمة، دسّ الشابُّ المبلغَ الذي يتوجّب عليه دفعُه تحت أوراقي، بحركةٍ سريعة. رافقتْ ذلك ابتسامةٌ متواطئةٌ من الموظّفة، وهزّةُ من رأسها تشجِّعني بها وتبارك "اتّفاقَنا" المفترَض.

"ينسى" الشابُّ ملفَّه على الطاولة، ويتوجّه بخطًى واثقةٍ إلى الخارج خاليَ اليديْن.

لم يسعْني إلّا إتمامُ المهمَّة التي وجدتُني متورّطًا فيها. أثناءَ خروجي، استوقفتْني نظرةُ عتابٍ في عينيْ عجوزٍ كان يقف خلفي مباشرةً في الطابور. كان الرجل قريبًا، فسمعَ كلّ شيء على ما يبدو.

تُربِكُني نظرتُه، فأخرجُ مسرعًا، حتّى أكادَ أتعثّر بجسدِ متسوّلةٍ تسدّ البابَ.

 

3 - الأصدقاء الأعداء

أقفُ ليلًا على شرفتي الضيّقة المطلّةِ على وسط المدينة.

مدينتُنا الصغيرةُ تنام باكرًا كبلدةٍ ريفيّة.

أحبُّ صخبَ نهاراتها وسكونَ ليلها، ولكنَّني عاجزٌ عن النوم مثلها الآن.

أفكّر في تانيا، التي فاجأتني بكتابتها بعضَ الجمل المفتاحيّة على باطن كفّها قبل امتحان الجغرافيا البشريّة، كتلاميذ الابتدائيّ الأشقياء.

وأفكّر في منار، التي فاجأتُها بإصراري على أن أُمتَحَنَ في الجغرافيا الطبيعيّة لدى د. حامد بدلًا من د. نزار لأنّ الأخير صديقي.

كما أفكّر في ناجي، الذي أجبرتُهُ على النزول من سيّارتي وتركتُه وحيدًا بعد منتصف الليل في منطقةٍ بعيدةٍ عن العمران لأنّه رمى زجاجةَ العصير الفارغة من النافذة.

وأفكّر في رنا، شقيقتي التي خاصمتُها لأنَّها سمحتْ لنفسها بأن تسكنَ مع زوجها في بناءٍ أقاماه على الأملاكِ العامّة، في مخالفةٍ قانونيّةٍ صريحةٍ قد يمكن تبريرُها للفقراء الذين لا يملكون المالَ اللازمَ لشراء الأرض والبناء واستصدارِ التراخيصِ اللازمة، لكنْ لا يمكن تبريرُها للموسِرين من أمثالهما.

كلُّ هؤلاء الأشخاص انقطعتْ علاقتي بهم، أو تحوّلتْ صداقتُنا إلى عداوة، بعد أن رشّت مثاليّتي المفرطةُ الزيتَ على نار تبايناتِنا الصغيرة. فبماذا أتميّز عنهم اليومَ، وقد باتت في جعبتي خطيئةٌ أولى؟

وأين تفوّقي الأخلاقيُّ المزعوم؟

وأين سأذهبُ من نظرات ذلك العجوز؟

 

4 - الشعب يريدُ سمكًا مشويًّا

أركن السيّارة أمام المسمكة، مستأذنًا صاحبَها الواقفَ أمام الباب. يهزُّ رأسَه موافقًا؛ فأسماكُه القليلةُ قد نفدتْ، وهو لا ينتظر المزيدَ من الزبائن. يهتف صغيري في الخلف: "سمك! وأخيرًا رح ناكل سمكْ مشوي!" توضح له أختُه أنَّني اضطررتُ إلى التوقّف أمام المسمكة فقط لأنّ الحيّزَ الضيّقَ الموجودَ أمام الدكّان الذي أشتري منه سجائري تحتلّه سيّارةٌ أخرى.

في الدكّان، يتناهى إلى سمعي صوتُ الطفليْن يردّدان بحماس: "الشعب يريد إسقاطَ النظام." أستغربُ إذ أتذكّر أنّهما لم يكونا قد وُلدا إبّان ثورات الربيع العربيّ.

أخرجُ، فأجد أناسًا قد خرجوا إلى شرفاتِ البناية الكبيرة التي يقع الدكّانُ في طبقتها الأرضيّة ليردّدوا الهتافَ مع الطفليْن.

يصبح الصوتُ هادرًا في لحظات.

أنتشي فرحًا بطفليَّ اللذيْن استطاعا صنعَ ثورةٍ صغيرةٍ في وقتٍ قصير، وأستبشِرُ خيرًا بمصير البلد الذي فَسدَ ساستُه فأفسدوه.

ألوِّح بيديَّ للواقفين في الشرفات، شاكرًا تشجيعَهم الطفلَيْن، وأنطلقُ بالسيّارة، من غير أن يتوقَّفَا عن الهتاف.

لسببيْن بسيطين لا أشعرُ بالرغبة في إسكاتهما، على الرغم من النظرات الفضوليّة التي تلاحقنا على طول الطريق إلى المنزل: حرف الشين الذي يخرج من بين أسنانِ رامي مشبَعًا وجميلًا، وقد تعلَّم نطقَه حديثًا بعد أن كان يلفظُه سينًا؛ وحرف الظاء بصوتِ رامة، إذ يخرج من بين أسنانها العلْويَّة ولسانِها بصورةٍ أكثرَ إتقانًا من معظم مذيعات التلفزيون.

السيّارة تمتلئ فجأةً بأطفالٍ آخرين أجهلُ عددَهم الحقيقيَّ ومن أين أتوْا. أفكّر أنَّه من الجميل أن تكون للمرء أسرةٌ كبيرةٌ كهذه. ولكنّ أطفالي الجدد يُفْصحون عن ميولهم الفوضويّة سريعًا. يقفز أحدُهم إلى المقعد الأماميّ بجانبي، ويحرّك المقودَ بنزق، فتنحرف السيّارةُ، قبل أن أستعيدَ السيطرةَ عليها، متجنّبًا الاصطدامَ بسيّارةٍ أخرى آتيةٍ في الاتجاه المعاكس.

تتبدّل الأمورُ بشكلٍ عصيٍّ على الفهم، فأجدُ نفسي فجأةً في المنزل أمام زوجتي. يخبرها الولدان بسرورٍ بما فعلاه أمام المسمكة، وكيف خرج الناسُ إلى الشرفات للاحتفاءِ بهما. ثم يحدّثانها عمّا فعلاه في الطريق إلى المنزل، من دون أن يذكرا شيئًا عن الأطفال الفوضويّين.

تنقسمُ الثورةُ على نفسها بعد أن تسألني زوجتي عمّا أرغب في أن تحضِّرَه لغداء الغد. رامة تهتف بفرحٍ مجيبةً بالنيابة عنّي: "الشعب يريد سباغيتي باللحمة!" فيُسْكتها رامي ويهتف بصوتٍ أعلى: "الشعب يريد سمكْ مشوي!"

يعود الطفلان إلى هتافهما الموحَّد بعد أن تعِدَهما الأمُّ بتلبية طلبيْهما تباعًا.

 

5 - ثورةٌ تحت شرفتي

أستيقظُ هلِعًا. زوجتي ليست إلى جانبي. أتذكر أنْ لا زوجةٌ لديّ أصلًا، ولا ولدان يُدْعَيان رامة ورامي. كان ذلك منامًا. ولكنّ الصوتَ لا يزال يتردّد في أذنيّ. إذًا، "الشعبُ يريد إسقاطَ النظام" فعلًا. أتذكّر أزماتِ الأسبوع الأخير: انقطاع الخبز والدواء والمشتقّات النفطيَّة، واشتعال الحرائق وعجز الدولة عن التعامل معها، وغيرها.

ولكنْ، كيف للمرء أن يستيقظَ على ثورةٍ مفاجئةٍ بعد نوم ساعاتٍ قليلة؟ صحيح أنَّ ثمَّة دعواتٍ انتشرتْ أمس إلى الاعتصام في ساحات المدن عند الصباح الباكر، ولكنَّني لم أتوقّعْ أن يزيدَ العددُ في مدينتنا عن عشرين شخصًا يحْضرون كلَّ مرّةٍ للاحتجاج على أمرٍ مختلف، ثم يغادرون من دون أن يعبأ بهم أحد. هذه البلاد ديمقراطيّة تمامًا وتسمح لكَ بالاحتجاج: لا أحدَ يقمعك، ولا أحدَ يسمعك! وكنتُ قد شاركتُ في احتجاجاتٍ مماثلة ردحًا طويلًا من الزمن، قبل أن يصيبَني اليأسُ من إمكانيّةِ التغيير، ومن إمكانية قيام ثورةٍ حقيقيَّةٍ في بلادٍ منقسمةٍ على نفسها.

أنهضُ لتبديل ملابسي كي ألتحقَ بالمحتجّين، ولكنَّني أتذكّرُ خطيئتي في مكتب البريد بالأمس، فأُحجم عمَّا انتويتُه.

ولكنّ هذا لا يمنعُني من الخروج إلى الشرفة لأطلّ على المشهد الجميلِ تحتها.

 

6 - على المنصَّة

من الشرفة يبدو المشهدُ مطابقًا لما تخيّلتُه. صوتُ الهتافات كان قد أوحى لي أنَّ العدد كبيرٌ هذه المرّة، قياسًا بالاحتجاجات السابقة. وقد صدقَ ظنّي.

أنتبهُ إلى منصّةٍ ضخمةٍ جرى تركيبُها على عجلٍ أسفلَ شرفتي تمامًا، تعتليها مكبّراتُ صوتٍ وأعلامٌ كثيرة.

على المنصّة تقف مجموعةٌ يبدو أنّها تتولّى القيادة. أميّز من أفرادها تانيا ومنار وناجي!

يرنّ هاتفي الذكيّ في هذه اللحظة، فأقرأ على الشاشة اسمَ رنا. ستسألني من دون شكّ عن سبب تأخّري في النزول إلى الساحة. وقبل أن أجيبَ على اتصالها، ألمحُ في الساحة وجهًا أعرفُه، لا ينفكّ صاحبُه يشير بيديْه في كلّ اتجاه، موزّعًا الأوامرَ على الجميع.

كان وجهًا يشبه وجهَ الشابّ في مكتب البريد.

صور

مهدي زلزلي

كاتب من لبنان. له مجموعة قصصيّة بعنوان: وجهُ رجلٍ وحيد.