وسائل الإقناع والنبرة الصوتيّة
31-07-2016

يَملك كلُّ شخصٍ نبرةً صوتيَّةً إقناعيَّةً خاصّةً به.(1) ولا تُنجز هذه النبرة من خلال المنحنى الصوتيّ، أو عبر بعض الكلمات، أو التغيّرات في المشاعر المعبَّر عنها، وحسب؛ بل يتطلّب الموضوعُ أيضًا وجودَ الأفكار والحرارةِ المصاحبة والحركات الجسديّة، ومئاتِ العناصر الأخرى التي تمثّل اقتراحاتٍ تفرض نفسَها على لاوعي المخاطب.

هل نستطيع التحكّمَ دائمًا في هذه النبرة الصوتيّة الخاصّة التي نوظّفها، بشكلٍ فِطريّ، عندما نريد إقناعَ أحد الأشخاص بالظروف المحيطة ؟ لا نستطيع تحقيق ذلك دائمًا، بل قد نثير في نفسه تحدّيًا سافرًا. فالحال أنّنا حين نبذل جهودًا كبيرةً للدفاع عن قضيّةٍ غاليةٍ على أنفسنا، فذلك قد يَخلق الاضطرابَ بين ثنايا خطابنا، وينسينا حُججَنا الأساسَ.

نُقدّم هنا بعضَ الأمثلة المتعلّقة بالنبرات الصوتيّة المتنوّعة التي يستعملها المتكلّمُ لتساعده على رسم صورته الشخصيّة عند الآخر عند الدفاع عن قضيّته:

أ ـــ اختيارُ النبرة الحاسمة. تَكثر المجالسُ التي يقودها أفرادٌ أقوياء من استعمال نبرة التأكيد والإصرار أو اليقين. إذا كان المتكلّم يحاول أن يكون إنسانًا منيعًا، فسيصبح شخصًا لا يُطاق بالنسبة إلى المخاطَب؛ وهذا ما سيحوّل كفاءتَه الموظّفة من أجل ملاحقة اعتراضات مخاطَبيه إلى تهديدٍ دائمٍ لنزاهتهم واستقرارهم.

ب ـــ اقترابُ النبرة المفخَّمة من النبرة الحاسمة شريطة ألّا يتمّ تبريرُها من خلال قيَمٍ "بديهيّة." فليس هناك ما هو أكثرُ كوميديّةً من شخصٍ غبيّ يحاول "تنظيمَ" الأمور الواضحة بالنسبة إلى الجميع باستعماله نبرةً صوتيّةً قويّة، وكأنّه قد اكتشفها وحدَه للتوّ!

ج ــ ارتباطُ نبرة الشخص المدّعي بصورة مالك المعرفة المطلقة (نبرة "العارف الحكيم"). ويظهر واضحًا فيها الزهوُ والاستعلاءُ على المخاطَب، الذي سيشعر بالضرورة أنّه "غبيّ" وأقلُّ امتلاكًا للمعرفة من المتكلّم. هذا الأسلوب يخلّف في نفس المخاطَب، عادةً، ضغائنَ وحزازاتٍ تجعله يضطرّ إلى الدفاع عن صورته.

د ــ بروزُ ضعفٍ حجاجيٍّ سافرٍ يكون مصحوبًا بـ"نبرة الغطرسة والخُيَلاء." وتكون نتيجته بروز المتكلّم شخصًا مشتّتَ الأفكار، يخوض في كلّ الأحاديث من دون أدنى معرفة، ويُلقي التصريحات من دون أيِّ برهان، ويعارض الناسَ بكلّ وقاحة، ويتدخّل في أمورهم الشخصيّة بشكلٍ استفزازيّ.

***

يَدْرس المتكلّمُ الجيّدُ الأمورَ باهتمام، ويميّز بينها، لكنّه قد لا يعرف طريقة توظيف نبراته الصوتيّة الخاصّة، فتُمْنى جهودُه بالفشل. والأمر هنا يتطلّب الاحتياط من بعض العبارات التي توحي بالكبرياء والفخر، مثل: منَ الثابت، من المؤكّد، هذا مضمونٌ، هذا يقينٌ، سأُحيطكَ عِلمًا، سأعلّمُك ذلك، أنتَ إذن تجهلُ أنّ...

فهذه الأقوال والعبارات تملك تأثيرًا مشوِّقًا، ولا سيّما عندما تُوظّف ضمن محاورةٍ متلاحمةِ العناصر؛ لكنّ تكرارها بكثرة يجعل منها مؤشّرًا على الاقتضاب بالمعرفة، وعلى الكفاية المخلَّة(2) بالموضوع المطروح.

على عكس هذه النبرات، نجد "نبرة الرجاء" أو التوسّل، وهي تمثّل خطّةً رقيقةً ولبيبةً في مجال تقنيّات بناء وسائل الإقناع الحجاجيّ (argumentative). كما أنّ الإنسان الذي يرجو، أو يتوسّل، إلى أحد الأشخاص، يقدّم نفسَه مجرّدةً من كلّ كبرياء أو خيلاء. تسمعه يقول مثلًا:

ــــ أنا لا أحاول معارضتكَ في هذا الموضوع...

وفي هذا رضوخٌ وإلغاءٌ لمبرّر الحوار (فإنْ كنتَ لا تعارضه، فما الداعي إلى محاورته؟). هنا يُعرب المتكلّمُ الراجي عن احتياجاته وحزنه بكلّ وضوح، نظرًا إلى مواجهته شخصًا قويًّا يُرغمه على الخضوع. وهذا الخضوعُ (الظاهرُ) يحمل بين طيّاته عطرًا مزيّفًا، لكنّه رائقٌ لأنّ المخاطَب يرى فيه إطراءً ومجاملةً يجعلانه يناقش الطلبَ المعروضَ عليه. ويمكن هنا أن ننتبّه إلى نداءات المتسوّلين في الطرق، أو حوارات موظّفي البنوك مع الزبائن الكبار، ولا سيّما إنْ كانوا ينتظرون عمولةً إذا نجحوا في إقناعهم.

أمّا "نبرةُ التهذيب والرقّة" فتمثّل تنوّعًا ينبع من "نبرة  التوسّل والالتماس." هنا يُعْرب المخاطبُ عن مشاعرَ رقيقةٍ يتوخّى من ورائها أن يكون محورَ التهذيبِ والمجاملة التي تلفت النظرَ في المحيط الاجتماعيّ. لذلك، فإنّه سيلاحظ أنّ الناس يُعدّونه شخصًا مهمًّا؛ وهذا قد يعجبه كثيرًا، وبخاصّةٍ إذا كانت الفكرة المعروضة عليه تساهم في الرفع من قيمته الاجتماعيّة.

المغرب

-----------------------------------------------------

1- يعالَج هذا الموضوع على مستوى التنغيم (intonation) الذي يتحكّم في تحديد المعاني والمواقف المتنوّعة (فرح، غضب، خوف،...) التي لا تبرز من خلال المستوى التركيبيّ (syntactic).

2- ينعتها بعض الباحثين الأنداد بالسليقة، أو المَلَكة، والقُدرة.

 

عبد الجليل أبو بكر غزالة

باحث من المغرب. حائز الدكتوراه من جامعة ستراسبورغ ـــــــ فرنسا في المباحث اللغويّة.