إذا كان مشروعُ نقد العقل اللغويّ في إطار الاستقلال التاريخيّ للذات العربيّة تقتضيه الثقافةُ العربيّةُ، فهل يمكن اعتبارُ الوسيلة التواصليّة والتعبيريّة لهذه الثقافة في حاجةٍ بدورها إلى نقد؟ وما ضرورة نقد العقل اللغويّ العربيّ؟
استحضرنا هذين السؤالين من خلال الاطّلاع على دراسات محمد عابد الجابري: "التجديد في اللغة ــــ رسائل الألفاظ والمعاني" (2003)، وعلى مقاليْن له على موقعه على الانترنيت: "المستعمَل والمهمَل" (2003)، و"نوعٌ آخر من المستعمَل يجب أن يُهمل" (2003)؛ وكذا مؤلَّفاته: الخطاب العربيّ المعاصر (1985) ونقد العقل العربيّ: تكوين العقل العربيّ (1984) وبنية العقل العربيّ (1986)، ومواقف (عدد 15 و16، 2003)، ودراسته المعنونة بـ"التجديد في النحو بين ابن مضاء وابن رشد" ضمن كتاب أسئلة اللغة (2002)، وذلك في سياق البحث عن أصول فكرة تدشين "عصر تدوين" جديد، على اعتبار أنّ فكرة تطوير النحو العربيّ ليست جديدةً لدى الجابري، بل تعود إلى مشاركته في ندوة "البحث اللسانيّ والسيميائيّ" (كليّة الآداب بالرباط، 1981) وفي نقد العقل العربيّ (الجزء الأول والثاني) وما تلاه من دراسات.
تتجلّى مستلزماتُ هذا النقد في وجود عوائق وعقبات، منها:
ــــ الفرق الواسع بين الفصحى من جهة، ولغة البيت والشارع والحياة اليوميّة من جهة أخرى.
ــــ صعوبات تعلّم الفصحى.
ــــ قصور اللغة "العالمة" عن تغطية بعض المجالات الحيويّة (المنزل والدكّان والمصنع...).
ــــ الانشطار بين الثقافة العالمة والثقافة العاميّة.
ــــ فشل مشروع تجديد اللغة لدى بعض القدماء.
أما آليّة تجاوز هذه العوائق والعقبات، فتتمثّل في تدشين "عصر تدوين" جديد. وأولى عتبات هذا التدشين:
ــــ إعادة بناء شامل للثقافة العربيّة، وعلى رأسها اللغة العربيّة، وذلك على ضوء معطيات العصر ومتطلّباته.
ــــ الحاجة إلى قاموس لغويّ معاصر للعربيّة.
ــــ نقد أداة العقل العربيّ: اللغة.
مظاهر هذا الانفصال قديمة وليست وليدة العصر، ما أدّى إلى تدوين العربيّة وتقعيدها كما هو معروف. أما طبيعة نقد العقل اللغويّ فيجب أن تنطلق من استلهام روح العمل الذي قام به النحاةُ واللغويون والفقهاءُ العرب القدامى في عمليّة تدوين اللغة العربيّة أو في محاولة تجديدها، أمثال: الخليل بن أحمد في دراسة المستعمَل والمهمَل، وابن حزم حين أكّد أنّ الغرض من النحو هو المخاطبة، وابن مضاء القرطبي في محاولته تيسيرَ النحو ونقدَه نظريّة العامل، وابن رشد في كتابه الضروريّ في النحو قصد إعادة صياغة مسائل النحو وأبوابه بطريقة علميّة. كما يلزم على هذا النقد الانخراطُ في حقل العلوم المعرفيّة العصريّة، حتى يغدو حيّزُ العربيّة قادرًا على "تغطية" أشياء الحياة اليوميّة ومستجدّاتها.
ويطالب الجابري بتأليف كتبٍ مثل: كتاب الدرّاجة، وكتاب السيّارة، وكتاب المطبخ وأدواته، وكتاب الكهرباء والإلكترونيّات، وكتب الماليّة والإدارة والبنوك...، وهو ما يمكن إدخالُه في ما يسمّى "اللسانيّات القطاعيّة." ويدعو إلى ترقية العربيّة، وهو ما يُنعت في أدبيّات التخطيط اللغويّ بـ"تخطيط المتن،" ويحيل على التغيّر الذي تعرفه البنيةُ والمفردةُ والصرافةُ والتركيب...، أي التغير الذي يلحق طبيعةَ اللغة نفسها. أمّا تشديدُه على القرارات السياسيّة في تجديد اللغة فيندرج ضمن ما يسمّى "تخطيط الوضع،" ويُعنى بموقع اللغة القانونيّ والتنمويّ والوظيفيّ في علاقتها بلغاتٍ أخرى، وعلاقتِها بالمجتمع.
وأمّا مضمون الدعوة، فيعكس التحدّيات التي تواجه العربيّةَ في العصر الراهن، والرهانات التي يلزم كسبُها حتى تظل حاضرةً في النظام الإيكولوجيّ للغات العالميّة. إنّ الوطن العربيّ يحتاج إلى عربيّة مبسّطة ننطلق منها "ليس فقط في تعليم أولادنا وتعليمِ الأجانب، بل أيضًا في تعريب حياتنا اليوميّة العامّة، وذلك بالارتفاع بالعامّيّات العربيّة إلى العربيّة الواحدة العالمة، الشيء الذي سيعزِّز وحدتَنا الثقافيّة: المقوِّمَ التاريخيَّ الدائمَ للأمّة العربيّة." وسبيلُ "العربيّة المبسّطة" ــــ بحسب الجابري ــــ هو استفتاءُ تجارب القدماء، واستلهامُ روح فكرة "المستعمَل والمهمَل،" والعملُ على تحيينها في مقاربة الدرس اللسانيّ المعاصر والمشاكل اللغويّة الراهنة. ويدخل في هذا الإطار التفكيرُ في قاموس عربيّ معاصر، يحتفظ من المعاجم القديمة بالكلمات المستعملة اليوم فقط، ويضيف الكلماتِ المولّدةَ والمعرّبةَ والمترجمةَ و"العاميّةَ" المستعملةَ التي أخذتْ قالبًا عربيًّا أو معرّبًا تقْبله "الأذنُ" العربيّة.
إنّ قراءة الجابري لإشكاليّة التجديد اللغويّ تناقض الفكرَ الذي يريد المحافظة المطلقة في إطار سياجٍ من الوثوقيّة، أو المعارضة الجذريّة المجّانيّة لهذه اللغة. إنّها قراءة جديدة تضعها في سياقها التاريخيّ المعرفيّ، وتنظر إليها نظرةً عقلانيّةً، بغية تهيئتها للانخراط في مجتمع المعلومة، ولإرضاء أفق انتظار الفاعل اللغويّ. كما أنّ الاهتمام بالجانب اللغويّ لديه هو ركيزة من ركائز نقد العقل العربيّ، بغية تطوير الفكر العربيّ ككلّ.
وفي الختام، يمكن القول إنّ تحديث العربيّة مظهر ضروريّ للحفاظ على مكتسباتها، وتمكينها في الحقول الإنتاجيّة، وتطبيعها في فضائها الخاصّ، وانخراطها في مسار اللغات القابلة للتحويل والمواكبة في السوق اللغويّة للعولمة في الألفيّة الثالثة.
الدار البيضاء