لا يفوِّت اللبنانيون، أفرادًا وجماعات، فرصةً لانتقادِ الدولة وتحميلِها مسؤوليّة ما يُواجهونه في حياتهم اليوميّة ــ ــ من فلتانٍ في الأسواق، وزحمةٍ في السير، وفسادٍ في الإدارة، وتلوّثٍ في البيئة، واضطرابٍ في الأمن المحلّيّ، وتهديدٍ للأمن الوطنيّ. وهم يؤكّدون في انتقاداتهم، وإنْ بأشكالٍ غيرِ مباشرة، توافقاتِهم الضمنيّةَ، بهويّاتٍ طائفيّة أو غيرِ طائفيّة، على ضرورة وجود الدولة، التي لا قيامَ لأيّ مجتمعٍ من دون حضورها اليوميّ الناظم (وغير المرئيّ) لحقوق الفرد والجماعة وواجباتهما.
هكذا تَحْضر الدولةُ في أذهان الناس، وهي المُشرِّعة لهويّاتهم الفرديّة ضمن حدودها وخارجها. فالدولة، كما يقول بيار بورديو، هي "هذا الوهمُ ذو الأساس المكين... والحيِّزُ الموجودُ أساسًا بسبب أنّنا نعتقد أنّه موجود... إنّها موجودة بالاعتقاد[1]
ولكن رُبّ متسائل عمّا إذا كان وجودُ الدولة في اعتقاد الأفراد "كوَهْمٍ ذي أساسٍ مكينٍ" في المجتمعات الصناعيّة المتروبوليّة، القائمةِ منذ قرون، هو على الصورة ذاتها في المجتمعات التي جرى "تركيبُها" عشيّةَ استقلالها منذ عقود؟ فممّا لا شكّ فيه أنّ ما جرى تركيبُه في هذه المجتمعات ليس الدولةَ المتشكّلةَ في صيرورةٍ تاريخيّةٍ امتدّتْ على قرون، وإنّما هو حكوماتٌ فرضتْها ضروراتُ التوافق بين مصالح المكوِّنات الإثنيّة والطائفيّة؛ وهي حكوماتٌ عجزتْ على امتداد قرون عن تجاوز تبعيّاتها، وعن بلوغ وعي الضرورة الوطنيّة بوجود الدولة القائمة على الدستور وقوانين المواطَنة.
إنّ المقصود في الانتقادات الموجَّهة إلى ما يُسمّى "الدولة" في المجتمعات الريعيّة هو، في الواقع، الحكوماتُ التابعةُ لمراكز القوى العالميّة، أو هو الزعاماتُ الحاكمةُ المتحكّمة التي تتحاصص تشكيلَ الحكومات وتتوارثها. هذه الحكومات لم يبلغ الناسُ وعيَ ضرورة وجود القوانين التي تُشرِّع محاسبتَها: فتجد أكثريّةُ النخب في موالاة زعامات الطوائف ما يغريها، ولا يبقى أمام الأقلّيّة من النُخب المعارضة سوى التمرّس في ما تستعيره من الخطاب الراديكاليّ في العالم الأول حول "دولة الوهم المكين،" المُستعصي قيامُها في ظلّ حكومات الريوع، والتي تجدِّد شرعيّةَ تحكّمها في مسرحيّة صناديق الاقتراع.
ويبقى السؤال: لماذا يستعصي تأثيرُ غالبيّة الكتابات المعارضة في تغيير نهوج الحكومات اللبنانيّة المتعاقبة على إدارة السلطة والموارد ــ ــ أكانت كتاباتٍ نقديّةً مُتلبرلةً أمْ عروبيّةً/شعبويّةً تَغْلب عليها الطروحاتُ الراصدةُ لمواقف أطراف الحكم ومصالحِها السياسيّة وعلاقاتِها الداخليّة والإقليميّة؟
والحقّ أنّ هذه الطروحات ظلّت تحوم حول الطبيعة الوظائفيّة للبُنى السلطويّة والثقافيّة، الضروريّةِ لترسيخ مقوِّمات نظامٍ اعتمدتْه سلطةُ الانتداب الفرنسيّ بالتوافق مع مرجعيّاتٍ طائفيّة، وفي طليعتها الكنيسةُ المارونية. وقد أُوهمتْ عوامُ الطوائف بأنّ هذا النظام هو النظامُ الأضمنُ لأمان عيشها وتديّنها. غير أنّ هذا "الأمان،" في الواقع، يضْمنه توافقُ القوى الدوليّة، وحلفاؤها الإقليميون، وتتعهّد صيانتَه زعاماتُ الطوائف بما يشرعن تحاصُصَها لسلطاته ومواردِه، وبما يُتيح لها التشريعَ الذي يحمي آليّاتِ النظام الريعيّ وهجانةَ ليبراليّة اقتصاده التخارجيّ؛ نظامٌ افترض مصمِّمو دستوره الأوائل، وبخاصّةٍ سلطةُ الانتداب، أنّه النظامُ "التعدّديّ" الملائم للقيام بأدوار وساطةٍ تَخدم حضور تلك السلطة السياسيَّ والاقتصاديَّ في المشرق العربيّ.
من المعالم الأخيرة للهُزال السياسيّ، المقترنِ بالتأسيس "التوافقيّ" للنظام، جاء مخاضُ تشريع قانون الانتخاب الأخير، الذي أُنيط تصميمُه بمجموعةٍ ضيّقةٍ من نوّابٍ يُمثّلون زعاماتِ الكتل الطائفيّة الكبيرة في البرلمان. وقد جهدتْ هذه المجموعةُ، على امتداد أكثر من سنة، من أجل حصر التنافس بين تحالفاتها، وفرضِ ما اختارتْه من مبدأ "غلْق اللوائح" ومن "عتبةٍ انتخابيّة" غالبًا ما عجزتْ لوائحُ المعارضات المتنافرة والمستجدّة (ومنها الحَراكيّة خصوصًا) عن بلوغها كشرطٍ للتأهّل للمنافسة على المقاعد، ولا سيّما في محميّات التديُّن المذهبيّ.
الجدير ذكرُه أنّ كبارًا بين زعماء المذاهب المتحكّمين في تقسيم خريطة الدوائر و"فرزِ اللبنانيين على أساس انتماءاتهم" (خلافًا لِما نصّ عليه الدستور)، لم يتورّعوا عن "شرعنة" تجاوز الدستور تحوّطًا من خروقٍ يتوجّسون منها. وقد تمثَّلَ هذا التجاوزُ الفاضح في إعراض المُشرِّعين عن احترام مضمون الفقرة ط [2] من المقدِّمة، وهي فقرة أُضيفت إلى الدستور في اتفاق الطائف، وتُمثِّل روحَ معالجة هذا الاتفاق لأزمة تصدُّع الكيان اللبنانيّ بفعل الحرب الداخليّة الخارجيّة فيه وعليه. وقد ترسّخ توجّسُ أولئك "الكبار" بعد أن لمسوا أنّ فوزَهم في الانتخابات كان رهينةَ تحالفاتٍ أَفضلتْ عليهم بأكثر ممّا توقّعوه من تعهّدات مفاتيحهم الانتخابيّة. لذلك لم تتأخّر عقوباتُ الكثير من مفاتيح مكناتهم الانتخابيّة بعد صدمات النتائج، وتدنّي مستويات الفوز الموعودة في بعض دوائرهم (كما حصل للوائح سعد الحريري في بيروت والبقاع الغربيّ، وللتيّار الوطنيّ الحرّ في جبيل).
وقد عُزي تدنّي مستويات الفوز إلى تدنّي دوافع التحالفات. وهو ما انعكس في إرباكاتٍ داخل أوساط الولاءات، الوفيّةِ تقليديًّا لأولئك "الكبار"؛ ونعني أوساطًا (داخل الفئات الوسطى) أقدرَ على تبديل ولاءاتها، أو على التغيُّب عن التصويت، بعد أن صُدمتْ بتزايد خلطات تحالفاتهم. وهذا ما برز في ما تعرّض له سامي عطالله وزينة الحلو [3] في مقالة نشرتْ في أيّار 2018. في هذه المقالة يُصنّف الكاتبان هذه الخلطات، التي بُرّرتْ للموالين بفوائدها الانتخابيّة يومَ التصويت حصرًا. وقد برزتْ هذه الخلطات المُستهجنة على سبيل المثل:
ــــ لدى "حركة أمل،" التي رَشّحتْ مع التيّار الوطنيّ الحرّ في 3 دوائر من أصل 15 دائرة، ورشّحتْ ضدّه في دوائر أخرى.
ــــ لدى "التيّار الوطنيّ الحرّ،" الذي ترشّح مع حزب الله في بيروت وبعبدا وراشيّا، ورَشّح ضدّه في 6 دوائر أخرى.
ــــ لدى "تيّار المستقبل،" الذي رَشّح مع "القوّات اللبنانيّة" في 3 دوائر، ورشّح ضدّها في 3 دوائر.
وزاد في الإرباك الانتخابيّ، لدى بعض الفئات الموالية للزعامات، توقُّفُ الإعلام أمام الهُزال السياسيّ في الحديث عن اختلاف مواقف زعماء الكتل من مبدأ "فصل النيابة عن الوزارة":
ــــ ظهر ذلك في الحديث عن "رغبةٍ خاصّةٍ" لدى "التيّار الوطني الحرّ" في هندسةٍ للقانون الانتخابيّ تَضْمن نجاحَ مرشَّحه إلى النيابة في دائرةٍ شماليّةٍ سبق أن رسب فيها (وهو المرشَّح ذاته الذي يرجَّح ترشيحُه إلى مقامٍ رئاسيّ : جبران باسيل).
ــــ وظهر الكلام على "رغبةٍ خاصّةٍ" لدى تيّار المستقبل في رفض زعيم كتلته النيابيّة لمبدأ "فصل الوزارة عن النيابة" لأنّه لا يجد في كتلته بديلًا كفوءًا عن الوزير الحاليّ، نهاد المشنوق، المرشَّحِ للاستبدال لإشغال وزارة سياديّة مهمّة (هي وزارة الداخليّة) في ظروف البلاد الدقيقة.
ــــ وظهر كلامٌ ثالث، ولم يكن أخيرًا، على "رغبةٍ خاصّةٍ" لدى قيادة "حركة أمل" في التمسّك بعدم فصل النيابة عن الوزارة لأنها لا تميل إلى استبدال وزير، وهو علي حسن خليل، الذي سبق أن شغل وزارةَ الماليّة.
في العودة إلى الهزالات التي ترتّبتْ على قوننة الانتخابات الأخيرة، يَلفت رئيسُ المجلس الوطنيّ للإعلام، عبد الهادي محفوظ،[4] إلى أنّ خلق الصوت التفضيليّ جاء، في أكثر اعتمادات الناخبين له، لصالح مشتري الأصوات "ما دامت الرقابةُ الانتخابيّة على الإنفاق الماليّ غيرَ متوافرة بضوابطَ فعليّة، وطالما أنّ لجنة الإشراف على الانتخابات لا تملك سلطةً تقريريّةً، [بل] يعود الحسمُ في توصياتها، إذا أُخذ بها، للمجلس الدستوريّ..." ويتابع محفوظ: "في التجربة، تملك لجنةُ الإشراف على الانتخابات سلطةً معنويّةً، لا سلطةً فعليّة. وذلك أنّ القرارَ النهائيّ ليس لها، إذ لا تُشكِّل مرجعيّةً خاصّةً بها، فهي تابعة عمليًّا، ويعود القرارُ النهائيُّ في حسمها لوزارة الداخليّة، وهي سلطة سياسيّة."
نتيجةً لهذا الهزال في تهجين قانون الانتخابات وإدارةِ تطبيقه، سجّلت "الجمعيّة اللبنانيّة لديموقراطيّة الانتخابات،" في تقريرها النهائيّ،[5] 19 طعنًا انتخابيًّا، و2616 مخالفةً إعلاميّة. وقد ورد في التقرير أيضًا أنّ الجمعيّة، على الرغم من وجود 1386 مراقبًا بين لبنانيين وأجانب وعرب، سجّلتْ 222 حالة تخويف وضغط داخل الأقلام، و33 حالة شراء أصوات.
وسجّلت البعثةُ العربيّة حالاتٍ من عدم مراعاة المعايير الموحَّدة لتوزيع الدوائر، وعدم مراعاة المساواة في الحواصل الانتخابيّة فيها. كما لم تتوفّرْ لهيئة الإشراف، المحدودةِ الصلاحيّات، الأموالُ المرصودةُ لأنشطتها. يضاف إلى ذلك تأخّرُ وزارة الماليّة والبلديّات في توفير المال.
هذه كانت نماذجَ عن خروق التشريع في التمثيل البرلمانيّ اللبنانيّ، وعن ديموقراطيّة التوافق المذاهبيّ، وما نجم وينجم عنها من هزالاتٍ سياسيّةٍ لا تغيب يومًا عن وسائل إعلام أطراف النظام، التي تعْرض توازناتِهم العصبويّةَ في تحاصص ريوع السلطة والموارد والارتهانات الخارجيّة.
إنّها هُزالات تَسْهُل كتاباتُ المعارضين للنظام ولمؤسَّساته عنها، قانونيين أو إعلاميين أو نُشطاء تغييرٍ وإصلاح، نقابيين أو حزبيين، علمانيين كانوا أو متديّنين لا عصبويين.
فهل هي خروق قابلة للمعالجة من أجل حماية الديموقراطيّة البرلمانيّة؟
هنا يُنتظر إسهامُ علماء الاجتماع في تحليل طبيعة عمليّات التمثيل التي تُتيحها البُنى الاجتماعيّة والثقافيّة التي تحكم تشكّلَ النظام السياسيّ في لبنان، وما تواجهه هذه العمليّاتُ من محدِّداتٍ ترتبط بمستوى نموّ المعارضات وتأهُّلِها لمواجهة القوى المتحكّمة بالنظام ووظائفه الداخليّة والإقليميّة. وهنا تتواجه تنظيراتُ السوسيولوجيين حول طبائع التحديد والهيمنة في تحليلاتهم. إذ تمْكن ملاحظةُ أنّ رتابة توجّهات الحكومات لا تُفهم إلاّ مقرونةً بتجدّد رتابة تكيُّفات الموالاة من جهة، وبرتابةٍ مقابلةٍ في ممارسات المعارضات من جهةٍ أخرى.
وقد ظهر أنّ تاريخ تحقّق المواطنيّة في دول الرأسماليّة المتطوّرة تزامن مع تاريخ تحقّق النموّ الاقتصاديّ المتكامل قطاعيًّا ومناطقيًّا في أسواقها، وأنّ هذا النموّ المتكامل هو الذي يحصِّن سيادةَ الدولة ويخفِّف من التفاوتات بين مكوّناتها الاجتماعيّة ــــ الثقافيّة. وهنا نذكّر بأنّ عمليّة بناء المواطنيّة بدأتْ في فرنسا منذ ما يزيد على قرنين في دستور 1791 غداة الثورة الفرنسيّة، ولكن اعتُمد نظامُ الانتخابات للرجال بعد ثورة 1848 (أيْ بعد 57 سنة)، واعتُمد للنساء سنة 1944، وذلك مع ارتكاز المواطنيّة على ضمانات حقوق اجتماعيّة في التعليم والصحّة والحماية الاجتماعيّة.
كما ظهر أنّ هذه المواطنيّة لا تتحقّق وتستديم إلّا بالمشاركة السياسيّة، المتمثّلة في التزامات النقابات والأحزاب وجماعات الضغط والحَراك المدنيّ؛ وهي التزاماتٌ تقود ممارساتِ التصويت والتظاهر وعرائض المطالبات المحلّيّة. وبرز أنّ تراجعَ أشكال مشاركة هذه الحركات الاجتماعيّة اقترن بثبات نِسَب المقترعين والتغيّب عن الاقتراع، وبتراجع نِسب المنضوين في أحزابٍ مدنيّةِ التطلّع ولا تجدِّد تنظيراتِها في التقدم الاجتماعيّ المدنيّ.
فهل تمْكن معالجةُ قصورات الحكومات والمعارضات التقليديّة من خلال الاكتفاء بالمطالبات الحَراكية القطاعيّة ــــ كمطلب فرض "كوتا" المشاركة النسائيّة في التمثيل النيابيّ والبلديّ، ومطلبَي قوننة اللامركزيّة الموسَّعة وتخفيض سنّ اقتراع الشباب ــــ في ظلّ التعبئات الطائفيّة المتحكّمة بريوع التديّن والتعصّب، وفي غياب المعارضات الضاغطة الملتزمة ببلورة السياسات التنمويّة الوطنيّة والمحليّة؟
بيروت
[1] عن الدولة: دروس في الكوليج دو فرانس (1989 ــــ 1992)، ترجمة: نصير مروّة (المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، ط 1، 2016) ، ص 30.
[2] تنصّ الفقرة ط على ما يأتي: "أرض لبنان أرض واحدة لكلّ اللبنانيين. فلكلّ لبنانيّ الحقّ في الإقامة على أيّ جزء منها، والتمتّع به في ظلّ سيادة القانون. فلا فرز للشعب على أساس أيّ انتماءٍ كان، ولا تجزئة، ولا تقسيم، ولا توطين."
[3] وذلك في مقالة منشورة على صفحة المركز اللبنانيّ للدراسات بعنوان "هل حزبُ الله هو فعلًا الرابحُ الأكبر في الانتخابات؟" (أيّار 2018)
[4] جريدة النهار، عدد 28/5/2018.
[5] جريدة النهار، عدد 23/5/2018.