زويا تكتب
28-05-2016

 

اسمي "زويا،" ويخطئ أساتذتي الجدد في كتابته أو قراءته فيصبح "رؤيا." يزعجني هذا الأمر، لا لأنّ اسم "رؤيا" لا يعجبني، بل لأنّه يذكّرني بفتاةٍ كانت تعضّني عندما كنتُ صغيرة، فأبكي وأتوعّدها بالانتقام، ولم أجرؤ يومًا على تنفيذ الوعد. كثيرًا ما أرى في نومي اسمي منقوشًا بشكلٍ خاطئ على أغلفة رواياتي التي سأنشرها في المستقبل، فأشعر بالغيظ. لصديقاتي المقرّبات أسماءٌ سهلةُ الكتابة واللفظ، ولا يعانين مثلي. وكلّما ذكرتُ مشكلتي أمام "ماريّا" ضحكتْ وغنّت: "أسامينا، شو تعبو أهالينا تـ َلاقوها..." فأضحك، وأقسم بأن أغيّره حين أكبر إلى "نوال،" فتستغرب، وأكتفي بالابتسام.

أحبُّ الغموض. أحبّ أن أبدو غامضةً في أعين رفيقاتي. لذا ألزم الصمتَ أحيانًا، ولا أجيب على أسئلتهنّ. وكلّما سمعتهنّ يتهامسن حول سلوكي الغريب، أشعرُ بالنشوة وأمضي قدمًا، لأزداد صمتًا يومًا بعد يوم.

 

نوال

أمّا نوال فهي عمّتي التي انتحرتْ عندما رفض جدّي ارتباطَها بشابٍّ من غير دينها. كانت عمّتي فائقة الجمال، لكنّ جمالها كان نقمة عليها ولم تعرف كيف "تُديره." سمعتُ هذا التعبير من عمّي فهيم، فأعجبني وأضحكني، وصرتُ أستخدمه إلى جانب تعبير آخر أشدّ تهكّمًا، حين قال واصفًا غباءها: "نوال... في خصومة دائمة مع الذكاء"! وبقيتُ معجبة بعمّي وبمصطلحاته الكثيرة، إلى أن عرفتُ أنّه يستعيرها من الكتب والمجلّات، فخفّ إعجابي به، وواظبتُ على استخدام المصطلحات. والحقّ أنّ عمّتي كانت في خصومة دائمة مع الذكاء، لذا وقعتْ بسهولة في شِباك الشابّ الذي وعدها بأشياء لا تصدّقها إلّا امرأةٌ تعيش في الأوهام. وبقي الأمر، لعدّة أسابيع، مقتصرًا على لقاءات خاطفة بينهما، ورسائل مليئة بالوعود، إلى حين سمع جدّي بالأمر فأطلق تهديده الشهير: "لن يتمّ هذا الزواج إلّا على جثّتي."

لم يكن اعتراضُ جدّي على شخصيّة الشابّ، أو سلوكه، أو مستواه الثقافيّ، بل على انتمائه الطائفيّ. وقد عبّر عن ذلك في أحد الأيام، فانتقدتْه جدّتي بقسوة، فخرج عن طوره وضرب عمّتي، ثمّ سجنها في غرفتها وغادر المنزلَ واضعًا المفتاح في جيبه. أذكرُ كيف خرج غاضبًا بعد أن أبعد جدّتي التي حاولت اعتراضَ طريقه، صارخًا بأعلى صوته: "أنتِ السبب."

كنتُ ــــــ لسوء حظّي في ذلك اليوم ــــــ هناك. بكيتُ، وبكت جدّتي، وكانت من المرّات القليلة التي أراها فيها تذرف الدمع وتشهق كالأطفال. لم تمضِ سوى ساعاتٍ قليلة حتّى سمعنا صراخًا مرعبًا قادمًا من غرفة عمّتي نوال، ورأينا ألسنةَ اللهب تتراقص خلف شقوق الباب، الذي لم يتمكّنوا من خلعه إلّا بعد فوات الأوان.

في تلك الأثناء كان جدّي في المقهى القريب، ولم يصدّق أذنيه حين وقف أمامه ابنُ الجيران لاهثًا ليخبره بما حصل. نهض كمن لدغته أفعى، وقطع المسافة إلى البيت ركضًا، متغلّبًا على آلام مفاصله ومرض الربو وارتفاع الضغط، ليجد الناس متجمهرين على الرصيف وفي مدخل البناء وفي الصالون. هناك وجد جدّتي تقف كالمارد، والشررُ يتطاير من عينيها. ولم يكد يسألها عمّا حصل حتّى هجمتْ عليه ودفعتْه بقوّة في صدره فسقط "من طوله" بين قدميها، لتصرخَ بما لم يتصوّر أنّه سيسمعه منها في أسوأ كوابيسه:

 "خرا عَ أكبر رجّال بهالدنيا."

كان هذا آخرَ ما سمعه قبل أن يموت ــــــــ ربّما من الذهول ـــــــ ـفي سيّارة الإسعاف. فدُفن وابنته صبيحة اليوم التالي في قبريْن متجاوريْن، يفصل بينهما بقايا جذع شجرة ضخم استحال نزعُه من المكان.

بعد يومين أصيبت جدّتي بانهيار عصبيّ وأُدخلت المشفى، لتموت هي الأخرى بعد أسبوع بسكتة قلبية كما صرّح الأطباء.

 

بتول

اسمي زويا، ولديّ مجموعة من الصديقات: ماريّا (التي ذكرتُها قبل قليل)، ووداد، وليال، وكريستين، وبتول، التي تعرّفتْ قبل أيّام إلى صبيّ قالت إنّه "حبُّ حياتها." عندما سألتُها كيف عرفتْ ذلك، أجابتني: "عندما رأيتُه شعرتُ أنّ قلبي توقّف. وعندما عرفتُ أنّه مصابٌ بالسكّريّ كرهتُ الحلوى ولم أعد أتناولها."

تكْبرني بتول بعاميْن فقط، لكنّها تستخدم مساحيقَ التجميل، وتحصل بطرقها الخاصّة على أفلامٍ "للكبار،" وتُعلّمنا أسرارَ الجسد ومواطنَ المتعة والكثيرَ من الممنوعات. إلّا أنّ حُبَّ حياتها كان يتبدّل كلّ عدّة أسابيع، بل كلّ عدّة أيام أحيانًا! وكنتُ أحسدُها وأحاولُ مثلها العثورَ على حبّ حياتي، ولو لساعات. لا أعلم إنْ كنتُ أحبّ بتول، لكنّي كنتُ أقول لها دائمًا إنّني أحبّها كي أبقى قريبةً منها وأستمتعَ بأحاديثها الشيّقة وخبرتِها في الحياة.

صرنا، أنا وبتول، صديقتين مقرّبتين. حتّى إنّها كشفتْ جسدَها أمامي يومًا، وسمحتْ لي بلمس نهديها اللذين كنتُ أحسدُها عليهما أيضًا، وأكرهُ المساحةَ المسطّحةَ من صدري الذي يشبه إلى حدٍّ ما صدورَ الصبيان. عندما بحتُ لها بهمّي نصحتني بتدليك صدري وحلمتيّ بماء الورد الفاتر، فصرتُ أفعل ذلك كلّ صباح. صحيح أنّ هذا لم ينفع، إلّا أنّني كنتُ أشعر كلّ مرّة بنشوةٍ عارمةٍ تصل بي أحيانًا حدّ الارتجاف؛ بالإضافة إلى اكتسابي رائحةً شبيهةً برائحة الرزّ بحليب. بقيتُ أستخدم هذه الوصفة ـــــــ رغم عدم جدواها ــــــ شهرًا كاملًا، إلى أن اقترحتْ عليّ بتول وصفةً أخرى، قالت إنّها أخذتها من مجلّة طبّيّة، فصدّقتُها.

كانت وصفتها هذه المرّة شيئًا أكبرَ من طاقتي على تنفيذه، لكنّ رغبتي في امتلاك نهدين نافرين جعلتني أوافق بعد أن لمحتُ في عينيها تململًا يشي برغبتها في سحب عرضها السخيّ. لذا، عندما طلبتْ منّي نزعَ ملابسي الفوقيّة بالكامل، أقفلتُ باب غرفتي وتجرّدتُ من ثيابي بسرعة البرق، ثمّ وقفتُ أمامها أرتجفُ من الخجل والارتباك. وما إنْ مدّتْ يديها إلى صدري ولامستْ برؤوس أصابعها حلمتيّ الغائرتيْن، حتّى سرتْ قشعريرةٌ رهيبةٌ في كامل جسدي وانتصب الوبرُ الناعمُ فوق جلدي. وقبل أن أعي ما يحصل كانت تضع شفتيها الساخنتين فوق صدري وتنقلّهما بين حلمتيّ، وتمضغهما بلطفٍ هامسةً لي: "لا تخافي، لا تخافي."

كنتُ خائفةً إلى درجة الموت، حتّى إنّني صرتُ أبكي طالبةً منها التوقّف. لكنها لم تتوقّف، بل صارت تعضّهما عضّاتٍ خفيفةً جعلت أنفاسي تتقطّع. ثمّ خارت قواي، وشعرتُ أنّني أسبح في الهواء، قبل أن أغيب عن الوعي تمامًا لأستفيق بعد دقائق، وأجدَ نفسي وحيدةً في سريري مع آلام في أسفل بطني، ولزوجةٍ غريبةٍ بين فخذيّ، تبيّن فيما بعد أنّها دماءُ دورتي الشهريّة الأولى التي صدف أن جاءتني في هذا التوقيت الغريب!

 

كريستين

ترى كريستين أنّ الصبيان مجرّدُ مصائب وُجدتْ لتعكّر حياتنا، نحن الفتيات اللطيفات. وكانت تحاضر فينا، كلّما أُتيح لها، عن الحشمة والأصول والعادات، وعن يوم الحساب والعقاب الذي ينتظر مَن تشذّ من الفتيات عن قواعد الدين والأخلاق. كان كلامُها يخيفنا لكنّنا ــــــــ ولحسن الحظّ ـــــــ كنّا ننساه، ونعود إلى براءتنا العصيّة على الوصف خلال لحظات.

لكريستين عمٌّ يعيش في أميركا، يرسل لها كلّ عدّة أشهر بعضَ الألبسة والأحذية ذات الماركات الشهيرة. وكانت تسمح لنا بتجربتها حين نزورها، وكنّا نقدّر لها هذا الكرمَ رغم أنّها كانت تمنعنا من أخذ الصور التذكاريّة كي لا نتباهى أمام الآخرين ونخطف الأضواء. كاي هو الاسمُ الأمريكيُّ لعمّها؛ وقد أحببتُه: فهو واضحٌ وسهلُ اللفظ. لكنّني عرفتُ مصادفةً أنّه اختصارٌ لاسمه الحقيقيّ، كيكو، ووعدتُ كريستين بعدم ذكر ذلك أمام البنات، كما طلبتْ منّي راجيةً. غير أنّني لم أفِ بالوعد، وكان هذا كافيًا لتقطع علاقتَها بي.

بقينا متخاصمتين ثلاثة أسابيع، قبل أن تفاجئَني يومًا في الطريق وتطلب إليّ مرافقتَها إلى الحديقة القريبة قائلةً إنّها تريد الاعتراف بسرٍّ خطير. استغربتُ طلبها؛ فأنا مَن أفشى سرّ اسمِ عمّها قبل أيّام! لكنْ بدا أنّها تناست الأمر، وأخبرتني أنها تحبّ صبيًّا يعيش في البناء المقابل لبيتهم. وقالت إنّها قابلتْه اليوم، وأمسك بيدها، وقال لها: "رجليكي حلوين." أذهلني الخبر، فذكّرتُها بحديثها عن الصبيان "المصائب،" وعن "يوم الحساب والأخلاق،" فغضبتْ ولامت نفسها لأنّها أخبرتني. وأخيرًا طالبتني بحفظ السر، فوعدتُها، لكنّني لم أفِ بوعدي هذه المرّة أيضًا.

 

ليال

تسْخر ليال من كلّ شيء حتّى من نفسها، وتُضحكنا حتّى البكاء حين تجمعنا لتروي لنا نكات "السيكس." في أحد الأيام، ذكرتْ لنا أنّ أحد الصبيان قبّلها على فمها، فحسدناها. لكنها صعقتنا عندما سألتنا بكلّ جدّيّة: "معقول هلّق أنا صرت شرموطة"؟ وأذكر أنّني شعرتُ حينها بالرعب!

يعمل والدُ ليال في مزرعة للأبقار. وحصل ذلك حين رافقتْه، لأوّل مرّة، إلى هناك، والتقت بابن مدير المزرعة. تعارفا، ثمّ دعاها إلى جولة في المكان، فذهبتْ برفقته. وبعد قليل بدأ يحدّثها عن الحبّ والغرام والقصص الرومانسيّة. بينما كان يحاول الاقتراب منها، إذ بأحد الثيران يلاحق بقرةً ويقفز فوقها ثمّ يقوم بحركات غريبة. أثار المشهدُ انتباهَ ليال، فسألته عمّا يحصل. لكنّه لم يجبها، ووجدتْ نفسها فجأةً بين ذراعيه وفمه على فمها.

لم أكن أعرف بدقّة معنى كلمة "شرموطة،" لكنّي أكّدتُ لليال أنّها ليست كذلك. وهذا ما فعلته باقي الفتيات.

 

وداد

لا تعرف وداد شيئًا من الحياة سوى الدرس. لذا كانت لا ترافقنا إلّا في أيّام العطل، ولساعات قليلة، ثمّ تعود مسرعةً إلى البيت كما وعدتْ أمّها التي تراقب تصرّفاتها كما يراقب فلكيٌّ قبّةَ السّماء بحثًا عن ظاهرةٍ غريبةٍ قد تخرق نظامَ الكون.

وداد هي الوحيدة بيننا التي لم تعترفْ بأيّ سلوك يمكن أن يخدش صورتها أمامنا، وأمام كلّ مَن يعرفها ولو عن بعد. وقد صدّقناها جميعنا، وصارت مقياسًا للفتاة "العاقلة" كما يطلق على هذا النوع من الفتيات. إلى أن استعرتُ يومًا أحدَ كتبها، ووجدتُ بين طيّاته ورقةً فيها كلماتٌ عن الحبّ، وحرفين يفصل بينهما قلب. عندما سألتُها عن مصدر الورقة وعمّن كتب هذه الكلمات، انهارت أمامي وبدأت البكاءَ، فاحتضنتها، وأقسمتُ لها بأنّني لن أفشي سرّها، واستطعتُ فعلًا كتمان السر.

 

اسمي زويا

يقولون إنّني أسبق عمري، لكنّي لا أعرف مَنْ يسبق مَنْ، ولا أحبّ المسابقات. أحبّ كتابة القصص، وأحلم بأن أصبح كاتبة حين أكبر كي أكتب عن كلّ ذلك وأكثر. لستُ متأكدة إن كنتُ سأغيّر اسمي كما وعدتُ نفسي، لكنّي مصرّة على الأمر حتّى الآن. ماكتبتُه اليوم هو "بروفا" لما سأكتبُه في المستقبل. وصدّقوني سيكون في جعبتي كثيرٌ من الأسرار تتوق إلى الشمس والهواء.

اللاذقيّة

عصام حسن

رسّام كاريكاتير، وكاتب من اللاذقيّة، سوريا. أقام العديد من المعرض في سوريا وشارك في معارض خارجها، له مؤلّفات عديدة، منها: ما قلّ ودلّ وهيك وهيك  (رسوم كاريكاتيريّة)، غيمة الشعر الوردية، وأكره اللون الأحمر (نصوص ورسومات للأطفال)،الحرب ومربّى الفريز،  وحدثينا يا شهرزاد، وعن الحب وفأر الطحين (نصوص وحكايات مختلفة).