لَفظني البحرُ صباحَ ذلك الأربعاء من أيلول. رفض أن يضمّني إلى محفوظاتِه، وتخلّى عنّي ثانيةً. في اللحظة التي قاربتُ فيها على فقد التوازن، بعد أن ابتلعتُ ماءً كثيرًا، انتشلني رجلٌ سمينٌ من براثن الغرق. كان يسبح بصحبة ابنه الصغير، مرتديًا سروالًا طويلًا.
قبل دقائق، كنتُ أعوم في مكانٍ متقدّمٍ عن كريم أمتارًا. لم أمتثلْ إلى قراره الرجوعَ إلى مقاعدنا، بعد أن علّل الأمرَ بغياب المسؤول عن سلامة السابحين. هزئتُ بحُجّته، فنبّهني إلى أنّ الروّاد قليلون.
حنق كريم منّي. غير أنّه تسمّر في مكانه حين صرختُ طلبًا للنجدة. لحسن حظّي، كان المنقذ يرانا، فخلّصني، ودعاني إلى عدم العوم بعيدًا لكثافة التيّارات. شكرتُه، وكذا فعل كريم. سرتُ مستاءةً في الماء حتّى بلغتُ الشاطئ. تبعني كريم حتّى مَتاعنا. مسّد شعري، فيما كان جسدي يرتجف، وإبرةُ لسانه تُحوّل الأسطوانة المشروخة إلى كلامٍ جنائزيّ الإيقاع، مفادُه أنّه خاف كثيرًا من فقدي. وفي اللازمة: "أنتِ جموحة وعنيدة!" مع بعض السطور من "دليل استعمال الحياة" الذي ترد فيه لازمة "يجب أن... ويجب أن لا..." ما يزيد عن مائة مرةّ. لم أقاطعه. وضعتُ نظّارتي الشمسيّة، وتجاهلتُ حركات فمه، فوجد في النوم مناصًا بعد أن أفرغ على جلده المستحضَرَ المثبت طبّيًا في الاتّحاد الأوروبيّ أنّه فعّال في درء حروق القرص الملتهب.
أمامنا صبيّة وولد محترفان في لعبة راكيت الشاطئ، وجديران بالمتابعة أكثر من مراقبة خطوط "السيلوليت" المقيتة على فخذيّ. خمّنتُ أنّهما شقيقان. أدرتُ وجهي عنهما، فالتقطتْ عيني الندبةَ عند صابونة ركبتي. تذكّرتُ كمّ الدواء الأحمر وعبوات المراهم التي سُكبتْ عليها للتخلّص من شوه الجلد، عبثًا.
كنتُ في سنّ العاشرة حين تحدّاني أخي نسيم أن أنزل الطريقَ البعيدةَ الوعرة على درّاجتي وأنا مغمضةُ العينين. قبلتُ التحدّي. ثمّ تعثّرت الدرّاجة بحجر ناتئ من الرمل، ورمتني أرضًا.
كان نسيم يصغرني بسنوات أربع، وقد ركن إلى دور الظلّ في حياتي، إلى اليوم الذي هاجر فيه إلى كندا، وبتُّ لا أسمع من أخباره سوى نتف الكلام. نسيم الذي خيّب آمال أبي في ذَكرٍ يستعيد أمجاد تجارته التي آلت بورًا، فضّل الإعانة الحكوميّة على الرجوع إلى البطالة في بيروت والسقوط مجدّدًا من عينيْ أبي.
عادت الشمس تتأمّلني، بعد أن أنهى الشقيقان لعبهما، وفقدتُ أثرهما. استرخيتُ على جنبي. أحَحتُ طمعًا في أن يستيقظ ذو الجسم المغالي في بياضه. كان يلصق ركبتيه ببطنه، ويضع يديه على صدره، ووجهه يقابل وجهي.
***
كريم نموذجٌ عن الشاب الذي تفضّله فتاةٌ ثانويّة شريكًا لحياتها: يفضّل العناقات الطويلة على فعل الوطء، ويستحمّ مرّتين في اليوم، ولا يقْرب الدخانَ. لا يعرف من معشر النساء غيري. يقيس السعادة بعمله المقبول الأجر، ويعرّفها بخروجنا في عطلة نهاية الأسبوع من منزلنا القابع في ضاحية ساكنة، وباستقبال الأصدقاء فيه مرّةً في الشهر على مائدةٍ عامرة.
لطالما حدّثتُ نفسي أنّ عقدًا قد يمرّ ونحن نُعيد روتين أيّامنا المفصّلة على دقائق ساعة سويسريّة، تضبط مواعيدَ الاستيقاظ والنوم والطعام والخروج والمعاشرة، ولا يقطع دورانَها سوى استدعاء أبيه له، فيلوذ بجسدي لكسر وحش الخوف، قبل أن يقابل المحامي الكريه، ويتمتمَ أنّه متمسك بي. الـ"ميتر" مصطفى لم يرغب في أن أكون زوجةً لابنه لأنّ عالم الغناء الذي أنتمي إليه مفتوحٌ على علاقات لا يريد لوحيده أن يقربها. انصاع كريم إليه في كلّ أمر، سوى في هجراني.
كنّا ضدّين. تعارفنا عند صديقٍ مشترَك، وما لبثت المصادفاتُ المتتالية أن تحوّلتْ مواعيد. كلّما هزأتُ بحديثه عن دروس التغذية الصحيّة تآلفتْ روحانا. كلّما سخرتُ من عادته القاضية بالاستيقاظ قبل صياح الديكة، وباستعجال الليل حتّى ينام الساعات المتّفق طبّيًّا أنّها ضروريّة لحياةٍ صحّيّة، تبادلنا أنفاسَ بعضنا البعض للعيش! حينذاك، لم أتردّد طويلًا في قبوله زوجًا، لأنّي كنت أعاني الأمرّين جرّاء خلافاتي المتواصلة وأمّي.
دعاني بأناة إلى البقاء في المدرسة لتعليم الموسيقى صباحًا، ووداعِ الغناء في حانات الليل التي كان يحدّد أصحابُها وقتَ وصلتي، قبل أن نخلي ــــ عازف البيانو (غي) وأنا ــــ الساحة لأغاني التاكسيّات. شرح لي أنّ أباه يمكن أن يذهب في مواجهتنا إلى حدّ التبرّؤ منه. كلّما هام كريم فيّ، ذكّرني بأنّ الذكور الذين عرفتهم قبله كانوا ضعفاء. كان الحنانَ الذي طالما افتقدتُه من أمّي.
***
انتصف النهار. مرّ الرجلُ الخمسينيّ أمامي ثانيةً. ابتسمتُ لرؤيته. ظلًّا لابنه كان. كان الصغير في السابعة، في السنّ التي غرقتُ فيها للمرّة الأولى. يومَها أعلمتُ أمّي برغبتي في بلوغ المكان الذي وصله خالي، فأفلتتْ يديها عن بطني، متوهّمةً أنّ دولابَ الهواء الرخيص واقٍ، فابتلعتني المياه لثوانٍ، قبل أن تمتدّ يدُ خالي إلى جسمي الخفيف وتحملَني.
أمّي، المثقلةُ ببرودة أبي تجاهها، وجدتْ في سوء معاملتي ترياقًا من قهر رجلٍ عاكستْه الحياةُ بعد أن أعطته مالًا كثيرًا. ورث أبي عن جدّي الحاج أحمد حبَّ التجارة، لكنّ توقَ الشابّ إلى عيش حياة البورجوازيّة البيروتيّة والفلسطينيّة التي عرفها في الجامعة باعدَه عنه. دوّرَ جدّي القروش وحوّلها إلى ليرات فعشرات فمئات فآلاف، لكنّ بيته لم يعرف الرغد. وعلى خلافِه، وجد أبي في نصف مال تجارة المواد الغذائيّة مادّةً للتدوير، وفي نصفهِ الآخر زينةً وعلاقاتٍ وأسفارًا. كان يتباهى بسيّاراته ذاتِ الفرش الجلديّ، والتي يبدّلها باستمرار، ويُسرّ بأنّه مَن يُدرِّج الموضة بين معارفه. طولُ قامته يجعل الملْبس، حين يلتصق بجسمه، ينطق بآيات الجاذبيّة. البريدج التي يلعبها بين الفينة والأخرى عرّفتْه إلى نادي كبار البلد. خسر ماله بعد بضع سنوات من زواجه، والتهم حريقٌ بضاعة مستودعه الوازنة. ساءت أحوال أبي وطالت ذقنه واسودّ وجهه، بيد أنّه بقي وسيمًا. عاش بصمت أيّام حداده على حياة كريمة أقفلتْ بابها في وجهه من دون مقدّمات. كانَ الرجل المفلس الذي لم يسر في جنازته سوى قلّة.
أفاق كريم من نومه، فطلبتُ إليه أن نغادر.
***
في المبنى الأعلى في المدينة، تتّصل أمتارُ المسرح القليلة بمشْرب، وتحجز آلةُ البيانو مكانًا هامشيًّا في فضاءٍ تخترقه قرقعةُ الشوك والسكاكين والضحكات. حاول "غي" أن يهدّئ الجلبة بنغم المفاتيح، لكنّ التفاعل كان معدومًا. نظرتُ إلى الفراغ، وقلت بصوت مرتجف:
Cet air qui m'obsède jour et nuit
Cet air n'est pas né d'aujourd'hui
مجدّدًا، لم يأبه الحضور. جاءتني الرؤيا التي تنتابني كلّما تعثّرتُ في مسيري: صورةُ الفتاة التي تقابل النظراتِ المرتابةَ بالغناءعاليًا، وبطقطقة نغمها الأثير بكعبيها.
أفقدتني الرؤيا الإحساسَ بما يحوطني. رمتني في حضن أبي الذي قبّلني على خدّي، وهنّأني بحرّيتي. كان غي، عندئذ، ينتقم من انعدام الاهتمام بنا بجعل عزف البيانو يخترق الجدران. عدتُ إلى المسرح في الوقت المناسب. فلاش كاميرا جوّال أوقظني. وها هي الموسيقى تَرفع صوتي مجدّدًا:
"بادام بادام"!
بيروت
* Padam padam أغنية لإديث بياف