استحكم الإضرابُ وامتدّ. حاولوا تعليقَه، فعلِقوا في الهيئات التمثيليّة لـ"رابطة الأساتذة المتفرّغين" إذ باغتتهم الهيئةُ العامّة. حاصروا الهيئةَ التنفيذيّة، فجاءهم النبأُ من مجلس المندوبين أنّ أصوات الأساتذة الحزبيّين لم تَحسم التصويت.
استشاطت المكاتبُ التربويّة (الحزبيّة) غضبًا من خروج الأساتذة من فروض الطاعة الحزبيّة. ووصل الأمرُ بإدارات الكلّيّات ومجالسها أنْ تركتِ الخيارَ للأساتذة، بالتزام تعليق الدروس أو عدمه - - وهذه سابقةٌ خطيرةٌ تنجم عنها محاولةٌ لضرب العمل النقابيّ.
يحاول الإداريّون التذاكي بالقول إنّ العمل النقابيّ غيرُ مرتبط بدواعي الإدارة. وهو ما يذكّرنا بنظريّة "خيارات الشعوب وضرورات الأنظمة." فالسوءُ هو الذي يتخفّى وراء كلّ ذلك، من أجل الالتفاف على العمل النقابيّ، بهدف تمييع الإضراب، وخرقِ صفوف الأساتذة. فكيف تصدر قراراتٌ كهذه عن مجالس الفروع والوحدات، في موازاة قرارات "الرابطة" ومن أجل تفريغها؟
هكذا كانت حسابات الإدارات في وجه أصحاب الإرادات.
وكانت الهيئة العامّة لـ"رابطة الأساتذة المتفرّغين في الجامعة اللبنانيّة" قد أعلنتْ منذ البداية إضرابًا مفتوحًا، مشرعةً بذلك البابَ على معركةٍ نقابيّةٍ لا هوادة فيها مع السلطة، مستعيدةً إجحافًا مزمنًا؛ إجحافًا لا يبدأ مع استثناء أساتذة الجامعة - وحدهم دون سائر فئات الموظّفين - من سلسلة الرُّتب والرواتب، ولا ينتهي عند الوعود ومشاريع القوانين المعجَّلة المكرَّرَة، والمسِّ بمكتسبات صندوق التعاضد الذي يمثّل الأمانَ الصحّيّ والاجتماعيّ للأستاذ الجامعيّ. وكبرتْ سلّةُ المطالب لتشمل مَن استُثنوا من درجات الدكتوراه؛ فـ"الصيف" لبعض دُفعات المتفرّغين، و"الشتاء" لدُفعاتٍ أخرى، تحت سقفٍ واحد! كما شملت السلّة مطلب إضافة السنوات الخمس عند احتساب المعاش التقاعديّ للأستاذ؛ مرورًا بإعادة الاعتبار إلى الحياة الجامعيّة، وما يتّصل بها من قضايا: كالسكن الجامعيّ، والمطاعمِ الجامعيّة، والِمنح، وعودةِ الانتخابات الطلّابيّة، وصولًا إلى استعادة استقلاليّة الجامعة، التي صادرتها السلطةُ السياسيّةُ حين نقلت بعضَ صلاحيّات مجلس الجامعة إلى مجلس الوزراء، وبخاصّةٍ في مجال تفريغ الأساتذة الجدد وتعيين العمداء، وفقًا للمرسوم المشؤوم رقم 42 بتاريخ 29/3/1997.
إعادة تحديد الالتزام السياسيّ
درجت المكاتبُ التربويّةُ للأحزاب على تعيين محازبيها في مرافق الدولة ومؤسّساتها. وتسلّلتْ أيضًا إلى بعض مراكز الجامعة، وبعضِ موجات التعيينات فيها. وتنتظر هذه المكاتبُ من الذين وَفّرتْ لهم حظوتَهم أن يوفّروا لها في المقابل - أيْ في المواقع التي يشغلونها - مراكزَ نفوذ. وهؤلاء، تستكثر عليهم المكاتبُ التربويّةُ أنْ ينهضوا لحقوقهم، وأنْ ينادوا بمطالبهم، وصولًا إلى أنْ يرفعوا شعار "كفّ يد الأحزاب عن الجامعة وعن العمل النقابيّ" من زاوية أنّ الالتزام السياسيّ هو العمل من أجل قضايا الحريّات في المجتمع، لا مصادرة الوعي من قِبل زعيمٍ أو سلطة؛ على أن يؤدّي ذلك إلى إعادة تحديد ماهية الالتزام السياسيّ للأستاذ الجامعيّ.
كيف تصدر قراراتٌ عن مجالس الفروع والوحدات، في موازاة قرارات "الرابطة"
وهذا ما أظهره حراكُ الجامعة، وخروجُ بعض الأساتذة المتحزّبين أنفسهم عن طاعة المكاتب التربويّة. فالحياة السياسيّة والحزبيّة تقوى، ويقوى المجتمع، مع سياسة القضايا، لا سياسة الأشخاص؛ ومع الإرادات الحُرّة، لا التبعيّة. هذا هو الخطاب الذي ساهمتْ في بلورته انتهاكاتُ السلطة لحقوق الأساتذة، وجاء ليكتمل مع وعي الأساتذة بأنّ حقوقَهم ليست منّةً من الزعماء.
بروز حركة طلّابيّة مستقلّة
أهمل أهلُ السلطة حَراكَ الجامعة، وأداروا الظهرَ لـ"رابطة الأساتذة." كما تطفّلَ بعضُ المسؤولين الحكوميين على الجامعة بكلّ وقاحةٍ وصلف: فهذا يريد أن "يربّي" أساتذتَها[1]، وذاك يقترح أنْ يُصار إلى "الحسم من راتب الأستاذ المضرب بقدر أيّام الإضراب،" وآخر "لا يعرف" أصلًا لماذا تُعلَّق الدروس في الجامعة!
إزاء ذلك كلّه، استمرّ الإضراب. ولم تفلح محاولاتُ تدجين الأساتذة، بل زاد عددُ الأساتذة الخارجين على إملاءات المكاتب التربويّة. وتحسّس الطلّابُ واقعَ الأزمة التي تمرّ بها الجامعة، فكانت الفرصة للنظر في واقع الحركة الطلابيّة.
فالانتخابات الطلّابيّة كانت قد عُلّقتْ قبل الإضراب. فلا حركة طلّابيّة راسخة تواكب الحراكَ النقابيّ. ومجالسُ الفروع لا تمثّل الطلّابَ في غياب الانتخابات الطلّابيّة والحياة الديمقراطيّة في الجامعة، ولا صفةَ رسميّةً لها، بل هي أدواتُ ضغط ومراكزُ نفوذ موزّعة حزبيًّا ومذهبيًّا.
هكذا بدأ الطلّابُ يعون أنّ الحياة الجامعيّة لا تتوقّف على نيل الشهادة، وإنهاءِ العام، بل هي تكريسٌ للاستقلاليّة الفكريّة والقرار الحرّ وإرادةِ التغيير. لذلك برزتْ لدى الحركة الطلّابيّة المستقلّة مطالباتٌ بعدم الانتقاص من موازنة الجامعة اللبنانيّة، وصار الطلّابُ هم مَن يدْعون الأساتذةَ إلى اعتصاماتهم.
كلّ ذلك شكّل انطلاقةً واعدةً لحركةٍ طلّابيّةٍ أصيلةٍ تتآلف مع المطالب النقابيّة، وتصون الجامعةَ وحقوقَها الواجبة على السلطة، وتُطلّ بأملٍ على قضايا المجتمع والوطن. وصرنا نقرأ في بيانات تكتّل طلّاب الجامعة اللبنانيّة، والأندية المستقلّة، بيانات بمثل الوعي والجذوة الآتييْن[2]:
"أتَضْرُبون جامعةَ الوطن من أجل سدِّ عجزكم، والتغطية على فشل سلطتكم في إدارة الدولة؟ نحن أبناء الجامعة اللبنانيّة، وليدة النضال الطلابيّ، قد نزلنا اليوم، لاستعادة دورنا التاريخيّ في التغيير، وتقويم المسارات، ولتشريف الإرث المطلبيّ الذي أنشأ جامعتَنا، الصرحَ الوطنيَّ الجامع، وقلبَ الوطن.
"اليوم، قد مسستُمْ بالمتّكأ الوحيد للشعب، بالأمل المتبقّي لشبابٍ يشكّلون غالبيّةَ المجتمع اللبنانيّ. هؤلاء همْ نحنُ، وكثيرون معنا. لذا لن نسكُتَ لكم بعد الآن. فهذا وطنُنا، وهذه جامعتُنا، وسنُصرّ على بناء هذا الوطن وحمايته بعِلمنا وبأرواحنا.
"أمّا الآن، وبعد أنْ عدنا إلى تحرُّكاتنا الطلّابيّة، فإنّنا نؤكّد لكم أنّنا لن نتوقّف ولن نصمتَ أبدًا، إلى حين تحقيق مطالبنا التي سندافع عنها حتى آخر رمق."
إحياء المطالبات بالتعليم العالي المجّانيّ الرفيع
تلتصق بالحركة الطلّابيّة الصاعدة مطالباتٌ بالتعليم العالي المجانيّ الرفيع المستوى. فكلّ طالب مسجّل في الجامعة اللبنانيّة يكلِّف الدولةَ حوالي ٣ ملايين ليرة (ألفيْ دولار) سنويًّا. وفي المقابل، فإنّ طلّاب الجامعات الخاصّة يدفعون من جيوبهم آلافَ الدولارات، وبعض الاختصاصات غيرُ مرخّص ولا مُعترَفٍ به.
أهميّة الجامعة اللبنانيّة تكمن في أنّ شهاداتها هي الوحيدة التي لا تحتاج إلى معادلات. واختصاصاتُها مُعترَفٌ بها في كلّ جامعات الأرض. وشهادة الدكتوراه منها، تحديدًا، مصنَّفَةٌ فئةً أولى. ومن مسؤوليّة الدولة تقديمُ التعليم العالي الرفيع المستوى، والمجّانيّ، عبر تغطية تكاليفه لأكبر عددٍ ممكنٍ من أبنائنا. وهذا ما يمكن أنْ تفرضه الحركةُ الطلّابيّة في المستقبل على السياسات الاجتماعيّة للسلطة.
من مسؤوليّة الدولة تقديمُ التعليم العالي الرفيع المستوى، والمجّانيّ
فلا طريق إلى النهوض والتنمية سوى بمضاعفة الاستثمار في التنمية البشريّة، ورفعِ موازنة الجامعة، لا تخفيضِها كما حصل في مشروع الموازنة الأخير. وعلى الطلّاب أنْ يعوا ذلك: فحقُّ التعليم العالي المجّانيّ الرفيع لأكبر عدد ممكن من أبنائنا اليوم، وغدًا، حقٌّ ينبغي المحافظة عليه، لهم وللطلّاب من بعدهم، ولا يجب المسُّ به تحت أيّ ظرف.
خاتمة
في المحصّلة، واجه حراكُ الجامعة محاولةَ السلطة، بكافّة أطيافها، لإخضاع الجامعة، ولمعاملةِ الأستاذ الجامعيّ كأنّه موظّفٌ في تلفزيون المستقبل، ينتظر مستحقّاته إلى ما شاء الحريري، أو كأنّه مستوزَرٌ في التيّار البرتقاليّ (فيُوقِّع على بيان استقالته قبل تعيينه!)، أو كأنّه لا يقضي أمرًا بمحض إرادته الفرديّة بل بتكليفٍ أو توجيهٍ من "التعبئة التربويّة" ومكاتبِ الأحزاب.
وأظهر حراكُ الجامعة دورَ الأستاذ الجامعيّ في مناهضة سياسات الحكومة، وفي فرضِ التعديلات على قانون الموازنة، وإعادةِ ربط الالتزام السياسيّ بقضايا المجتمع والحريّات. وقد عبّرَ أساتذةُ الجامعة في حَراكهم عن استقلاليّة، وعن قرارٍ متفكّر وناقد. وأهلُ الجامعة، أساتذةً وطلّابًا، هم مَن يتصدّوْن اليوم لسياسات السلطة، الاجتماعيّة والماليّة. فليستمرّ في الجامعة اللبنانيّة هذا الحراكُ العارمُ في وجه الطغمة الحاكمة في لبنان، وليتعمّم انطلاقًا منها!
كما أظهرالحراك أنّ ثمّة حركةً طلابيّةً مستقلّة تسبق وتنافس عملَ مجالس الفروع. ومن أهمّ ما يجب العملُ عليه هو إعادة الانتخابات الطلّابيّة إلى الجامعة.
حراكُ جامعة الوطن نقطةٌ مضيئةٌ وسط حال غياب الوعي العامّ لدى أكثر فئات الشعب، التي لم تحرّكْ ساكنًا لرفض ضرائب الموازنة ومصادرة الحقوق.
لقد قالت الجامعة كلمتَها اليوم، وكسرَتْ شوكَة أهل السلطة، ومنعتْ أحزابَ السلطة من خرقها نقابيًّا. إنّ مصلحة الجامعة أوّلًا وفوق يد الأحزاب تمهيدًا لغدٍ أفضل؛ غدٍ تكون فيه مصلحةُ المواطنين أوّلًا وفوق اعتبارات الناهبين.
الجامعة هي النقطة المضيئة في ليل هذا النظام. وحراكُ الجامعة هو ومضةُ الأمل وسطَ تخثّر السياسيين واستسلامهم - - أكانوا وزراء محتالين، أمْ نوّابًا مخادعين. إنّ وعودَكم كاذبة، ووصايتَكم مردودة. وأنتم سببُ نَقمة الأساتذة، وقلقِ الطلّاب، واغترابِ الفكر والإنسان.
وإلى"رابطة الأساتذة المتفرّغين في الجامعة اللبنانيّة،" بكافّة الأطياف وتنوّع المشارب، كلّ التحيّات النقابيّة، والدعم التامّ، حتى تحقيق مطالب أهل الجامعة، أساتذةً وطلابًا، اليوم وللأجيال القادمة.
هكذا تُستخلص الدروسُ، ولو عُلِّقت.
بيروت