روما 1350. هرع المؤمنون إلى كنائس مدينتهم الثكلى يطلبون معجزةً من السماء، بعدما ضاقت الأرضُ بالموتى، وفتك الطاعونُ بأجسادِ الناس وعقولِهم، وراح الزمانُ يثبِّط العزائمَ ويقلّل الحيلة. لم يكن الطاعونُ متلبّسًا روحَ آريوس، المهرطقِ الأكبرِ الذي استوجب "الحرمَ الكنسيَّ" وسنّ "قانون الإيمان،" فسقط الناسُ صرعى النزاعِ بين أن يكونَ للملك طبيعتان أو طبيعةٌ واحدة. ولا شابهتْ زمنَ الطاعون الأعوامُ العجافُ وما تلاها من دماءٍ مسفوكةٍ على امتداد تراب الأمبراطوريّة الرومانيّة المقدّسة، ومن أرواحٍ أُزهِقتْ على عتبة وستفاليا ومشارفِ جبال الألب الغربيّة.
روما 2020. هرع البابا وحيدًا في شوارع روما. لم تكن ساحةُ بطرس تتّسع يومًا لكلّ هذا الفراغ والقلق. لحقتْه الكاميرا، ولحقه المصوِّرُ الذي بقي على مسافة مترٍ ونصفِ المتر من خليفة بطرس. لم تمرّ في خاطر البابا قصّةُ المسيح وهو يشفي الأبرصَ، ولا خاطرةُ الرسول متّى عن المرض والمرضى. كان البابا يفكّر في الطاعون الذي فتك بالعالمِين، ثمّ شفى الملكُ مَن صلّوا له في إحدى الكنائس العجائبيّة. وصل البابا أخيرًا أمام المذبح، فمَثَلَ بين يدَي الملك وجثم على ركبتيْه. لم تمرَّ في خاطر المصوِّر أن يَطرقَ بابَ كاتدرائيّةٍ غير تلك التي شفت الناسَ من الطاعون؛ فمن ذا الملكُ الذي يشفي اليومَ مِن الفاتح التاجيّ المجهريّ الذي ما من عاصمةٍ لم يبلغْها؟
قم 2020. كانت طريقُ قم تمرّ أيضًا في روما. فأطاح كوفيد بشروط الصلاة والجماعة واستحبابِهما. غَسَلَ فَضْلَ صلاة الجمعة، وتَرَكها لا تصحّ جماعةً. قال: "ويلٌ للمصلّين الذين هم..." ولم يكملْ جملتَه. فتفرّق المصلّون الذي هم على صلاتهم مجتمعون. لا تُشَرَّعُ الجماعةُ، مثلها مثل الصلوات النوافل. وأضاف كوفيد: "ليس الإطلاقُ قائمًا على الأحوط..." ثم نظر إلى الإمام، فلم يأتمنْ وسيلتَه ولم يمضِ في سبيله. وكما في عاصمة الكثلكة، كذلك في عاصمة التشيّع: تخلو المعابدُ من الأقدام والحناجر التي تؤمُّها في الشدائد. الخلاص هذه المرّة ليس من عند الله ولا يؤتى به جماعةً.
***
الفاتح كوفيد التاسع عشر التاجيّ المجهريّ دكتاتورٌ يدفع إلى العَلمانيّة من حيث لا يدري. وككلِّ المجانين، فإنّه يشير إلى الواقع بجذريّةٍ، وينظر إلى الوقائع بحدّة. "تريد أن تصلّي؟ صلِّ إذًا في البيت لئلّا تنتقلَ العدوى!" لم يقلْ ما هي العدوى. قد تأتي على شكل عظةٍ صبيحةَ يومِ أحد، أو مصافحةٍ داهمةٍ بين أيِّ اثنيْن، أو خطبةٍ منافقةٍ ظهيرةَ يوم جمعة، أو تأتي على شكلِ مُناولة. لا أبلغَ مِن صمتِ المعابد المقفرة، وعجزِها عن إنقاذ المؤمنين من البلاء، بل عجزِها عن المحافظة على وهم الفضيلة والاستحباب نفسه. لقد حقّق الدكتاتورُ "العلمانيُّ" غايتَه بعد نيّفٍ وألفٍ وأربعمئة عامٍ في قم، وجال تيهًا حول قبب المتنوّرين في روما.
في حاشية كوفيد الفاتح، ثمّةَ مَن أسرَّ في أذنه: "ستبقى يا صاحبَ التاج المجهريّ سلطانًا متواريًا، متراميًا، متعاليًا. فلا تخرجْ إلى هؤلاء العبيد بكلمة. فمقدورُهم أن يتلقّفوا المعاني التي تفوتهم كلّما انصرفوا عنها إلى لغو الكلمات."
***
ودُونَ الفاتح كوفيد التاسع عشر التاجيّ المجهريّ الدكتاتور "العلمانيّ" وحاشيتِه الممالئة، طبقةٌ من العلماء الذين يراقبونه عن كثب، ويتعقّبون فتوحاتِه بطرقهم الخاصّة ومناهجِِهم وأدواتِهم. يقومون بتعداد الإصابات، ويضعون الدوالَّ الرياضيّةَ لتتبّع تسارع الإصابات أو تباطُئِها. تقول الرسومُ البيانيّةُ إننّا في مرحلة الاحتواء، ثم تترقّب الانتقالَ إلى مرحلة الانتشار. تعطي المقرِِّرين فرصًا جدّيّةً لتقليص الخسائر. فالمتغيِّراتُ معروفة، ومن ضمنها: النظامُ الصحّيّ الخاصّ بكلّ مجتمعٍ وإمكاناته، والنِّسبُ الاحتماليّةُ للإصابة. وهذه النِّسب تتأثّر باللقاءات التي ينبغي تقليلُها إلى حدّها الأدنى.
ثمّة طبقةٌ من العلماء، بلا تيجان ولا جببٍ ولا عمائم، يتعقّبون التاجَ المجهريَّ لرفع مناعة الفرد
وثمّة طبقةٌ من العلماء، بلا تيجان ولا جببٍ ولا عمائم، يتعقّبون التاجَ المجهريَّ لكوفيد بعدساتِ مكبِّراتهم في المختبرات والخرائط الجينيّة. يعملون ليلَ نهارَ لعزل الظروف المخبريّة والجسديّة التي تؤمّن رفعَ استعدادات مناعة الفرد الشخصيّة لتعرُّفِ كوفيد والتعاملِ معه. طبقةُ العلماء الرياضيين، وخبراء الأحياء والصحّة والأطبّاء، هم أكثرُ مَن يتعاطى مع كوفيد بعَلمانيّةٍ سلسةٍ منفتحة. قبلَهم، كان بعضُ ضحايا كوفيد في لبنان يَستقدمون - للوقاية منه ولمحاربته - السواترَ الترابيّةَ من أرضِ قدّيسِ الموارنة إلى المستشفيات وغُرفِ العزل. فما كان منه إلّا أن تزايدَ وتسارع. هذه طبائعُ الدكتاتوريين! ولكنّ الأطبّاء أدخلوا الترابَ إلى مَن طلبه، وانصرفوا عنه ليتابعوا عملًا آخر - - عملًا لا تدْخلُ فيه القداسةُ بل المثابرةُ، ولا يكشفه الغيبُ بل يقدِّره العقلُ ويقبله المنطقُ وتُثْبته التجربة.
وفي المقابل، كان ضحايا آخرون يعدِّدون النوائبَ التي حلّت بهم، ويستذكرون مصائبَ الماضي ليأتلفوا مع ما يصيبهم اليوم. لم يُفْردوا لكوفيد التاجيّ المجهريّ أيَّ اهتمام، بل تطلّعوا إلى تعجيل الفرَج.
***
مع مرور الوقت، سيتوسّعُ نفوذُ الفاتح كوفيد التاسع عشر، وسينفلش أكثرَ فأكثرَ بين الناس جميعًا. سيصبح الدكتاتورُ "العلمانيّ" أكثرَ ديمقراطيّةً مع اتّساع رقعة المصابين وتزايُدِ أعدادهم. وسيتعامل معه الناسُ كما يتعاملون مع سائر الأوبئة، كوباء التعصّب الدينيّ.
ماذا قال لهم الفاتح كوفيد التاسع عشر من وراء قلقِ البابا وغضبِ الإمام؟
قال لهم إنّ الدين تجربةٌ فرديّة، ببعدها الروحيّ أو الوجدانيّ. وقال لهم إنّ الدين للناس، لا للمؤسَّسات. وقال إنّ الدّين المكرَّس في الكتب لا يعدو أن يكون كلماتٍ، وإنّ المعاني خارج الكتب: المعاني في الحياة. وقال إنّ المؤسّسة الدينيّة غيرُ معنيّةٍ بالخلاص؛ لذلك لا يمكن أن يكون الإيمانُ إلّا فرديًّا. فالعِلم، بالرغم من خلطه بالعَلمانيّة، إيمان. العَلمانيّة (كما يُصرّ المطران على فتح العين في سياق نحويّ ومعنويّ فريد في تلازُمه)[1] تعطي العالمَ والإنسانَ قيمةً في ذاتهما، من دون اللجوء إلى قيمٍ أخرى (الله، الروح،...)، ولكنْ أيضًا من دون رفض هذه القيم الأخرى أو محاربتِها. كان كوفيد يحثّ على رفض الخرافات الدينيّة ومحاربتِها في بدء فتحه مدنَ المعمورة وسقوطِها تباعًا تحت قبضته؛ في حين أنّ النتيجة ذاتَها يمكن بلوغُها من دون إضافة الرفض والمحاربة، لكنْ مع ضرورة فصل الخرافة ومشتقّاتها عن المجتمع وآليّاتِه.
***
لقد فتح كوفيد وأقرانُه وأترابُه وخلّانهُ، وإنْ عن غير قصد، مساراتٍ لأنواعٍ عدّةٍ من العَلمانيّة، وتحديدًا:
- العَلمانيّة الشخصيّة، بما هي استقلالُ المواطن عن انتمائه الطائفيّ ضمن المجتمع؛
- والعَلمانيّة السياسيّة، بما هي استقلالُ الممارسةِ السياسيّة عن الانتماء الدينيّ والطائفيّ، والدولةِ عن المؤسّسة الدينيّة؛
- والعَلمانيّة الوظيفيّة، بما هي استقلالُ الوظيفة الحكوميّة عن الانتماء الطائفيّ، أيْ عدمُ ربط أيّ وظيفةٍ بأيّ طائفة؛
- والعَلمانيّة المجتمعيّة، بما هي استقلالُ المجتمع المدنيّ بأفراده وتجمّعاته عن المجتمع الدينيّ؛
- والعَلمانيّة المؤسّسيّة، بما هي استقلالُ المؤسّسات التربويّة والصحّيّة والاجتماعيّة عن الطوائف ومجالسِها وسلطاتِها؛
- والعَلمانيّة القانونيّة، بما هي استقلالُ قوانين الدولة عن الشرائع الدينيّة؛
- والعَلمانية القيميّة أو الثقافيّة، بما هي استقلالُ الأخلاق والقيمِ الإنسانيّة (كالحرّيّة والعدالة والمساواة والديمقراطيّة والسلام) عن الأطروحة الدينيّة - - من دون أن يَحول ذلك دون أن تؤكّدها هذه الأخيرةُ.
***
لكنّ الحقيقة هي أنّ الفاتح كوفيد التاسع عشر التاجيّ المجهريّ ليس دكتاتورًا. إنّه الفراغُ المتصاعدُ كموجات الغضب عند ارتطام العلم والثقافة والوقاية بصناعة الخوف والخرافة والتهوّر. إنّه محطّةُ صدام العَلمانية بالتعصّب الدينيّ، وإحدى نقاط افتراقهما الكثيرة.
بيروت
[1] علي خليفة، المطران والشيطان: قراءات ومحطّات في تجربة غريغوار حدّاد (بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنّشر، 2017)، ص 67 - 68.