شكّل الصراعُ المستمرّ بين المدينة والصحراء في التاريخ العربيّ أساسًا لنظريّات الكثير من المفكّرين ــ بدءًا من ابن خلدون في القرن الرابع عشر، إلى المستشرقة الإنجليزيّة غرترود بيل، والمؤرخِّين البريطانيّ أرنولد تويْنبي، والأمريكيّ مارشال هودجسون، واللبنانيّ كمال صليبي في القرن العشرين. فقد رأى هؤلاء في جدليّة هذا الصراع مدخلًا إلى فهم تاريخ المنطقة ونشوء دولها وإمبراطوريّاتها واضمحلالها، وأساسًا لفهم تكوّنِ ثقافاتها السياسيّة التي تناوبتْها دولٌ قَبَليّة أو عسكريّة، ولفهمِ تعثّرها في ولوج عصر الدولة الوطنيّة بعد استقلالها (إذ لم تتجاوزْ دولُها الحديثة ــ عدا مصر ــ كونَها "قبائل بأَعلام،" على حدّ تعبير الدبلوماسيّ المصريّ الراحل تحسين بشير).
ولكنّ التركيز على ثنائيّة الصحراء والمدينة، على أهمّيّته، يُغفل عاملًا آخرَ مهمًّا في تكوّن ثقافات العالم العربيّ الحديثة، ولا سيّما المطلّة على البحر. فمدنُ البحر تختلف اختلافًا كبيرًا عن مدن الداخل، التي تختلف بدورها عن مدن الصحراء، في ثقافتها واقتصادها وتركيبة سكّانها وانفتاحها على الآخر. وإذا نظرنا إلى التحوّلات العميقة التي طرأتْ على ثقافات العالم العربيّ منذ بدء الاحتكاك الحداثيّ بالغرب في القرن التاسع عشر، لاحظنا تراجعًا حادًّا لـ "ثقافة البحر" على حساب "ثقافة الصحراء" في مناحي الحياة كافّة. وقد بانت ملامحُ هذا التراجع النهائيّةُ مع انهيار منظومة الدول الاستبداديّة القوميّة مع "الربيع العربيّ" الملتهب، ولو أنّ بداياته تعود إلى زمنٍ أسبق.
جاءت الحداثةُ عن طريق البحر. ففي البداية كانت معظمُ التأثيرات الأوروبيّة تُصفّى عبر استنبول، قبل أن تتلقّفها المدنُ العربيّة الكبرى عن طريق موانئها المطلّة على البحر الأبيض المتوسّط. أمّا مدنُ الخليج واليمن الساحليّة فقد تلقّت بعضًا من ويلات الحداثة الغربيّة ومنتجاتها، بدرجة مباشرة، عبر الأساطيل الأوروبيّة التي كانت تتسابق لاحتكار طريق تجارة الهند وشرق آسيا، في القرنيْن السابع عشر والثامن عشر. أمّا الاستثناءات القليلة فحصلتْ بفعل الاحتكاك المباشر بين الكنائس العربيّة في جبل لبنان وسورية وفلسطين من جهة، والمنظومة الكنسيّة الأوروبيّة من جهة أخرى، وأثمر إدخالَ بعض مخترعات الحداثة إلى أرض العرب. ثم جاءت غزوةُ ناپوليون بوناپرت مصرَ في نهاية القرن الثامن عشر، فصفعت العالمَ العربيّ بجبروتها الحداثيّ، وانسالت من ذيولها أوّلُ نهضةٍ عربيّةٍ على يد محمّد علي باشا الألبانيّ، الذي أراد بناءَ دولة قويّة حديثة في مصر، واستخدم في سبيل ذلك كلَّ الأدوات والخبرات التي أتيحت له (بطريقة فيها الكثيرُ من الاستبداد). لكنّ محمّد علي تراجع تحت ضغط تحالفٍ أوروبيّ إمبرياليّ تهيّبَ من صعود دولةٍ فتيّةٍ في الشرق تجعل هدفَ تقاسم أراضي السلطنة العثمانيّة ــ رجلِ أوروبا المريض ــ صعبًا.
مدنُ الساحل في مصر وسورية كانت أوّلَ من استفاد من الانفتاح الذي بدأه محمّد علي. فكان أن شهدت الإسكندريّة، وبشكلٍ أقلّ القاهرة، ثمّ بيروت في الجيل اللاحق، ويافا بدرجةٍ أقلّ بعد ذلك، ظهورَ ثقافةٍ جديدةٍ عُرفتْ في العالم العثمانيّ بثقافة الـLevant ، أو مكان شروق الشمس (من منظور أوروبا)، وشاركتْ فيها مدنٌ عثمانيّة أخرى غيرُ عربيّة، كإزمير وسالونيكا وإستنبول نفسها. هذه الثقافة كانت هجينةً وكوزموپوليتانيّةً بالضرورة، وقد أنتجتْ بعضًا من أجمل نماذج الفنّ والأدب والعمارة "الهجينة" في المدن العربيّة الساحليّة، وبخاصّةٍ في مصر، ولكنْ أيضًا في بيروت ويافا والرباط وطنجة. كوّنَ الأجانبُ، الذين جاؤوا إلى مدن المشرق للتجارة والإقامة، وأبناءُ الأقلّيّات العرب، وبشكلٍ خاصّ المسيحيّون، معظمَ حاملي هذه الثقافة الجديدة، الغربيّةِ توجّهًا ورطانةً ومظهرًا وامتيازاتٍ، والعربيّةِ ذوقًا وعاداتٍ وقلبًا ومكانَ إقامة. ولكنّ رقعة هذه الثقافة تعدّت الأقليّاتِ والمستوطنين لتدخل حياةَ الطبقات المرفّهة في المحيط الإسلاميّ ولتطْبعَها بسرعةِ الحياة التي عاشها اللفانتيون في لدن المجتمعات العربيّة ومتعتها. بل أضحت "هجانةُ" هذه الثقافة وانفتاحُها علامةً على أكثر المدن العربيّة كوزموپوليتانيّةً، بيروت، التي استحوذتْ على الثقافة اللفانتيّة مع أنّها جات إليها متأخّرةً: لبنَنَتْها، ومن ثمّ عرّبَتْها عندما جاء المدينةَ المثقّفون والسياسيّون العرب الفارّون من طغيان الحكم العسكريّ في بلادهم في ستّينيّات القرن العشرين، ومازالت تحتفظ ببعض مظاهر ثقافة الانفتاح هذه على الرغم من أوجاع الحرب الأهليّة التي خاضتها في الربع الأخير من القرن العشرين ومن طغيان البترودولار الخليجيّ على اقتصادها وبنيانها وترفيهها.
حلّت محلَّ الثقافة اللفانتيّة ثقافةٌ ابتدأتْ وطنيّة تحاول استيعابَ حدودها الموروثة، ثم أضحت قوميّةً ترى في بلاد العرب كلّها وطنًا واحدًا يجمعه تاريخٌ وثقافةٌ مُشتركان كان للإسلام في تكوّنِهما دورٌ كبير |
خَفَّ وهجُ الثقافة اللفانتيّة بعد زوال الاستعمار الذي استخدمها وسيطًا في تعامله مع الشعوب المستعمَرة. غادر معظمُ اللفانتيّين، الذين لم ينتموا تمامًا إلى بلاد إقامتهم، إلى بلاد شوقهم الغربيّة، حاملين الكثيرَ من ذكرياتهم التي غذّتْ أدبًا لقيَ رواجًا في نهايات القرن العشرين. حلّت محلَّ الثقافة اللفانتيّة ثقافةٌ ابتدأتْ وطنيّة تحاول استيعابَ حدودها الموروثة، ثم أضحت قوميّةً ترى في بلاد العرب كلّها وطنًا واحدًا يجمعه تاريخٌ وثقافةٌ مُشتركان كان للإسلام في تكوّنِهما دورٌ كبير.
أضحت مراكزُ ثقافة الاستقلال والانعتاق عن ربقة الاستعمار وتأثيراته عواصمَ القوميّة العربيّة الصاعدة في النصف الثاني من القرن العشرين، وأعني دمشق وبغداد والقاهرة خصوصًا في زمن البعث وعبد الناصر، التي كانت هي نفسُها عواصمَ الدول الإسلاميّة العظيمة التي أَطّرَت مجدَ العرب في الأزمنة الغابرة.
انتعش بتأثير المدّ القوميّ هذا أدبٌ ومسرحٌ وسينما وشعرٌ وطنيّ وقوميّ عربيّ، وفنّ وطنيّ وحداثيّ يمتح من جذورٍ تاريخيّةٍ إسلاميّة وقبل-إسلاميّة، أطّرها كلّها فكرٌ ينُوس بين الحداثة والأصالة كقُطبَيْ جذبٍ إيديولوجيّيْن كان يصْعب توافقُهما. ولكنّ نشوءَ "إسرائيل" وزرعَها في قلب العالم العربيّ، وانتصاراتِها المتتالية على الإرادة العربيّة، وصراعاتِ الحرب الباردة بين المعسكريْن الرأسماليّ والشيوعيّ، بالإضافة إلى ضعف الفكر السياسيّ والإدارة الدولتيّة في الدول العربيّة، التقدّميّةِ والرجعيّةِ على حدّ سواء؛ كلّ هذه العوامل أدّت إلى عواقبَ ثقافيّةٍ جمّة. فهي قد أجّجتْ تناقضاتِ القوميّة مع الوطنيّة أو "القُطْريّة" (كما أسماها البعثيّون)، وأجّجتْ تناقضاتِ الحداثة (الغربيّة أصولًا ومنبتًا) مع الأصالة أو التراث (المتلبّس بتاريخٍ ذهبيّ ولّى ومضى). وأدّى ذلك كلّه إلى إغراق الحياة الثقافيّة العربيّة في صراعاتٍ دونكيشوتيّة تسبّبتْ بالمزيد من الاستقطاب بين خطابيْن: خطاب الانفتاح على الحاضر من جهة، وخطاب العودة إلى الماضي العربيّ عمومًا (ولكن المُطعّم بهويّةٍ إسلاميّة معتدلة) من جهة أخرى.
جاءت هزيمة حزيران ١٩٦٧ لتثبتَ هشاشة الادّعاءات الحداثيّة التي روّجتْ لها أنظمةُ الانقلابات العربيّة (التي كانت في حقيقة الأمر أنظمةً متجذّرةً في ولاءاتٍ ما قبل حداثيّة قبليّة)، ولتسبّب إحباطًا جيليًّا كالحًا لمثقّفي الستّينيّات الذين استكانوا لادّعاءات الحداثة المنقوصة تلك قبل أن تصفعهم الهزيمةُ على وجوههم. ثم قامت الحربُ الأهليّة اللبنانيّة عام ١٩٧٥ لتُغرقَ أكبرَ مركز عربيّ منفتِح على "ثقافة البحر" في حروب متوحّشة صغيرة طوال خمسة عشر عامًا كانت كفيلةً بمحو رصيد اليسار العربيّ ومنظمة التحرير الفلسطينيّة وقدراتهما معًا، وبخاصّة بعد سقوط الاتّحاد السوفياتيّ عام ١٩٩٠. ولمّا أتت ثورةُ الخمينيّ الإسلاميّة في إيران عام ١٩٧٩، وحصل الغزوُ السوفياتيّ لأفغانستان، وصعدتْ حركاتُ الجهاد الإسلاميّ ضدّه في السنة نفسها، مال الميزانُ باتّجاه الفكر الأصوليّ المحافظ، الذي أضحى محازِبًا ومحارِبًا في الآن نفسِه، وأصبح له ــ بالإضافة إلى دُعاتِه ومفكّريه ومؤيّديه ــ مموّلون أغنياءُ قادرون على تثبيت قدميه في المجتمع وفي ساحات الصراعات الخطابيّة والفعليّة.
قَدِمَ معظمُ هؤلاء المموّلين الجدد من بلاد الثراء النفطيّ، الذي تسارع تدفّقُه في منتصف سبعينيّات القرن العشرين إثر حظْر النفط العربيّ احتجاجًا على وقوف الغرب بشكل سافرٍ مع "إسرائيل" في حرب العام ١٩٧٣ وصعود أسعار النفط صعودًا غير مسبوق. منح الثراءُ النفطيُّ ثقافةَ الصحراء قوّةً وتأثيرًا بعيدَي المدى لم تكن تمتلكهما بحكم تقوقعها على محيطها الفقير قرونًا طويلة. ولم تقتصر قوّةُ النفط على المحافظة على ثبات هياكل الحكم والاجتماع التقليديّة في معظم البلدان العربيّة النفطيّة (وإنْ كانت قد سمحتْ أيضًا بظهور ظواهر غريبة كحكم القذافي في ليبيا وصدّام حسين في العراق)، بل تعدّت ذلك إلى التغلغل في النسيج الاجتماعيّ والثقافيّ الواهي للبلدان العربيّة الفقيرة، لتدمغَها بمظاهر "ثقافة الصحراء" المحافظة تديّنًا ومظاهرَ ووجهاتِ نظرٍ، وذلك مع عودة جحافل العاملين في بلدان النفط إلى بلدانهم الأصليّة، ومع تسرّب الثراء النفطيّ المغلّف بأصوليّةٍ محافظةٍ إلى هذه البلدان العربيّة المهزومة والمهزوزة والمحكومة من قبل عسكريّين أجلاف غطّوا عوراتِهم بأوراق توتٍ حداثيّة مزيّفة. ترسّختْ في هذا المنعطف قوّةُ المدارس الفكريّة المحافظة، وبخاصّةٍ تلك التي جاءت من أكثر المدن العربيّة صحراويّةً في السعوديّة وليبيا، وتوسّع مدى تأثيرها لينافسَ الخطابيْن الحداثيّ والقوميّ العربيّ اللذيْن كانا يترنّحان بفعل تناقضاتهما الداخليّة وبعد سلسلة الضربات الكبيرة التي أصابتهما داخليًّا ودوليًّا.
توارتْ مُعطياتُ الحداثة، التي اكتسبها العالمُ العربيُّ خلال قرنيْن من الاحتكاك بالغرب والتأثّر بمقولاته ومبادئه، خجلًا من عثراتها، وتراجعتْ أمام طغيان قِيَم ثقافة الصحراء البتروليّة وقوّة شرائها الدولاراتيّة |
ولم يساعدْ تغوّلُ أنظمة الحكم العربيّة الجمهوريّة وتحوّلُها إلى دكتاتوريّاتٍ وراثيّةٍ مستبدّة في مقاومة المدّ الإسلاميّ الأصوليّ ذي الفكر المحافِظ، بل أسهم في توسّعه وانتشاره على الرغم من القمع الوحشيّ الذي جابهت به تلك الأنظمةُ كلَّ مَن اعترض طريقها أو انتقد طريقتها، إسلاميًّا كان أو غير إسلاميّ.
اليوم، مازال الشدّ والجذب قائمًا بين "ثقافتَي البحر والصحراء" في العالم العربيّ. ولعلّ دُبَي هي أكثرُ النماذج وضوحًا عن الصراع القائم بينهما، ببهرجها وثرائها وارتباطها العميق بالنيوليبراليّة العالميّة وبنظام التمويل الدوليّ، على الرغم من كون أهلها متديّنين ومحافظين مظهرًا ومَخبَرًا. وكذلك يمكننا أن نرى تأثير الصراع بين هاتين الثقافتين في بيروت وتونس والدار البيضاء وغيرِها من مدن السواحل ربّما، وإنْ كانت هذه المدن في مظهرها أكثرَ حداثةً من مدن العرب الأخرى. ولكنّ الكفّةَ التي ابتدأتْ بالمَيَلان لصالح "ثقافة الصحراء" بكلّ مظاهرها الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والجندريّة قبل عقديْن، مازالت تميل في الاتّجاه نفسه وبقوّةٍ وعنفوانٍ جديدَين مؤخّرًا. وقد توارتْ مُعطياتُ الحداثة، التي اكتسبها العالمُ العربيُّ خلال قرنيْن من الاحتكاك بالغرب والتأثّر بمقولاته ومبادئه، خجلًا من عثراتها، وتراجعتْ أمام طغيان قِيَم ثقافة الصحراء البتروليّة وقوّة شرائها الدولاراتيّة. ولعلّ هذا التغيّر أن يسهم في تفسير السهولة التي انزلقتْ بها أغلبُ مجتمعات "ثورات الربيع العربيّ" في الآونة الأخيرة باتّجاه تديُّنٍ متشدِّدٍ وقروسطيٍّ ومعادٍ للحداثة عضويًّا؛ تديّنٍ كانت التربةُ قد هُيِّئَتْ له خلال ثلاثة عقود.
بوسطن