كانت تَسْعد بسماع أغاني أمّ كلثوم ومحمد عبد الوهّاب. وكانت أغنية الأخير، "النهر الخالد،" هي المفضّلة لديها. لم تكن تعترض على مشاهدة الأفلام أو الأغاني على شاشة التلفاز. أمّي، الآن، لا تستمع إلى الأغاني، وتشاهد برامجَ الطبخ المصريّة، أو الصلاةَ في المسجد النبويّ في المدينة المنوّرة، ولا تنام إلّا على صوت القرآن الكريم. أمّي، كفلسطينيين كثُر، لا تعرف عن الإسلام إلّا أركانَه الخمسة، وما سمعتْه من واعظةٍ في مسجد كان قريبًا من بيتها القديم.
عدتُ إلى القدس بعد 18 عامًا من الغربة في الولايات المتّحدة. الكثير من الأشياء لم تعد كما أذكرُها، كما كانت، كما يجدر بها أن تكون. وكالغريبة في أرضها رحتُ أنقّل عينيَّ وحواسّي حول اليوميّات الفلسطينيّة:
أسير في الشوارع، وأتنقّل بين القاذورات. يسير الكثيرُ من الناس في الطرقات، وكلُّ ما لم يعد يلزمهم يرمونه على الأرض؛ لا فرق بين كبير وصغير أو رجل وامرأة: جميعُهم يرتكب هذا في حقّ شوارع وطنٍ يضحّي أجملُ شبابه بحياتهم من أجله.
وإذ أسير أواجه أحيانًا مشكلةً ثانية: أن أُقْنع صِبْية بألّا يجعلوني عرضةً لتعليقاتهم السخيفة لكوني غير محجّبة. وحين احتججتُ صارخةُ، نظر إليّ رجالٌ ونساء كانوا في المنطقة بصمت؛ بل أحسستُ أنّ في نظرتهم لومًا.
لم تكن هناك فتاةٌ واحدةٌ محجّبة في مدرستي في الصغر. الآن، تمتلئ الشوارع بفتياتٍ محجّبات. لا أعلّق على قراراتهنّ وخياراتهنّ، لكنْ يؤْلمني أن أرى بعضَهنّ يسرن كالأشباح في الطرقات خوفَ لفتِ نظر الشبّان إليهنّ. متى صرنا كذلك؟ إلامَ نبقى خائفين وخائفات من أنفسنا؟
وأتنقّل بمتعة الحنين في طرقاتٍ عدوتُ فيها وأنا صغيرة: في شوارع القدس، وبعض مدن الداخل المحتلّ عام 1948. ألتقطُ الصور، وأبثّ فيديو حيًّا ليرى رفاقي في الخارج جمالَ البلاد. لكنْ، بين الفينة والفينة، أقرأ ما يشعرني بمرور الهواء في شعري المكشوف؛ فعلى الحيطان، حيث كانت شعاراتُ الثورة قبل أعوام، تنتشر اليوم ملصقاتٌ دينيّة تدعو أهلَ البلاد إلى التقرّب من الله واتّباع تعاليمه: "صلاتُك قبل مماتك،" "حجابُكِ أختاه،" و"تقرّبك إلى الله هو سرّ سعادتك،" و"سورة الفاتحة تشفي من كلّ الأمراض"! أقرأ ولا أصدق أنّ هذا صار هاجسَ بعض الناس في بلاد تحت الاحتلال!
وكأنّ ما سبق لا يكفي! فقد رُفِعتْ، في بعض دكاكين القدس والضفّة الغربيّة، الأعلامُ التركيّة دليلًا على دعم الرئيس التركيّ إردوغان. لماذا يا إخوان؟ يجيب بعضُهم: "لأنّه خليفة المسلمين، والقائد الأوحد الذي يستحق الاحترام!" وإن ذكّرتموهم بأنّ لتركيا أمتنَ العلاقات مع دولة الاحتلال، وأنّها تُجري معها مناوراتٍ عسكريّةً مثلًا، يأتيكم الجواب الفذّ: "هذا تكتيك سياسيّ!"
حقًّا يصعب عليّ أن أفهم! أقدّر، بالغَ التقدير، بطولاتِ التصدّي لاقتحامات المسجد؛ لكنّ استكانة البعض إلى الدفاع عن مسجدٍ فقط، بدلًا من الدفاع أيضًا عن أرض ومنازل وجامعات ومدارس وبشر، تخيفني. أشياء كثيرة باتت تخيفني أيضًا. سماعي، مثلًا، لكلمة "روافض،" على لسان "مجاهديْن" مذهبيّيْن في وصفهما للشيعة، "أعداءِ الأمّة الإسلاميّة، المجوسِ الذين يريدون بسط سيطرتهم على أراضي المسلمين،" أرعبني. ماذا يحلّ بنا؟
صار في شعبي نوع عجيب من "المؤمنين": يحجّون إلى بيت الله الحرام، ويؤدّون الطقوس والشعائر، ولكن من دون أن يترك ذلك أيَّ أثرٍ في أخلاقهم وممارساتهم. جارٌ لي، أدّى فريضة الحجّ، وحين قرّر تنظيفَ منزله، ألقى بلافتة الترحيب بعودته من الحجّ في الشارع، وكأنّ النظافة لم تعد من الإيمان. وحين اعترضتُ، نفى أن يكون هو الفاعل.
هل الأمور محصورة على نطاق ضيّق؟ أتمنّى ذلك. لكنْ، في مخيّم قلنديا، عمد شبابٌ من أحد التنظيمات السياسيّة الكبرى إلى جَلْدِ شابّ لأنّه تعرّض لفظيًّا لفتاةٍ من المخيّم! أكان هذا الشكل من العقاب مرتبطًا بكونها محجّبةً؟ ولو لم تكن محجّبة، أكانوا سيعاقبونه بهذه الطريقة المخيفة؟ أمْ أنّهم كانوا سيلومونها على "سفورها"؟
أحبُّ هذه البلاد. وعدتُ إليها بعد غربة أعوام طويلة، وخضتُ معاركَ قانونيّةً لأبقى. لكنّني أخافُ عليها، وأخاف على ذاكرتي التي تُبقي فيّ جذوةَ الأمل متّقدةً رغم كل شيء.
تتجوّل في رام الله القديمة، ذات الأغلبيّة المسيحيّة، حيث تنتشر بعض البارات، فتجد أنّ هناك مَن لم يزعجه شيء آخر في الدنيا إلّا هذه البارات، فَنشَرَ ملصقاتٍ في الشوارع تدّعي أنّ أصواتَ البارات تزعج بندقيّة الثائر! وفي الجامعة العربيّة الأمريكيّة في مدينة جنين، قام أعضاء من مجلس الطلبة، وتحديدًا من "شبيبة فتح،" وهي حركة لا تُعرف باتجاهاتها الدينية المتشددة، بإنهاء محاضرة المفكر التونسيّ يوسف صديق لأنه تبنّى، على ما يبدو، تأويلًا غير سائد لبعض آيات القرآن، اعتبروه "إساءةً للإسلام."
وحين قرّرتْ دولةُ الاحتلال منعَ رفع الأذان في فلسطين، صرخ مسيحيّو فلسطين بأعلى صوتهم: "سنرفع الأذان من أبراج كنائسنا." وحين أتى عيد الميلاد المجيد، استهجن بعضُ مسلمي فلسطين احتفالَ الفلسطينيين غير المسيحيين به!
في رام الله، قرّر النائبُ العامّ الفلسطينيّ حظرَ نشر رواية جريمة في رام الله، للكاتب الفلسطينيّ عبّاد يحيى، وبيعها، بحجّة أنّها تخدش الحياءَ العامّ؛ كما أمر كاتبَها بالخضوع للتحقيق. يحيى كان خارج البلاد حين صدر الأمر في شهر شباط، وهو ما يزال غير قادر على العودة إلى عائلته في فلسطين خوفًا من الاعتقال.
الرواية تسرد قصّة ثلاثة رجال فلسطينيين. أحدُهم مِثليّ. الثاني يساكن ابنةَ مدينة غزّة المحافِظة، فتُقتل على يد عائلتها، قبل أن ينهي حياتَه ليلتحق بها. أمّا الثالث فيعيش حياة مثليّة لفترةٍ من الزمن، ثمّ يصبح مهووسًا بامرأة لمحها مرّةً واحدة. وبغضّ النظر عن مستوى الرواية الفنّيّ الذي يحتمل الكثير من النقاش، فإنّ النائب العامّ حاكَمَها وحاكَمَ مؤلّفها، متذرّعًا بأنّ الرواية مخلّة بالآداب العامّة.
قد يكون ما أغضب النائب العام هو وصف الرواية طريقةَ معاملة الشرطة الفلسطينيّة للمثليّ الذي يُتّهم زورًا بقتل ابنة غزّة: في السجن، يتمّ ازدراء الشاب المثليّ وتهديده بالاغتصاب، وبقطع قضيبه غير المفيد كونه لن يستخدم في إنجاب المزيد من الفلسطينيين! (راجع الرواية، منشورات المتوسّط إيطاليا، 2017، ص 200 وما بعد)
باسم الدين والعادات والتقاليد، يتمّ الاعتراضُ على جريمة في رام الله، بينما تُرتكبُ جريمة في فلسطين. هناك هوس متسارع لنشر نسخة موحّدة ومحدّدة من الإسلام بين الفلسطينيين. الإسلام الذي يتمدّد في المجتمع الفلسطينيّ، اليوم، يقتصر على أركان الإسلام الخمسة، وفرض الحجاب على المرأة، وأحيانًا لا يُذكر "الجهاد" إلّا إذا ارتبط بالذود عن المسجد الأقصى ضدّ قطعان المستوطنين الذين ينتهكونه بشكل يوميّ، في حين تمارس السلطة الصمت كأنّها تتبرّأ من مسؤوليّتها.
في أيّام الجمعة من شهر رمضان، يأتي أهلُ الضفّة الغربيّة بالآلاف إلى مدينة القدس للصلاة في المسجد الأقصى. المحظوظون منهم هم من يحصلون على تصريح لدخول القدس، صادرٍ عن دولة الاحتلال. الآخرون يدفعون مبلغًا من المال لـ"سماسرة الجدار،" الذين يأتون بسلالم كي يصعد عليها الشبّان ليقفزوا عن الجدار ويدخلوا القدس.
الإسلام، كما تعلّمناه، يدعو المسلمين، إنْ رأوْا منْكرًا أن يغيّروه بأيديهم. والجهاد على أرض فلسطين فرضُ عين لا يَسقط عنهم. والناس هنا يُشجّعون على الحج، على أن يصلّوا الجمعة ويصوموا رمضان في مدينة القدس، لكنهم لا يفعلون ما يحدّ من غلاء إيجارات البيوت فيها، فيزداد عدد المهجّرين من أهل المدينة. وبعضُهم لا يجد غضاضة في تفضيل البضائع الصهيونيّة على الفلسطينيّة، فيساهم في دعم اقتصاد المحتَلّ.
هناك جريمة تُرتكب في فلسطين، والمسؤوليّة تطاول الجميع: داخل البلد وخارجها. هناك خنوع مقيت ينتشر في القدس والضفة الغربيّة. كيف يرضى البعض بذلّ الاحتلال ويغضّ الطرف عن تخلّي سلطة أوسلو عن المقاومة، بل عن ملاحقتها وسجن أفرادها ومحاكمة أحدهم بعد استشهاده؟ متى أصبح النضال من أجل فلسطين محصورًا بالصلاة في المسجد الأقصى؟ متى أصبح أخذ صورة "سيلفي" أمام مسجد قبّة الصخرة، قمّةَ العمل البطوليّ؟ ومتى أعطيتم أنفسكم الحقّ بأن تستخدموا الدين لتقتلوا الروح الثوريّة في شعبي؟
من أنتم؟ ومن سلّطكم علينا؟
القدس