ــــــ أستاذ نبيل، هل أنصفتك الرواية؟
ــــــ هذا سؤالٌ يشبه سؤالًا آخر: هل أنصفتكَ أمّك؟ لا، هذه الأمّ لم تنصف وليدها. وسأكرّر مع أبي العلاء المعرّي: "هذا ماجناه أبي عليّ" مع استبدال أبي بأمّي؛ فأن تأتي إلى الحياة يعني أن تأتي إلى الألم، وهذه حالُ الكتابة الروائيّة.
الأحرى أن تسألني: هل أنصفك القارئ؟ وعندها سأجيبك: نعم. وسأحكي لك حكاية: كنّا مجموعة في مقهى. تقدّم منّي رجلٌ عجوز يتّكئ على عكّازه، وقال لي: "بعد قراءتي لـرواية موت رحيم، تعلّمتُ كيف ألاعب الوقت. أنا الآن ألعب مع الوقت... أمزح مع الوجع." بالنسبة إليّ هذه جائزة، وهذا إنصاف؛ فلقد غيّرتْ روايتي حياةَ رجلٍ ما.
ــــــ والقراءات النقديّة، هل أنصفتك؟
ــــــ النقد مسكين في بلادنا. هو على الدوام أقلُّ شأنًا من الكتابة [الأدبيّة]، بما فيها الكتابة [الأدبيّة] القليلةُ الشأن. ليس فينا ناقدٌ في حجم عبد الغفّار مكاوي: رجلٌ يقلّب الثوبَ على قفاه، ويأخذ النقدَ إلى سحرٍ يساوي سحرَ الإنجاز الإبداعيّ. لقد التهمت الصحافةُ النقدَ، فعوّمت الكتابةَ المستعجِلة، وعوّمت الناقدَ بـ"القطعة." وهذه مشكلة كبيرة؛ فالنقد الجدّيّ هو إعادةُ خلقٍ للمنتِج الخالق. ولولا ذلك لما تعرّفنا حقيقةَ دستويوفسكي ولا تشيخوف ولا شكسبير. لم أعرف سؤالَ الوجود، "أكون أو لا أكون،" من شكسبير، بل عرفتُه من نجيب سرور وهو يقرأ شكسبير. ولم أعرف سؤال "الله" من دستويوفسكي، بل من كولن ولسون في قراءته لدستويوفسكي. أما الآن فالنقد واحدٌ من اثنين: إمّا ترويجٌ لعملٍ ما، والناقد حينها جزءٌ من "الدبّيكة"؛ وإمّا تقريعٌ لعملٍ ما، والناقدُ حينها واحدٌ من سواطير المسلخ. ولهذا لا ألتفت إلى النقّاد، ولا أطلب ودَّهم أو صداقتهم. وبوسعي القول في كلّ لحظة: "طزّ فيهم."
ــــــ المكان كان هاجسًا للشعراء، وباتَ الآن هاجسًا لكلّ سوريّ. ماذا يعني لك المكانُ واختلافُه؟ وهل يعيش الروائيّ مع شخوصه وفي الأمكنة التي يختارها؟
ــــــ المكان شرط الكتابة الروائيّة. لا يسعني أن أتخيّل "رحيم" في رواية موت رحيم خارج أزقّة دمشق القديمة، ولا "مريم" في رواية بانسيون مريم في مكانٍ مضاءٍ ومفتوح على الشارع. ليس في وسعي أن أشتغل على رواية حانوت قمر إنْ لم تكن في عشوائيّات بيروت وريف الجنوب السوريّ، ويصعب تخيّلُ سرير بقلاوة خارج السجن وأسواره. ليس من كتابةٍ خارج المكان. في المكان ترتدي الشخوصُ أرواحَها.
ــــــ هل تتهاوى الرواية لديك نحو التأريخ، كما فعلتَ في بانسيون مريم؟ وهل تمكن مقاربة وضع السوريّ الآن عبر الرواية؟
ــــــ لنميّزْ بين زمان الرواية والتأريخ. أن تحدِّد روايتَكَ بزمنٍ معيّن فهذا لا يعني أنّك تؤرِّخ. أنا أتحرّك في زمنٍ ما، ولهذا الزمن حدثُه؛ غير أنّ الحدث العامّ ليس أكثر من أرضيّةٍ للرواية، ولن يكون مسرودًا من موقع المؤرِّخ.
ــــــ لِمَ لا تتكلّم عن طفولتك، ولو إشارةً في رواية؟ ألَم تَعِش طفولةً مميّزة؟
ــــــ لا أظنّ أن ثمّة طفولة كطفولتي. أنا الصبيُّ الوحيد في العائلة، وقد عشتُ بين جدّاتٍ ثلاث، وحشدٍ من العمّات الأرامل، ولكلّ منهنّ روايتُها، التي غالبًا ما تنتظر فيها المرأةُ عودةَ فارسها، لتنتهي روايتُها بـ"تفقيس القمل" عن جديلتها. أنا من بيئة مستغرقة في الحكاية والخيال، وترصد مائة ألف ماضٍ لا ماضيًا واحدًا؛ بيئة يتقمّص الناسُ فيها، مع كلّ ولادة، حكايةً جديدةً وأسطورةً جديدةً.
لي طفولة مشبعة بحروب البدو مع الفلّاحين، والدرك مع الناس. أيّة طفولةٍ أعظم من أن تكون إلى جانب الكندرجيّ يوسف عودة، وهو يفتل شاربيْه بالشمع، ويعلّق صورةَ ستالين خلفه لاعنًا هتلر وحزبَ البعث؟ أيّة طفولة أثرى من أن نتفرّج في ساحة القرية على أفلامٍ من إنتاج وزارة الثقافة والإرشاد القوميّ ونحن نقود حميرَنا، فيبدو نهيقُها أشبهَ بموسيقى تصويريّةٍ للفيلم؟! أيّة طفولة أغنى من أن تكون في الحادية عشرة فتجد نفسك عضوًا في الحزب الشيوعيّ السوريّ، لتهرّب جريدته، نضال الشعب؟
ــــــ هل انتظمتَ في الحزب الشيوعيّ؟
|
نبيل الملحم:
روائيّ سوريّ من مواليد 1953. عمل في الصحافة، وأعدّ وقدّم بعض البرامج التلفزيونيّة. كتب للتلفزيون مسلسليْ: ليل الرار (2003) وأرواح منسيّة (2012). صدر له: بوليساريو، الطريق إلى الغرب العربيّ؛ أنا وهو والكلب (مسرحيّة)، سبعة أيام مع آبو. كما نشر روايات، منها: آخر أيّام الرقص، بانسيون مريم، سرير بقلاوة الحزين، موت رحيم.
|
ــــــ نعم. وتركتُه.
ــــــ لماذا؟
ــــــ بسبب "مخطة" الرفيق المسؤول عنّي في التنظيم؛ وكانت عالقة على شاربيه!
ــــــ لماذا كلّ هذا الضحك في رواية سرير بقلاوة الحزين؟ أهو الألم الذي يبعث على الضحك؟
ــــــ لأنّ العنف مضحك. هل تأمّلتَ يومًا "شحّاطات" السجّانين؟ لقد لاحظتُها في أحد فروع التحقيق، وكنت مستدعًى إليه. مجموع السجّانين كانوا يرتدون شحّاطاتٍ من قياسٍ واحدٍ بالغ الضخامة. كانت المفارقة مدهشة ومضحكة؛ فالغباء في لحظةٍ ما مضحك، وأيّ غباء يساوي غباء أن تختار لحياتك مهنةَ جلاّد؟ هذا أمر مضحك حتّى وهو يمزّق فروة رأسك.
ذات يوم دار حوار بيني وبين ضابط استخبارات كبير. قال لي: "لمَ شَعرك أشعث ولا تهتّم بهندامك"؟ أجبته: "لأنّني بوهيميّ..." أجابني بما يلي: "بهيميّ؟ حاشاك." كان عليّ أن أشرح له الفارق ما بين "بوهيميّ" و"بهيميّ." ود. نزار في سرير بقلاوة كان يعرف سرّ الضحك، ويعرف كيف يحوّل هؤلاء إلى مسخرة، وإنْ كانوا قادرين على تحويله إلى جثّة يتدرّب عليها طلبةُ كلّيّة الطبّ. نزار كان عيني التي ترى تلك "الشحّاطات،" ويرى ذلك الضابط الذي لا يميّز بين بوهيميّ وبهيميّ.
ــــــ لِمَ الكتابة ونحن في هذا الخراب؟
ــــــ هذا مثل سؤال: لمَ الجنس ونحن في هذا الخراب؟ وللعلْم، فإنّ نِسَبَ الإنجاب في الحروب تكون عادةً أكثر منها في حالات السلام. الإنجاب فعلٌ مضادٌّ للموت. وكذلك الكتابة.
ــــــ مَن تحبّ من الروائيّين العرب؟
ــــــ صنع الله إبراهيم في اللجنة. حنّا مينا في الشمس في يوم غائم. كلّ ما كتبه جبرا وعبد الرحمن منيف.
ــــــ ماذا عن طقوسك أثناء الكتابة؟
ــــــ أستيقظ مبكّرًا جدًّا، وأبدأ الكتابة قبل أيّ شيء آخر. لا أكتب إلّا وامرأةٌ إلى جانبي. غالبًا ما أقرأ لها ما أكتب. أدخّن كثيرًا، وأقاطع الناس تمامًا.
ــــــ لِمَ عملتَ في الصحافة؟ وما النقاط المشتركة بينها وبين الرواية؟
ــــــ عملتُ في الصحافة لأنّني فشلتُ في أن أكون طبيبًا أو صانعَ أحذية أو ترزيًّا ماهرًا. هذا كلّ ما في الأمر. ونقطة التقاطع بين الصحافة والرواية هي أنّ الصحافة تمنحك فرصة أن تختبر وتجرّب.
ــــــ لِمَ تراجع بعضُ المثقّفين عن مؤازرة الشعب السوريّ في ثورته؟ ماالأسباب التي تجعل مثقّفًا يقف إلى جانب طاغية؟
ــــــ قالها العفيف الأخضر، ونقلتُها عنه: "المثقّف كلبٌ ينبح ولا يعضّ..."
ــــــ هل تعمل على رواية؟
ــــــ أعيد كتابة رواية الله حين يحكي.
ــــــ لِمَ خرجتَ من قلب سوريا في ظلّ الإعصار؟ ألم يكن من الأفضل لو بقيتَ فيها؟
ــــــ خرجتُ بعد خمس سنوات. لا أظنّها مدّةً قليلة. وخرجتُ كي أعود إليها. طردتني ذاكرتي الموجوعة. طردتُ نفسي آملًا في تأسيس ذاكرة جديدة. سوريا أوجعتني. في سوريا عانيتُ الخيانة، وخيباتِ الأمل، وسقوطَ الرهانات.
ــــــ موضة الكتابة الثوريّة بعد الحراك في سوريا، هل تُعجبك؟
ــــــ بماذا سأجيبك مادمت قد أطلقتَ عليها مصطلح "موضة"؟ ها أنتَ أجبتَ.
ــــــ كيف حال الرواية العربيَّة الآن برأيك؟ وهل الجوائز تحدّد قيمة الروائيّ؟
ــــــ الجوائز لعبة علاقاتٍ عامّةٍ وحساباتٍ في السياسة. الرواية العربيّة ليست بخير. كانت بخير مع منيف ومحفوظ مثلًا. أما الآن فهي في طور التجريب الجديد ــــ وهذا حقٌّ لا يمكن، ولا يجوز، التنازعُ عليه.
ــــــ ما مقاييس الرواية الجيّدة بالنسبة إليك؟
ــــــ ليست لديّ شرط على الرواية سوى المتعة.
ــــــ حين يحكي الله رواية في السياسة؟
ــــــ لا... هي رواية في كلّ الحياة. السياسة جزء من كلّ هذه الحياة.
ــــــ إلى أين ستذهب سوريا برأيك؟
ــــــ إلى حرب الثلاثين عامًا. نحن أمام ما يزيد عن عقدين قادمين ستكون فيه البلاد في الخنادق.
ــــــ هل سيبقى النظام أمْ سيسقط؟
ــــــ النظام ليس رجلًا ولا مؤسّسة، بل منظومة أخلاقيّة. وهذه المنظومة لم تتفكّك بعد. ومَن تصدّى لهذه المنظومة، حتّى اللحظة، هو من نسيجها ونوعها. ولهذا فإنّ النظام في حالة "تدوير." ألا تسمع بتدوير النفايات؟ البلاد تعيش حالةَ تدويرٍ لنفاياتها.
ــــــ متى ستصدر خمّارة جبرا؟
ــــــ المفروض في وقت قريب.
ــــــ أتختلف عن رواياتك السابقة؟
ــــــ هي رسالتي التي أظنّ أنّها تحمل واحدًا من احتمالين: إمّا انتكاسة لا نهوض بعدها، وإمّا إشراقة ضروريّة لي كي أتابع الكتابة والعيش معًا.
ــــــ سؤال أخير: المرأة في حياتك، هل تشبه المرأة في رواياتك؟
ــــــ كثيرًا. هي تلك الموجودة في آخر أيام الرقص، وهي كلّ النساء في خمّارة جبرا، وهي الخنزيرة في الله حين يحكي، وهي مريم في بانسيون مريم. لقد عرفت الكثير من النساء، نساء يكفينَ ليكنّ أخصبَ من الخيال.
سوريا