لعلّ أيّة مقاربةٍ بالأدوات النقديّة التقليديّة لرواية قصر الضابط الإنكليزيّ(1) لن تكون فعّالةً لاستبطان مضامينِها وتقنيّاتِ سرديّتها. فهذه الرواية تتصدّى لموضوعٍ شديدِ التعقيد والغموض بأدواتٍ وأساليبَ نثريّةٍ جديدةٍ، إلى هذا المدى أو ذاك، على الرواية العراقيّة، التي دأبتْ ــــ كشقيقاتها العربيّات ــــ على تكرار النمط الأوروبيّ السائد للسرد الروائيّ. ولهذا ستكون قراءتي مجرّدَ محايثةٍ استعراضيّةٍ لأجوائها ومضامينها. وهي قراءةٌ تجريبيّةٌ قد لا تخلو من التبسيط المقصود، الذي يمليه هذا النصُّ الروائيّ. وقد لا تخلو من الدلالة تسميةُ الركابي لكتابه "نصًّا روائيًّا،" لا "رواية" ــــ وهو ما فطن إليه الشاعر عبّاس بيضون في قراءته للكتاب،(2) وخرج منها باستنتاجاتٍ بعضُها قريبٌ ممّا نحاولها.
يبدأ الزمنُ الروائيُّ الحدثيّ مع وصول طلائع الاستعمار البريطانيّ إلى الجنوب العراقيّ، وانكفاءِ القوّات العثمانيّة بعد هزيمتها في معركة "الشعيْبة" في ضواحي البصرة في نيسان 1915، وصعودِ القوات الغازية نحو بغداد صعودًا مريرًا وسط مقاومةٍ ضاريةٍ من المقاتلين الجنوبيين العرب العراقيين في مناطق الأهوار. وعبر مسارٍ زمنيّ روائيّ، ومخطّطٍ متداخل، يبلغ هذا الزمنُ الحدثيُّ نقطةَ توقّفه مع دخول قوّات الغزو الأميركيّة وحلفائها بغدادَ في 9 نيسان 2003.
الزمن الروائيّ الحدثيّ الذي رسمنا خطّه "السطحيّ" لا علاقة له بالزمن الحقيقيّ الذي يستبطنُه المتنُ الروائيّ. فهو يدور بشكلٍ حلزونيّ، صاعدًا ودائرًا حول نفسه في آنٍ: يدور حول الماضي العراقيّ الأقدم، انطلاقًا من زمن البدايات، حيث النبيُّ إبراهيم في أور الكلدانيّة، منظورًا إليه ومفَكَّرا فيه ضمن محاولة "استيعاءٍ"(3) روحيّة وكونيّة من قِبل المؤلِّف، الذي يتبادل عدّة أدوارٍ، أهمُّها: الراوي المشارك في الأحداث، وشبهُ المحايد سرديًّا، والمعلِّلُ، والمنظِّرُ، والمتأمِّلُ، والمفلسِفُ لأحداث الماضي والراهن ومآلاته المستقبليّة ضمن رؤيةٍ فلسفيّةٍ متكاملة، عرضها الكاتبُ في مؤلَّفه الضخم: أرضوتوبيا العراق وانقلابُ التاريخ.(4) علمًا أنّ ثمة شخصيتين روائيتين تحيلان على المؤلف عبد الأمير الركابي نفسه: شخصيّة جميل علوان في القسم الأول من الرواية؛ وشخصيّة هادي ذبيان في الربع الأخير من الرواية، وهو عراقيّ مغترب يعود إلى العراق بعد الغزو الأميركيّ في نيسان 2003، وكان أحدَ أبطال المواجهة المسلّحة في أهوار الجنوب بين فصيل شيوعيّ عراقيّ وقوّات الحكم الانقلابيّ في بغداد بين سنتيْ 1967 و1968.
بنية الرواية النصّيّة أقربُ إلى مجموعة قصص منفصلةٍ بعضها عن بعض، حدثيًّا ومن حيث الشخصيّات الرئيسة، ولكنّها موحّدةٌ من حيث البنية المضمونيّة والجوّ الروائيّ العامّ. إنّ كيان الرواية العنقوديّ، الذي قد يذكّر البعضَ بالسرديّة "الألف ليليّة،" حيث تتناسل القصصُ بعضُها من بعض، منفصلةً ومتواشجةً بعضُها مع بعض، أمرٌ يؤكّده اشتغالُ المؤلِّف مطوَّلا على حيثيّة القصص المتحوّلة إلى ملاحمَ وأساطيرَ تمّ تصعيدُها من الحدثيّ اليوميّ البسيط إلى الغرائبيّ والخارق. ويبلغ هذا المغزى التأليفيُّ ذروتَه في محاولة جميل علوان بناءَ هيكل للقصص العراقيّة الجنوبيّة على شكل ناعورٍ مطروحٍ بشكلٍ أفقيّ، أو على شكل دولابٍ عجيبٍ أُطلق عليه "دولابَ المائة باب وباب."
أمّا شخصيّات الرواية العديدة فلا نجد من بينها بطلًا رئيسًا واحدًا سوى الزمكان الأهواريّ، إذ يجعلنا الزمانُ الحلزونيُّ الرؤيويّ والجغرافيا المائيّةُ المندمجةُ فيه بإزاء سديمٍ خاصّ وغامض، يعجُّ بالأسرار والقصص الأولى.
تضم الطبقةُ الأولى من الشخصيّات كلًّا من: العلّامة الآثاريّ باقر، الذي قد يحيل اسمُه على العلّامة العراقيّ الراحل طه باقر؛ وتلميذِه، جميل علوان، الراوي غير المعلَن أو غير الرسميّ لبعض الأحداث (لأنّ أحداث الرواية لا تُسْرَدُ على لسانه بل على لسان الضمير الغائب)؛ إضافةً إلى العديد من الشخصيات المختلفة الأهميّة.
أما الطبقة الثانية من الشخصيّات فمنها: حسن الرميض، قائدُ الفلّاحين المقاومين للغزاة البريطانيين في الأهوار. ومنهم أيضًا الضابطُ البريطانيّ المقدّم ستيفن، المكلَّفُ بمطاردة حسن الرميض ومسلّحيه. ويمكن اعتبارُ هذا الضابط، المتمرّدِ على قيادته العسكريّة، والمتحوّلِ إلى صديقٍ حميمٍ لطريده العراقيّ، أكثرَ شخصيّات الرواية التباسًا وإثارةً للتساؤلات، قياسًا إلى القالب الروائيّ التقليديّ؛ فخلافًا لنماذج الروايات المصريّة أو السودانيّة أو النجديّة في النماذج الشهيرة المشابهة شكلًا، يتحوّل ستيفن من غريبٍ يحاول الاندماجَ في الوسط الغريب الجديد إلى مشاركٍ لا يقلّ "عراقيّةً" عن سائر الشخصيّات المحلّيّة، بل يتحوّل إلى قطعة عضويّة من نسيجِ ما سمّيناه "سديم الأسرار في الجنوب العراقيّ" منطلَقًا ومسارًا ومآلًا حين يخرّ صريعًا والفالةُ (وهي رمحٌ ثلاثيّ السِّنان لصيد السمك) مغروسةٌ في صدره. ومن هذه الشخصيّات كذلك: ناصر مجلي البحار، الغريبُ الأطوار؛ وابنُه مزبان، المسلّحُ المتمرّدُ والمدافعُ عن النساء المظلومات؛ وصابر العمى، الحارسُ الليليّ والمنادي على أفلام دار السينما لاحقًا؛ وابنتُه فضيلة؛ ومرغريت، زوجةُ ستيفن؛ وحفيدُها الأميركيّ هربرت، القادمُ مع دبّابات إبراهام سنة 2003.
أما بصدد المضمون، فالرواية مشغولة بمحورين أو همّين رئيسين متداخلين: الأول، هو البدايات الحضاريّة الإنسانيّة التي يرى الكاتبُ أنّ مكانها الحقيقيّ هو جغرافيّةُ الرواية العراقيّة الجنوبيّة، وزمانُها السومريّ وما قبله وما بعده، وصولًا إلى الانقطاع الحضاريّ الراهن. والثاني، هو محاولة تفسير الغرائبيّة والعجائبيّة في السرديّة الحكائيّة لهذه البقعة من الأرض، منذ الغزو البريطانيّ في بداية القرن العشرين حتى الغزو الأميركيّ سنة 2003. وقد نُظر إلى هذيْن المحوريْن، كما أشرنا، وفق رؤيةٍ فلسفيّةٍ فصّلها الكاتبُ في كتابٍ آخر.
هنا يمكن أن نسجل الملاحظتين الآتيتين:
ــــ قد لا يخلو أيُّ مسعًى روائيّ، من هذا القبيل الذي تصدّى الركابي للقيام به، من نزعة الأدلجة، بالمعنى الإيجابيّ للإيديولوجيا (بوصفها محاولةَ تنظيمٍ فكريّةً)، وبمعناها السلبيّ (بوصفها وعيًا زائفًا للذات). ولكنّ مسعاه نجح إلى حدّ بعيد في الإفلات من الوقوع في تقديم نصٍّ مؤدلجٍ تمامًا، وكانت أدواتُه السرديّة والتقنيّة خيرَ معينٍ له في ذلك.
ــــ الملاحظة الثانية تتعلّق بثنائيّة الغرائبيّ والواقعيّ، كما عهدناها في نماذج روائيّة شبيهة، لعلّ أشهرَها ما سُمّي "الواقعيّة السحريّة" التي أرسى قواعدَها غابرييل غارسيا ماركيز. ولكنّنا هنا أمام نموذج مختلف وفريد تمامًا: ففي واقعيّة ماركيز السحريّة يجري تصعيدُ الواقع الحياتيّ البسيط والشديد الواقعيّة إلى سماء الغرائبيّة والعجائبيّة بطريقة قسريّة يقوم بها خيالُ المؤلِّف؛ أمّا مع الركابي فالواقع المعيش والبسيط والمتحوّل إلى قصص وحكايات هو الغرائبيّ والعجائبيّ بطبيعته. هنا تبرز صعوبةُ استيعاب هذا العمل من قِبل غير العراقيين، وربّما من قبل غير العراقيين الجنوبيين. فما يرويه الرواةُ في كتاب الركابي هو، في أغلبه، حوادثُ وقصصٌ حدثتْ فعلًا، وأشخاصُها بشرٌ من لحم ودم وأسماء معروفة في المنطقة، لكنْ أضاف إليهم أشخاصًا آخرين من نسج خياله لضروراتٍ فنيّة. فحكاية المقاتل الجنوبيّ "جنيدي" الذي شارك في التصدّي للغزو البريطانيّ في "الشعيْبة،" وتمكّن من قتل طاعنه السيرجنت البريطانيّ، هي حادثةٌ واقعيّة؛ وقصّةُ حصان الشيخ يونس، الذي انتحر بعد مقتل فارسه، هي قصّة حقيقيّة أخرى؛ أما مزيان ــــ حامي النساء المستضعَفات والصيّادين الفقراء، والمتمرِّدُ على الجميع، بمن فيهم عشيرتُه التي تخلعه من عضويّة العشيرة، قبل أن يلقى مصيرًا دمويًّا في النهاية ــــ فهو شخصٌ معروفٌ أيضًا، بل صديقٌ شخصيّ أيضًا (حسب معلوماتي) لجدّ المؤلِّف من جهة أمّه. وهنا يبرز السؤال: كيف فلسف الركابي هذه القصصَ، وغيرُها كثير، وعرضها روائيًّا؟ وهل نجح في مسعاه إلى إقناع قارئه غير العراقيّ بواقعيّةِ الغرائبيّةِ الجنوبيّة؟
وقفة أخيرة نودّ أن نقفها عند الفصل الرابع والأخير في الرواية. ففي هذا الفصل كثَّف الركابي فكرتَه الفلسفيّة وبثّها في النصّ بطريقة أقرب الى المباشرة التسجيليّة: حيث العراقيون اليوم أمام منعرج تاريخيّ مهمّ وخطير، يُنْهون به فترةَ الانقطاع الحضاريّ التي طالت عدّة قرون، محدِّدًا هذه البداية الجديدة بكونها فعلًا تغييريًّا تاريخيًّا إبراهيميًّا جديدًا ومفتوحًا على العالم. بكلمات أخرى: إنّه تاريخٌ يقترح على العالم حلًّا يوتوبيًّا، له تمظهراتُه الفلسفيّة والسياسيّة والمجتمعيّة، التي يرى الكاتبُ أنّها جديدة تمامًا وكونيّةُ الآفاق وقمينةُ بإنقاذ العراق والعالم.
جنيف
هوامش
1- عبد الأمير الركابي، قصر الضابط الإنكليزيّ (بغداد: مصر مرتضى للكتاب العراقي).
2- جريدة السفير، بيروت، 4 تشرين الأول 2016.
3- استيعاء: من مبتكرات رفيقي الراحل هادي العلوي، وتعني تحويل الحالة الروحيّة إلى وعي.
4- عبد الأمير الركابي، أرضوتوبيا العراق وانقلاب التاريخ – من الإبراهيميّة إلى ظهور المهدي: هكذا يردّ التاريخُ العراقيّ على التحدّي الأميركيّ (بيروت: دار الانتشار العربيّة، ط 1، 2008).