كاتب ومترجم فلسطينيّ، يقيم في لبنان.
آمن نيكولاس فيدال دومًا بنبوءة أنّه سيخسر حياتَه من أجل امرأة. هكذا تكهّنوا يومَ ولادته، وهذا ما أكّدته صاحبةُ دكّان الحيّ في المناسبة الوحيدة التي سُمح لها فيها بقراءة طالعه في فنجان قهوته. لكنّه لم يتخيّل أن تكون تلك المرأة هي كاسيلدا، زوجةَ القاضي هيدالغو.
لمحها أوّل مرّة حين قدمتْ إلى البلدة يومَ زواجها. لم يجدها جذابة، فهو يفضّل نساءه غيرَ متصنّعات وسمراوات، في حين بدت له هذه الصبيّةُ بملابس السفر شاحبةً، بنظراتٍ خجولة وأصابع نحيفة، غير قادرة على إمتاع رجل. وبالمجمل فقد رآها غير متناسقة، وكأنّها كمشة من رماد.
واثقًا بصحّة نبوءته، كان نيكولاس فيدال يتجنّب النساء، ويتهرّب طوال حياته من أيّ تواصلٍ عاطفيّ. كما أنّه أفرغ قلبَه من الحبّ، واختصر لقاءاتِه السريعة معهنّ على تلبية حاجاته الرجوليّة وللفضفضة عن وحدته.
لم تكن كاسيلدا من صنف النساء الذي يستهويه. لذا كان احتمالُ اهتمامه بها مستبعدًا، إلى درجةِ أنّه أهمل الحذرَ في التعامل معها. إلى أن جاءت اللحظةُ التي نسي فيها تلك النبوءةَ، الحاضرةَ دومًا في ذهنه عند تعامله مع النساء.
ربض على سطح المبنى مع اثنين من رجاله، وأخذ يراقب تلك الشابّةَ القادمة من العاصمة وهي تترجّل من السيّارة في يوم زفافها. كانت مصحوبةً بنصف دزينة من أقربائها، حانقين ومتصنّعين مثلها، جاءوا للمساعدة في تنظيم مراسم الزفاف، ثم رحلوا من غير رجعة.
كبقيّة أهالي البلدة، كان فيدال مقتنعًا بأنّ العروس الجديدة لن تتحمّل الطقس، وأنّ نساء البلدة المسنّات سيقمن بعد فترة قصيرة بإكسائها من جديد، لكنْ من أجل مراسم جنازتها. وفي حال تحمُّلها الحرَّ الشديدَ والعفارَ الذي يخترق المسامَّ ويستقرّ في الروح، وذلك احتمالٌ ضئيل، فستنهار بالتأكيد أمام سوء مزاج زوجها الذي أدمن العزوبيّة. فللقاضي هيدالغو من العمر ضعفُ عمرها، وقد أمضى سنواتٍ طويلةً من النوم من دون شريكة، ونسي من أين يبدأ بإرضاء امرأة. كان سكّانُ المقاطعة كلّها يرتعدون من طباعه الحادّة، ومن تشدّده في تطبيق القوانين، ولو جاء ذلك على حساب منطق العدالة؛ فهو يطبّق أحكامَه من دون أيّ اعتبار لأبسط أنواع التعاطف، ويساوي في قسوته بين سارقِ دجاجة وقاتلٍ محترف. لم يقتصر ارتداؤه اللونَ الأسود على عمله داخل المحكمة، بل كان صارمَ الالتزام بارتداء ذلك اللون ليذكّر الجميع بجدّيّة منصبه الرفيع. وعلى الرغم من الغبار الطاغي على هذا المكان، فإنّ جزمته كانت ملمّعةً دائمًا بشمع النحل.
لكنْ مع أنّ جميع كبار السنّ في البلدة توقّعوا ألّا يدومَ هذا الزواجُ طويلًا، فقد استطاعت كاسيلدا النجاة، بل فازت بالحبَل ثلاثَ مرّات سريعة متتالية، وبدت سعيدة. كانت تتأبّط ذراعَ زوجها كلّ أحدٍ لحضور قدّاس الظهيرة، مستكينةً ومطمئنةً خلف وشاحها الإسبانيّ، غيرَ آبهةٍ بطقس صيفنا الذي لا يرحم، ذاويةً وصامتةً كالظلّ. لم يسمع أحد من صوتها أكثرَ من تحيّات رقيقة، ولم يشاهد من حركاتها أجرأ من انحناءة رأسٍ خفيفةٍ بداعي إلقاء السلام، أو ابتسامة تتسرّب فوق شفتيها حتى تكاد تتلاشى بلامبالاة. ضاعف وجودُها هذا، الذي يكاد لا يُلحظ، من اندهاش الجميع بقدرتها على إحداث التغيّرات التي ظهرتْ بوضوح على تصرّفات زوجها القاضي.
فعلى الرغم من حفاظ هيدالغو على مظهره الخارجيّ، الفظّ والمتّشح دائمًا بالسواد، فإنّ تصرّفاته داخل قاعات المحكمة شهدتْ تحوّلًا جذريًّا. فقد أذهل الجميعَ، مثلًا، عندما أطلق سراحَ عامل شابّ سرق مستخدمَه، معلِّلا ذلك بأنّ صاحب العمل كان طوال ثلاث سنوات يَدفع لذلك العامل أجرًا أقلّ ممّا يستحقّه، وأنّ المبلغ المسروق يُعتبر تعويضًا عادلًا. وكذلك عندما أسقط تهمةَ الخيانة الزوجيّة عن امرأةٍ بحجّة أنّ زوجها لا يملك الحقّ الأخلاقي بالادّعاء أنّ فعلتها لطختْ شرفَه؛ فقد كانت له عشيقةٌ هو أيضًا.
سرتْ على الألسنة الخبيثة في البلدة حكاياتٌ عن القاضي هيدالغو، وكيف كان يتبدّل ــــ كما يبدّل المرء قفّازًا ــــ حال عبوره عتبةَ منزله، فيلقي بملابسه الرسميّة جانبًا، ويلاعب أطفاله، ويضاحك كاسيلدا، ويجلسها فوق ركبتيه. لكنّ أحدًا لم يتمكّن من تأكيد تلك الشائعات.
وعلى أيّة حال، ومهما تحسّنتْ صورةُ كاسيلدا، ذاتِ الفضل في الانقلاب الذي طرأ على تصرّفات القاضي هيدالغو، فذلك لا يعني شيئًا لنيكولاس فيدال. فهو، كخارج عن القانون، كان متأكدًا أنّ كلّ تلك التبدّلات لن تمنحه أيّ رحمة في حال مثوله مكبّلًا بالسلاسل أمامه. لم يُعر فيدال كلَّ ما يقال عن كاسيلدا أدنى اهتمام؛ فالمرّات القليلة التي لمحها فيها أكّدت انطباعَه الأول: أنّها امراة غامضة وخالية من الحياة.
وُلد فيدال قبل ثلاثين عامًا، في غرفة بلا نوافذ، في بيت الدعارة الوحيد في البلدة، من أمّ هي "خوانا البائسة،" وأبٍ مجهول الهويّة. وُلد وليس له مكان في هذا العالم. كانت أمُّه تدرك ذلك، ولذلك حاولتْ إجهاضَه عن طريق الأعشاب المغليّة، وأعقابِ الشموع، وغسلِ رحمها بالرماد، ووسائلَ همجيّةٍ أخرى. لكنّه كان مصرًّا على التمسّك بالحياة. بعد مرور سنوات، فكّرتْ "خوانا البائسة،" وهي تنظر إلى ابنها الغريبِ الأطوار، أنّ محاولاتها التي أخفقتْ في التخلص منه أفلحتْ في إكساب جسده وروحه صلابةَ الفولاذ. في لحظة خروجه من رحم أمّه، رفعتْه القابلةُ لتتفحّصه تحت ضوء القنديل، فلاحظتْ على الفور أنّ لثدييْه أربعَ حلمات.
- المسكين سوف يخسر حياته من أجل امرأة، قالت القابلة معتمدةً على خبرتها الطويلة.
نزلتْ تلك النبوءةُ كالعاهة على جسد المولود. لربّما كانت حياته ستكون أقلّ بؤسًا لو لقي الحبَّ من امراةٍ ما.
تعويضًا من محاولات أمّه العديدة قتلَه قبل ولادته، فقد اختارت له اسمًا جميلًا، واسمَ عائلةٍ مهيبًا، انتقتْه بعشوائيّة. لكنّ اسمه الأنيق لم يصنْه من قدره المكتوب؛ فقبل بلوغه العاشرة اكتسى وجهُه بندوب العراك بالسكاكين، وبعيْد ذلك بدأ يعيش حياة المطارَدين. في العشرين أصبح زعيمًا لعصابة من الخارجين على القانون. عاداته العنيفة ساهمتْ في تقوية عضلاته. أساليبُ القساوة التي سلكها، والعزلة التي حَكمتْ عليه بالخوف الدائم من النساء، وخسارةُ قدرته على الحبّ، رسمتْ معالمَ عينيه. كان في إمكان جميع سكّان البلدة التعرفُ إلى انّه ابن "خوانا البائسة" لأنّه مثلها: ذو عينين مليئتين بدموع متحجّرة تأبى السقوط.
كان رجال الشرطة، بعد كلّ جريمة تُرتكب في المنطقة، ولتهدئة روع المواطنين، ينطلقون مع كلابهم المدرَّبة بحثًا عن نيكولاس فيدال، لكنّه بعد بضع جولات بين التلال المحيطة يعودون خاليي الوفاض. والحقيقة أنّ الشرطة لم تكن لديها رغبة حقيقيّة في العثور عليه خوفًا من مواجهته. فقد اكتسبتْ عصابتُه سمعةً مخيفة، إلى درجة أنّ القرى والمزارع كانت تَدفع ثمنَ حمايةٍ كي تقيها شرَّه. وكان يمكن هذه التبرعات أن توفّر كاملَ احتياجات فيدال وعصابته، لكنّه أصرّ على إبقاء رجاله فوق ظهور جيادهم وفي حركة دائمة من القتل والأذى كي لا يخسروا شهيّتهم إلى القتال، وحفاظًا على رهبة سمعته، فلا يجرؤ أحد على مواجهتهم. طلب القاضي هيدالغو، غيرَ مرّة، من السلطات أرسالَ المزيد من الجنود لدعم الشرطة المحليّة، لكنّ الجنود كانوا بعد بضع جولات خائبة يعودون إلى ثكناتهم، وتعود عصابةُ فيدال إلى غطرستها. مرةً واحدةً فقط أوشك فيدال على السقوط في براثن العدالة، إلّا أنّ قلبه الذي لا يرتعش أنقذه في آخر لحظة.
لم يعد في استطاعة القاضي هيدالغو السكوتُ على عبث العصابة بالقانون، فقرّر التخلي عن تحفظه وأن ينصب فخًّا لقاطع الطريق هذا. وكان يدرك أنّ خطّته للحفاظ على القانون تتطلّب عملًا غير قانونيّ، فبرّره بأنّه أهونُ الشرّيْن.
كانت "خوانا البائسة" الطُّعْمَ الوحيدَ لاصطياد فيدال؛ فليس لديه أقرباء آخرون، ولا علاقة حبّ تجمعه بأيٍّ كان. أمر القاضي بجلب المرأة من مكان إقامتها، حيث أضحت تعمل في شطف الأرض وتنظيف دورات المياه، إذ لم يعد أحد يدفع من أجل خدماتها الأخرى المنتهية الصلاحيّة. أودعها في قفص معدنيّ صُنع خصّيصًا، ووُضع في وسط ساحة "ارماس،" وفي داخله إبريق ماء فقط.
ــــ عندما ينفد الماء سيعلو زعيقُها، فيَظهر ابنُها، وسأكون مع الجنود بانتظاره، قال القاضي.
انتشر خبرُ اعتقال "خوانا البائسة" في القفص، وهو أسلوبُ قصاصٍ لم يُستخدم منذ عهود الاستعباد، ووصل إلى مسامع نيكولاس فيدال قبيل شرب أمّه آخرَ جرعةٍ من إبريق الماء. راقب رجالُ فيدال زعيمَهم حين تلقّى الخبر. لم يُبدِ أيّ ردّ فعل، ولم يظهر على وجهه أيّ تعبير، ولم يتوقّف عن شحذ مطواه بحزام السرج. لم يتواصل فيدال مع أمّه منذ سنين طويلة، ولا يحتفظ بأيّ ذكرى جميلة من طفولته، لكنّ ما يحصل الآن هو بمثابة قضيّة شرف. فكّر رجالُه: لا يمكن رجلًا أن يسكت عن إهانة كهذه، وهم مستعدّون ــــ بما يملكون من خيل وسلاح ــــ أن يهجموا لتخليصها، ولو كلّفهم ذلك حياتَهم. غير أنّ زعيمهم لم يكن في عجلةٍ من أمره.
مع مرور الساعات، كان التوتّر بين الرجال يتصاعد. كانوا يتبادلون النظرات وهم يتصبّبون عرقًا، لا يجرؤون على التفوّه بكلمة، ينتظرون بصبر، تُداعب أياديهم أعرافَ الخيول أو أعقاب البنادق، أو يتلهّون بلفّ السياط وإعادة لفّها. حلّ الليل، وكان فيدال الوحيدَ الذي استطاع الخلودَ إلى النوم. عند الفجر، كان الرأيُ بين الرجال موزَّعًا بين من يقول إنّ لفيدال قلبًا أقسى ممّا تخيّلوا، وبين من يعتقد أنّ الزعيم يخطِّط لعملٍ مذهلٍ ينقذ به أمّه. لكنْ ما لم يخطر في بال أيّ منهم أن يكون فيدال خائفًا أو جبانًا؛ فهو أثبت في الماضي أنّ لديه من الشجاعة ما يكفي ويزيد.
مع حلول الظهيرة، لم تعد للرجال طاقةٌ على الصبر، وقرّروا أن يسألوه عمّا ينوي فعلَه.
ــــ لا شيء، قال.
ــــ وأمّك؟
ــــ سوف نرى مَن يملك خصيتيْن أكبر من الآخر، القاضي أم أنا! اجاب نيكولاس فيدال.
في اليوم الثالث، لم تعد "خوانا البائسة" تقوى على الصراخ طلبًا للماء؛ فقد جفّ لسانُها وباتت الكلماتُ تموت في حلقها قبل أن تولد. تكوّرتْ على نفسها فوق أرضيّة القفص، بعينيها التائهتيْن وشفتيها المتورّمتيْن، تئنّ كالحيوانات. وعندما لم تكن فاقدةً الوعيَ، كانت تحلم بنار جهنّم. كان أربعة من المسلّحين يشْرفون على حراستها ليمنعوا الجيرانَ من تقديم الماء إليها. تسلّل أنينُها عبر النوافذ المغلقة، حملتْه الريحُ لتخترق به الأبواب، وانتشر ليحتلّ زوايا الساحة، فأرعب الكلابَ، التي حملته بدورها وأوصلته عبر نباحها إلى المواليد الجدد، فمزّق أعصابَ كلِّ من سمعه.
لم يستطع القاضي أن يمنع طوابيرَ السكّان من التوجّه إلى الساحة للتعاطف مع المرأة العجوز، ولا أن يفضّ إضرابَ المومسات التضامنيَّ الذي تزامن مع حلول إجازة عمّال المناجم نصف الشهريّة. في ذلك السبت، امتلأتْ شوارعُ البلدة بعمّال المنجم المستثارين، يتطلّعون إلى تصريف مدّخراتهم، قبل العودة إلى حفراتهم. لكنّ وسائل التسلية في البلدة اقتصرتْ على مشهد القفص، وذلك التذمّر المتعاطف مع السجينة، يتنقّل من فم إلى فم، من النهر إلى الطريق الساحليّ.
شكّل كاهنُ البلدة وفدًا من المؤمنات، وتوجّه به إلى القاضي هيدالغو، ملتمسًا العفوَ للمرأة المسكينة، لإنقاذها من هذه الميتة البشعة. لكنّ القاضي أقفل باب مكتبه، ورفض الاستماعَ، مراهنًا أنّ "خوانا البائسة" تستطيع أن تتحمّل يومًا آخر قبل أن يأتي ابنُها ويقعَ في الفخّ. عندها، قرّر وجهاءُ البلدة اللجوءَ إلى السيّدة كاسيلدا.
استقبلتهم زوجةُ القاضي في الصالون المظلَّل، واستمعتْ إلى طلباتهم وهي تنظر إلى الأرض، بأسلوبها المعتاد. غاب زوجُها عن البيت منذ ثلاثة أيّام. أقفل بابَ مكتبه، منتظرًا نيكولاس فيدال بتصميم عجيب. من دون أن تُطلّ من نافذتها، كانت تدرك كلّ ما يدور في الشارع؛ فضجيجُ المأساة في الخارج كان يخترق غرف منزلها الفسيح أيضًا. انتظرت السيّدة كاسيلدا انتهاءَ الزيارة، ثم ألبستْ أطفالها ملابسَ الأحد، وتوجّهتْ معهم إلى الساحة. حملتْ سلّةً من الطعام، وإبريقًا من الماء، إلى "خوانا البائسة." رآها الحرّاسُ عند المنعطف وأدركوا ما تنوي فعله، لكنّ أوامرهم كانت واضحةً، فسدّوا طريقَها بالبنادق. واذ بدأ الناسُ بالتجمهر، أمسكها الحرّاسُ من ذراعها لعوْق تقدّمها. وعندها بدأ الأطفالُ بالبكاء.
جلس القاضي هيدالغو في مكتبه يراقب الساحة. كان الوحيد في البلدة الذي أصمّ أذنيه بالشمع، تتملّكه فكرةُ الكمين، مترقّبًا سماعَ أصوات سنابك خيول نيكولاس فيدال. ثلاثةَ ايّام بلياليها وهو يتحمّل نواحَ ضحيّته وإهاناتِ الجيران الذين تجمّعوا أمام مكتبه، لكنْ حين سمع بكاءَ أطفاله ادرك أنّه بلغ حدودَ قدرته على المقاومة. منهكًا، خرج إلى الساحة، بذقن لم يحلقها ثلاثة أيّام، وبعينين محمرّتيْن كالجمر من فرط السهر، وحمْلُ الهزيمة يُثقل ظهرَه. عبَر الشارع، ودخل مربَّع الساحة، واقترب من امرأته. تبادلا النظراتِ بحزن. كانت تلك هي المرّة الأولى منذ سبع سنوات التي تواجهه فيها، وقد اختارت أن تكون المواجهة أمام جميع سكّان البلدة. أخذ إبريق الماء من يدي السيّدة كاسيلدا، وفتح بنفسه القفصَ ليحرِّر سجينتَه.
ــــ لقد قلتُ لكم إنّه ليس أشجع مني، قال نيكولاس فيدال ضاحكًا عند سماعه بما حدث.
لكنْ في اليوم التالي، تحوّلتْ ضحكاتُه إلى مرارة حين علم أنّ "خوانا البائسة" شنقتْ نفسَها بحبل المصباح في بيت الدعارة الذي أمضت فيه حياتها، لأنّها لم تتحمّلَ عارَ أن يُهملها ابنُها الوحيد ويتركها مسجونةً في قفصٍ وسط ساحة أرماس.
ــــ حانت ساعة القاضي، قال فيدال.
كانت خطّتُه تقوم على دخول البلدة ليلًا، ومفاجأةِ القاضي، وقتلِه بطريقة شنيعة باهرة، ثمّ وضعِه في القفص المشؤوم لإذلاله أمام سكّان البلدة. لكنْ بلغه أنّ عائلة القاضي غادرتْ إلى منتجع على الساحل لمحو طعم الهزيمة.
اكتشف القاضي في منتصف الطريق، حيث توقّف للاستراحة في أحد الفنادق، أنّه مُلاحق بدواعي الانتقام. انتبه إلى أنّ المكان لا يقدّم له الحمايةَ اللازمة، لكنّ لديه بضعَ ساعات أخرى تقدّمها إليه سرعةُ السيّارة التي تفوق سرعةَ الخيول. احتسب أنّ لديه من الوقت ما يكفي للوصول إلى بلدة أخرى، حيث سيطلب قوّاتِ حمايةٍ إضافيّةً. أمر زوجته بتحميل الأطفال داخل السيّارة، وضغط على دوّاسة السرعة بقوة، وانطلق على الطريق. كان يمكن أن يصل إلى غايته مع هامش كبير من الأمان، لكنّ القدر كتب لنيكولاس فيدال أن يلتقي في ذلك اليوم المرأةَ التي تجنّبها طوال حياته.
فالحال أنّ إرهاق القاضي الناتج من ليالي الأرق والسهر، وعدائيّةَ الجيران، واختناقَه بعار الهزيمة، وتوتّرَه من هذه المطاردة سعيًا إلى إنقاذ عائلته؛ كلّ ذلك أدّى إلى إصابة قلبه بجلطة عارمة، فانفجر بصمت. استمرّت السيّارة منطلقةً بسرعة وبلا سيطرة، فانقلبتْ عدّة مرات، واستقرّت على جانبها. احتاجت السيّدة كاسيلدا بضع لحظات كي تستوعب ما حصل للتوّ. كانت قد خطرتْ لها من قبلُ فكرةُ أن تصبح أرملة، فزوجُها متقدّم في السن، لكن ما لم يخطر لها أبدًا هو أن يتركها تحت رحمة أعدائه. لم تصرف الكثيرَ من الوقت في التفكير بذلك الأمر الآن، لأنها أدركتْ ضرورةَ التصرّف بسرعة من أجل إنقاذ أطفالها.
تأمّلتْ المشهدَ الذي وجدتْ نفسَها فيه، وكانت على وشك الانفجار بالبكاء يأسًا، لأنها ــــ في تلك البقعة الشاسعة من حولها، العارية من كلّ علامات الحياة، تحت أشعّة الشمس الملتهبة ــــ لم تجد سوى تلالٍ جرداءَ، وسماءً بلا لون من شدة الضوء. لكنها، عندما ازدادت تحديقًا، رأت ظلًّا فوق تلّة، ومن خلف الظلّ كهفًا، فركضت نحوه، حاملةً طفلين، والثالث يتبعها ممسكًا بتنّورتها. صعدت التلّة ثلاث مرات، تحمل في كل مرةٍ واحدًا من أطفالها. كان كهفًا طبيعيًّا، شأن كثير مثله في جبال تلك المنطقة. استطلعتْ داخل الكهف للتأكّد من خلوّه من أيّة حيوانات مفترسة، ثمّ أسندت الأطفال إلى جدار الكهف وقبّلتهم، من دون أن تذرف دمعةً واحدة.
ــــ سيأتي الجنود بعد قليل للبحث عنكم. حتى ذلك الحين، عليكم البقاء هنا، ولا تخرجوا ولو سمعتم صراخي، أتفهمون؟، أمرت الأطفال الثلاثة.
رمقت صغارَها الممسكين أيدي بعضهم بعضًا بنظرة وداع أخيرة، ثم بدأتْ بالنزول عن التلّة. بلغت السيّارة، فأغمضتْ جفنيْ زوجها، ونفضت الغبارَ عن ثيابها، وأصلحتْ شعرَها، وجلستْ تنتظر. لم تكن تعلم عددَ الرجال في عصابة نيكولاس فيدال، لكنّها تمنّت أن يكون كبيرًا، كي تستغرق فعلتُهم معها أطولَ وقت ممكن. استجمعتْ قواها وأخذتْ تحسب كم يلزمها من الوقت إنْ قرّرتْ أن تموت ببطء. رغبتْ في استحضار أقصى درجات إثارة الشهوة والإغواء كي تؤمِّن أطولَ فترة ممكنة لوصول النجدة إلى أطفالها.
لم يطل انتظارُها. فبعد قليل، رأت سحابةً من الغبار في الأفق، وسمعتْ وقع حوافر خيل، وصكّت أسنانها بعصبيّة. مندهشةً، رأت خيّالًا واحدًا فقط، وقد توقّف على بعد أمتار قليلة منها، ويدُه على الزناد. كان وجهه مليئًا بالندوب، فعرفتْ أنّه نيكولاس فيدال. لقد قرّر أن يواجهَ القاضي منفردًا لأنّ المشكلة بينهما كانت شأنًا خاصًّا، ويجب أن تكون المواجهة بينهما فقط. عندئذ، فهمتْ كاسيلدا أنّ مصيرها سيكون أصعب بكثير من موتٍ بطيء.
ألقى فيدال نظرةً واحدةً على السيّارة، وفهم أنّ عدوّه أصبح بعيدَ المنال، غارقًا في موته بسلام. لكنْ ها هي زوجتُه تبدو عائمةً فوق تموّجات الضوء الساطع. ترجّل عن حصانه واقترب منها. لم تخفض عينيها ولم تتحرّك، فأذهله ذلك لأنها كانت تلك هي المرّة الوحيدة التي يواجهه فيها أحدُهم بلا خوف. ساد الصمت بضعَ ثوان أبديّة، يقيس كلُّ منهما نقاطَ قوّة الآخر وقدرته على المقاومة، وأدركا كلاهما أنّ الآخر ليس هيّنًا. نحّى فيدال مسدّسه جانبًا، وابتسمتْ كاسيلدا.
كسبتْ كاسيلدا كلَّ لحظة من الساعات التي تلت. استخدمتْ كلَّ وسائل الإغراء التي عرفها البشرُ منذ بداية الزمن، واستخدمتْ وسائلَ أخرى غيرَها استلهمتْها من الحاجة إلى استهواء ذلك الرجل. لم تكتف بالعمل على جسده كفنّانة بارعة تثير كلَّ حواسّه بحثًا عن مكامن اللذة، بل وظّفتْ أيضًا كلَّ قطرةٍ من روحها للوصول إلى غايتها. كانا كلاهما يعلمان أنّ حياة كلّ منهما تتوقّف على هذا اللقاء، ما زاد اللقاءَ توتّرًا. تهرّب نيكولاس فيدال من الحبّ منذ ولادته؛ فهو لم يختبر الحميميّة، أو الحنانَ، أو الضحكَ سرًّا، أو صخبَ الحواسّ، أو اللذّةَ المشتركة بين حبيبين. ومع كلّ لحظة تمضي كانت فصيلةُ الجنود تقترب، ومعها فرقةُ الإعدام وحبلُ المشنقة، لكنّ فيدال كان هو الآخر يقترب من هذه المرأة المدهشة، وبدا مستعدًّا لمقايضة حياته بعطاياها.
كانت كاسيلدا خفرةً وخجولة، ومتزوّجةً من رجل كبير السنّ ومتزمّت ولم تجرؤ يومًا على التعرّي أمامه. خلال تلك الظهيرة التي لا تُنسى، لم يغب عن بالها هدفُها، وهو كسبُ الوقت. لكنْ، في لحظة معيّنة، أدهشها إحساسُها برغبتها الغريزيّة، وشعرتْ تجاه ذلك الرجل بشيءٍ يشبه الامتنان. لذا، عندما سمعتْ وقعَ حوافر جياد العسكر، أخذتْ ترجو منه أن يهرب ويختبئ بين التلال. لكنّ نيكولاس فيدال آثر أن يضمّها بين ذراعيه ليعانقَها لآخر مرّة، محقِّقًا بذلك النبوءةَ التي رَسمتْ قدَرَه منذ ولادته.
*
ولدت ايزابيل الليندي جونا في ليما-بيرو لابوين يعملان في السلك الدّبلوماسي. تلقّت جزءًا من تعليمها الأساس في مدارس خاصة أميركية وإنكليزية في بوليفيا وبيروت، حيث عمل أبواها في سفارة بلادهما، فأجادت الإنكليزيّة بالإضافة إلى لغتها الإسبانيّة الأمّ. بدأتْ حياتها المهنيّة في الصحافة، حيث التقت الشاعر التشيليّ بابلو نيرودا، الذي نصحها بكتابة الرواية. حصلت على العديد من الجوائز، منها جائزة غابرييلا ميسترال الثقافية، وجائزة تشيلي الوطنية للآداب. من أعمالها: بيت الأرواح (1982)، و مدينة الوحوش (2002)، والعاشق الياباني (صدرت ترجمتها إلى العربية عن دار الآداب هذا العام، 2017).
كاتب ومترجم فلسطينيّ، يقيم في لبنان.