قصيدة للشاعر كارلوس فوينتس
تمهيد من المترجم: عن محاولة النجاة من المجزرة
في العام 1990 طلبتْ إليّ جمعيّةٌ تابعةٌ لاحدى الكنائس الأميركيّة المعارضة للحروب المساعدةَ في تنظيم جولة لبضع عشرات من الأطفال الذين عايشوا حروبًا أهليّةً في العالم، لتجوب عددًا من المدن الأميركيّة تحت شعار "أطفال الحرب." كانت الحملة تهدف إلى التوعية بأهوال الحروب، والربطِ بين ما يعانيه الأطفالُ في الحروب خارج الولايات المتّحدة، وتلك التي تدور داخلها ويعانيها الكثيرون من أطفالِ أميركا الفقراء والمهمّشين. تَشارَكَ الأطفالُ قصصهم، وسمعنا من الفتى الجنوبأفريقيّ عن وحشيّة عناصر الشرطة البيض في الغيتوات المسيَّجة بالأسلاك، ومن طفلٍ أفريقيّ ــــ أميركيّ حكاية زملاء له سقطوا برصاص الشرطة في أحد الأحياء، وكيف أصبح قوّادًا في العاشرة. وسمعنا الفتاة الفلسطينيّة، وأخرى من قبيلة الأونانداغا من سكّان أميركا الأصليين، وفتاةً مكسيكيّة... وغيرهم الكثيرون.
لكنْ تبقى حكايةُ غابينيو، ابنِ الخامسة عشرة، الآتي من قريةٍ نائيةٍ على سفوح جبال السلفادور البركانيّة، من أعصى الحكايات على النسيان. كان يروي، بكثيرٍ من الخدر، حكايةَ نجاته من مجزرةٍ عايشها وهو لم يبلغ السادسة. نَفّذتْ تلك المجزرةَ قوّاتُ الحكومة السلفادوريّة اليمينيّة في حقّ سكّان قريته (التي أعلنتها الحكومةُ بلدةً مناصرةً للثوّار يجب تأديبُها).
نجا غابينيو مع جدّته وبضعة أطفالٍ وجدّاتٍ آخرين. كان يختم حكايته بوصف اليوم التالي للمجزرة، وقد غادر الجنود. وكان يسهب في وصف مشهد الحيوانات البيتيّة، كالدجاج والخنازير، وهي تقتات على جثث الضحايا.
"لم تستطع جدّتي مغادرةَ القرية، كما لم تستطع القريةُ دفنَ الجثث. فلم يتبقّ فيها رجالٌ أو شبّان. فقط أطفالٌ وجدّاتٌ مسنّات..."
"مكثنا في القرية بضعة أسابيع... في البدء كنّا نقتات على الأعشاب... ثمّ بدأنا نأكل الدجاج الذي كان يتغذّى من الجثث. لم يخطر في بالي حينها، لكنّي الآن أفكّر في الأمر باستمرار، وهو أنّنا في الواقع لم ننجُ من المجزرة؛ فكي نحيا، اضطررنا إلى أكل الدجاج الذي اعتاشَ على جثث ضحايا المجزرة من البشر... أيْ إنّنا أصبحنا بشرًا يأكل بشرًا..."
يصعب نسيانُ ذلك، خصوصًا في هذه الأيّام من شهر أيلول (سبتمبر)، في وقتٍ قريبٍ من المجزرة التي شهدها هذا الصبيّ. أعني مجزرة مخيّميْ صبرا وشاتيلا سنة 1982. الأطفال الذين ماتوا رعبًا وهم ينجون تحت جثث أحبّتهم، كم يشبهون غابينيو!
إليه، وإلى ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا، أتقدّم بترجمة هذه القصيدة.
محمد منصور
كورس العائلة المقتولة
أبي و أمّي
قضيا في مجزرة إلموزوتي 1
في الحادي عشر من ديسمبر
عندما عجز جيشُ الديكتاتوريّة عن هزيمة مقاتلي
جبهة الفارابندو مارتي 2
قرّروا قتلَ الأبرياء لترويع السكان
أشاعوا بين الناس أنّهم سيجتاحوننا وأنّهم لن يقتلوا
القابعين في منازلهم؛3
فقط المتجوّلون في الشوارع والضواحي
أولئك سيُقتلون كالأرانب.
بعدئذ قامت كتيبةُ أتلاكاتلي المدرّبة والمموّلة من الـUSA
بهجومٍ مباغتٍ، وذبحتْ كلّ سكّان إلموزوتي
رجالًا، نساءً، أطفالًا.
في العاشر من ديسمبر، دخل جنودُ الكتيبة إلموزوتي.
جرّوا الجميعَ خارج منازلهم؛
جمعوهم في الساحة الرئيسة،
أمروهم بالانبطاح على بطونهم،
ركلوا السكّان، واتّهموهم بأنّهم من الثوّار،
وطالبوهم بأن يُفصحوا عن مخابئ السلاح.
لكن، لم يكن هناك سوى بذورٍ، ومحارث، ومسامير، ومطارق، وقرميد.
بعد مضيّ ساعة، أمروهم بالعودة إلى منازلهم،
وألّا يُظهروا حتّى أنوفَهم.
انحشرنا في المنازل؛ كنّا جائعين.
لم نسمع سوى رجال الكتيبة يضحكون،
يسكرون، محتفلين بالنصر.
عند الفجر، في الحادي عشر من ديسمبر،
جرّونا من المنازل.
جمعونا في الطابق الأرضيّ أمام كنيسة "الملوك الثلاثة،"
أبقونا هناك واقفين لساعاتٍ وساعات،
ثمّ وضعوا الرجالَ والصبيانَ في الكنيسة؛
النساءَ والصغارَ في منزل مهجور.
كنّا حوالي ستمائة من السكّان.
وضعونا، نحن الرجال، على وجوهنا، وقيّدوا أيديَنا
ومجدّدًا سألونا عن الأسلحة المخبّأة.
ولأنّنا لم نعلم شيئًا بدأوا ــــ في الصباح التالي ــــ بقتلنا.
جزّوا رؤوسَ الرجال في الكنيسة بالمناجل،
الوحد تلو الآخر، كي نرى ماذا يُخبَّأ لنا.
ثمّ جرجروا الأجسادَ والرؤوس إلى "خزانة المقدَّسات"؛
جبلٌ من الرؤوس تنظر ولا ترى.
وعندما تعبوا من جزّ الرؤوسِ بالمناجل،
رموا بالرصاص من بقي منّا في الخارج.
متّكئين على جدار الطوب الأحمر،
وتحت صفائح قرميد سطح المدرسة الحمراء،
هكذا مات مئاتُ الرجال!
اقتادوا النساءَ إلى "تلّة الصليب" و"تلة القزم"
وناكوهنّ، مرارًا وتكرارًا،
وشنقوهنّ، وطعنوهنّ،
وأشعلوا النارَ فيهنّ.
ومات الصغارُ باكين بحرقة.
قال الجنود إنّ من تبقّى مِن الأطفال ظريفون
ربّما نأخذهم إلى منازلنا.4
لكنّ القائد قال: لا...
إمّا أن نقتلهم، وإمّا سوف يقتلوننا!
صرخ الأطفالُ وهم يقتلونهم...
"اقتلوا أبناءَ الزنا، اقتلوهم جيّدًا كي لا يصرخوا بعد الآن."
وعندئذ لم يعد هناك صراخ.
خبّأتني جدّتي بين تنانيرها.
شاهدنا الذبح من على الشجر.
أُقْسم أنّه عندما مرّت كتيبةُ أتلاكاتلي
تحرّكت الأشجارُ لتحمينا، جدّتي وأنا.
وبعدها شاع في المنطقة كلِّها
أنّ جنودَ الجيش النظاميّ
عادوا لينظّفوا إلموزوتي.
يمكنك أن تشمّ رائحةَ اللحم المتعفّن
من بيوت المزارع البعيدة.
سحبوا الجثثَ من كنيسة "الملوك الثلاثة"
ودفنوها جميعًا معًا.
لكنّ الكنيسة بقيتْ تفوح برائحة الجثث.
هامَت الخنازيرُ تأكل كواحل الأموات،
لذا قال الجنود: "لا تأكلوا ذلك الخنزيرَ، فقد أكل لحم البشر!"
لا أحد يلتقط دمى العرائس، ورق اللعب، الأمشاط،
حمّالاتِ الصدر، الأحذية المبعثرة.
في أرجاء القرية
لا أحد يصلّي لعذراوات الكنيسة المخردقاتِ بالرصاص
أو لرؤوسِ تماثيلَ مفصولةٍ عن أجسادها،
لقدّيسين.
في "مقصورة الاعتراف" جمجمةٌ،
وعلى الجدار شعارات:
"كتيبة أتلاكاتلي مرّت من هنا...
هنا نتغوّط على أبناء العاهرات
وإذا لم تجدوا خصاكم أخبروا كتيبةَ أتلاكاتلي أن ترسلها إليكم.
نحن ملائكة الجحيم الصغار،5
نريد القضاء على الجميع
لنرَ مَن يقلّدنا
أنا وأنا وأنا وأنا وأنا وأنا
المارا العصابة؟6
أطفال جنود الـ81
أطفال مذبوحي الـ81."
لا شيء يضيع في أميركا الوسطى
خصرُ قارّةٍ نحيل
كلّ شيء يورَّث،
وكلُّ الأحقاد تذهب من جيل إلى جيل.
*من كتاب عائلات سعيدة (Todas las Familias Felices)، الصادر في مدريد سنة 2006،وفيه 16 قصة قصيرة و16 قصيدة.
1 ــــ مجزرة إلموزوتي: من أبشع المجازر التي ارتكبتها "فرقُ الموت" التابعة للحكومة السلفادوريّة خلال الحرب الأهليّة بين عاميْ 1980 ــــ 1992. استمرت المجزّرة من 9 إلى 13 ديسمبر 1981، وشملتْ أربعَ قرًى مجاورة.
2 ــــ جبهة فارابندو مارتي: ائتلافُ القوى المعارضة للدكتاتوريّة خلال الحرب الأهليّة. مارتي هو قائد ثورة الفلّاحين سنة 1932. قضى في مجزرة على يد قوات الدكتاتور مكسيميليانو مارتينيز.
3 ــــ أظهرت التحقيقاتُ في ظروف المجزرة وجودَ نيّاتٍ مبيَّتةٍ من قِبل قوّات الحكومة لتضليل أهالي المنطقة كي لا يغادروا.
4 ــــ بعد مضيّ عشرات السنين على وقوعها، اكتشف عددٌ من الضحايا ــــ الأطفال الذين فقدوا كلّ عائلاتهم، أنّهم نشأوا في أحضان عائلاتِ ضبّاطٍ شاركوا في المجزرة.
5 ــــ ملائكة الجحيم (The Hells’ Angels) هو الاسم الذي كانت تطلقُه "فرقُ الموت" على نفسها.
6 ــــ إلمارا: اختصار لـ "المارا سالفاتروشا" (حرفيًّا: عصابة النمل الشرس). وهي عصابة تستخدم الجريمة لتحقيق أهدافها، ومنها حمايةُ المهاجرين من السلفادور في الولايات المتّحدة من العصابات المنافسة (المكسيكيّة والبورتوريكيّة وغيرها). ثمّ تطوّرتْ لتصبح من أشرس عصابات الإجرام. تشكّلتْ في لوس أنجلوس أوائل الثمانينيّات، ثمّ انتشرتْ في معظم الولايات الأخرى. تتمتّع الآن بحضور قويّ في السان سلفادور ــــ العاصمة. قوامُها من المرحّلين من المهاجرين السلفادور بعد قضاء الكثير منهم فتراتٍ في السجون الأميركية لقيامهم بأعمال إجراميّة، وحيث يتمّ تنسيبُهم وتدريبُهم.