كلاريس ليسبكتر**
نقلها من الإنجليزيّة: محمّد منصور
مَن لم يسرقْ من قبل فلن يفهمَني. ومنْ لم يسرقْ ورودًا من قبل فلن يمكنَه أن يفهمني. عندما كنت صغيرةً، كنتُ أسرق الورود.
في مدينة Recifieكانت ثمّة شوارعُ لا تُحصى. على جانبي شوارعِ الأغنياء، كانت تصطفّ قصورٌ صغيرةٌ، تتوسّط حدائقَ ضخمةً. كنّا نحبّ، أنا وصديقتي، أن "نتحزّر" عن هويّة أصحاب تلك القصور الصغيرة: "ذلك البيت الأبيض لي." "لا، لقد سبق أن قلت لك إنّ البيوت البيضاء لي أنا." "لكنّ هذا البيتَ ليس أبيض بالكامل؛ فله نوافذُ خضراء..."
في بعض الأيّام، كنّا نقضي وقتًا طويلًا، بوجهينا الضاغطيْن على السياج، نتفرّج.
هكذا بدأ الأمر: في أحد الأيّام، وأثناء لعبة "هذا البيت لي،" توقّفنا أمام منزلٍ يشبه قلعةً صغيرةً. خلفه، استطعنا رؤيةَ بستانٍ هائل. وأمامه، أحواضٌ رُتّبتْ بعناية، مزروعةٌ بالأزهار.
على أيّة حال، بعيدًا، كانت ثمّة وردةٌ في حوضها الخاصّ، نصفَ متفتّحة، ذاتَ لونٍ زهريّ داكن. وقفتُ مذهولةً، أحدّقُ بإعجاب إلى هذه الوردة المختالة التي لم تكن قد أصبحت امرأةً بعدُ. ثمّ حصل ذلك الأمرُ: إذ تمنّيتُ هذه الوردةَ لنفسي، من أعماق قلبي. أردتُها. آهٍ، كم أردتُها! لم يكن هنالك سبيلٌ إلى نيلها. لو كان البستانيّ هناك، لطلبتُ الوردةَ منه، برغم معرفتي أنّه سيطردنا كما يَطرد الأطفالَ المشاكسين. لم يكن ثمّة بستانيّ. لم يكن ثمّة أحد. وبسبب الشمس كانت النوافذُ مغلقةً. كان شارعًا لا يصله الترامُ، ونادرًا ما تَعْبره السيّاراتُ. بين صمتي وصمتِ الوردة، كان اشتهائي لتملّكها ــــ ففد كانت شيئًا مِلْكي أنا وحدي. أردتُ أن أتمكّنَ من القبض عليها. أردتُ أن أتنشّقَها حتّى الغشيان، وحتى يذوي بصري بسبب الدوار الذي يسبِّبه عطرُها.
لم تعد لي طاقةٌ على التحمّل. وفي لحظة هبطتْ عليّ الخطّةُ، في موجةٍ من الشغف. لكنْ، لكوني مخرجةً عظيمةً، فقد فكّرتُ برويّة المتعقّل مع صديقتي، شارحةً لها ما سيكون دورُها: أن تراقبَ نوافذَ المنزل، واحتمالَ وصول البستانيّ، وأن ترصدَ المارّةَ القلائل في الشارع. في غضون ذلك، فتحتُ ببطءٍ بوّابةً في السياج الصدئ، مدركةً أنْ سيُحدثُ ذلك بعضَ الصرير. فتحتُها بما يكفي لمرور جسدي النحيل. وعلى رؤوس أصابعي، إنّما بسرعة، عبرتُ الحصى المحيطَ بالأحواض. في الفترة التي استغرقها بلوغي الوردةَ، كان قرنٌ من دقّاتِ القلب قد عَبَرَ.
ها أنا أقفُ قبالتها أخيرًا. أتوقّفُ لحظةً، برغم الخطر، لأنّها عن قربٍ بدت أكثرَ جمالًا من قبلُ. بدأتُ بقصف الجذع، والشوكُ يخزني، فيسيل الدمُ من أصابعي.
فجأةً... هي ذي، كلّها جمعاءَ، في يدي. وكان عليّ أن أهرولَ عائدةً إلى البوّابة، بصمتٍ أيضًا. عبرتُ البوّابةَ نصفَ المفتوحة، وأنا أقبضُ على الوردة. ثم ركضنا، شاحبتيْن، الوردةُ وأنا، مبتعدتيْن عن المنزل.
وماذا فعلتُ بالوردة؟ هذا ما فعلتُه: لقد باتت لي!
أخذتُها إلى بيتي. وضعتُها في زهريّة ماءٍ، حيث تسيّدَتْ، متبوِّئةً عرشَها، ببتلاتها المخمليّةِ المكتنزة، ذاتِ اللونِ الزهريّ المتعدّدِ الظلال. في وسطها كان اللونُ أشدَّ كثافةً، وكاد لونُ القلب أن يكون أحمرَ تقريبًا.
كان الشعورُ رائعًا.
كان شعورًا رائعًا إلى حدّ أنني، ببساطة، بدأتُ أسرقُ الورود. كانت العمليّة تتمّ بالطريقة نفسها دائمًا: صديقتي تقوم بالمراقبة، بينما أدخل، فأقصف الجذعَ، ثمّ أهربُ والوردةُ في يدي، دائمًا بقلبٍ متسارعِ النبضات، ودائمًا بذلك الشعور بالاعتزاز الذي لا يمكن أيًّا كان أن يسلبَني إيّاه.
سرقتُ أيضًا توتًا أحمر. كانت هنالك كنيسةٌ مشيخيّةٌ قرب منزلي، يحيط بها سياجٌ أخضرُ مرتفعٌ وكثيفٌ إلى حدِّ أنّه يَحْجب رؤيةَ الكنيسة. لم أتمكّن قطُّ من رؤية ما يتجاوز زاويةَ سقف الكنيسة. كان السياجُ مصنوعًا من توتِ البيتانغا. لكنّ توت البيتانغا فاكهةٌ مخبوءة، لم أرَ أيًّا من حبّاتها قطّ. لذا، بعد الاستطلاع للتأكّد من خلوّ المكان من القادمين، أدخلتُ يدي بين قضبان السياج، وغرزتُها فيه، متحسّسًا بأصابعي ما حولي، إلى أن لمستُ تلك الفاكهةَ النديّة. كثيرًا ما هرستُ، بسبب تسرّعي، حبّاتِ توت يانعةً، فبدت أصابعي وكأنّها ملطّخةٌ بالدم. قطفتُ عنقودًا من حبّات التوت، وبدأتُ بالتهامها هناك، ورميتُ الحبّات التي كانت أكثرَ خضرةً ممّا ينبغي.
لم يعلم بذلك أحدٌ قطّ. وأنا لست نادمةً؛ فلسارق الورودِ وتوتِ البيتانغا مائةُ عامٍ من المغفرة. إنّ حبّات توت البيتانغا، مثلًا، لَيَتوسّلنَ القطافَ، بدلًا من أن ينضجن، ثمّ يمتن على الغصن، عذراواتٍ.
* نُشرتْ بالبرتغاليّة في البرازيل عام 1971. ترجمتْها إلى الإنكليزيّة كاترينا دودسون، ونُشرتْ مع 85 قصة أخرى سنة 2015، ضمن القصص الكاملة لكلاريس ليسبكتر عن دار New Directions. ونشرتْ بالإنكليزيّة في باريس ريفيو، عدد آذار2016، ترجمة راتشيل كلاين (Rachel Klein). وعنها تمّت الترجمة هنا إلى العربيّة:
www.theparisreview.org/fiction/6113/two-stories-clarice-lispector
** كلاريس ليسبيكتر (1977-1920)
وُلدتْ في غرب أوكرانيا لعائلة يهوديّة هاجرتْ إلى البرازيل، وهي في سن الرضاعة، عقب انتهاء الحرب العالميّة الأولى. توفّيتْ والدتها وهي في التاسعة، فانتقلت مع والدها وإخوتها إلى العاصمة ريو دي جانيرو حيث درست القانون.
نشرت أولى قصصها القصيرة، "النصر" (Triunfo)، عام 1940. نشرت أولى رواياتها في سنّ الثالثة والعشرين، وكانت بعنوان قريبًا من القلب المتوحّش (Perto do coracao)، فحقّقتْ لها شهرة كبيرة، ونالت جائزة غراكا أرانيا (Graca Aranha Prize).
نشرت رواية علاقات عائليّة (Lacos de familia) سنة 1960، واعتبرها الناقد فرناندو سابينو أفضل رواية نُشرتْ في البرازيل.
في العام 2015 صدرت لها المجموعة القصصيّة الكاملة، وهي تحتوي على 85 قصة قصيرة، منها هذه القصّة.