منذ أيّام، وتحديدًا في 17 نيسان (أبريل)، مرّت الذكرى الرابعة لرحيل غابرييل غارسيا ماركيز. فارتأيتُ أنّه قد يكون مثيرًا للاهتمام الإضاءة على اسلوب عمله، وذلك عبر ترجمة كلمةٍ ألقاها في مؤتمرٍ للكتّاب وضمّنها حكايةً كان يفكر في كتابتها
م م.
***
أوّلًا، وقبل كلّ شيء، أعذروني للتحدّث جالسًا، لكنّ الحقيقة هي أنّني لو نهضتُ لجازفتُ بالسقوط بسبب الخوف. لطالما اعتقدتُ أنّ أكثرَ الدقائق الخمس رهبةً في حياتي هي عبورُ ممرِّ طائرةٍ على متنها عشرون أو ثلاثون راكبًا، لا [الجلوسُ] أمام مئتيْ صديق كما هو الحالُ الآن. مِن حسن الحظّ أنّ هذه اللحظة ستمنحُني فرصةَ التحدّث عن أدبي، إذ أعتقد أنّني بدأتُ مسيرتي كاتبًا، شأنَ وجودي ههُنا، مكرَهًا. أعترف بأنني قد فعلتُ كلّ شيء كي أتغيّب عن هذا اللقاء: فقد حاولتُ أن أمرض، وسعيتُ إلى أن أصابَ بنزلةٍ صدريّة، وقصدتُ الحلّاق علّه يذبحني، وأخيرًا خطرَ لي أن آتي من دونِ بذلةٍ وربطة عنقٍ كي لا يُسمح لي بدخول اجتماعٍ رسميّ كهذا ــ ــ لكنْ فاتني أنّنا في فنزويلا، حيث تستطيع حضورَ جميع المناسبات مرتديًا قميصًا فقط. في المحصّلة، ها أنا هنا ولا أدري من أين ابدأ.
غير أنّني أستطيع إخبارَكم، مثلًا، كيف بدأتُ الكتابة.
***
لم يخطرْ لي قطّ أنّ في إمكاني أن أصيرَ كاتبًا. لكنْ، خلال أيّام دراستي، نشر إدواردو زالاميا بوردا، مُحرِّرُ الملحق الثقافيّ لجريدة الإسباكتادور ـــ بوغوتا، مقالًا كتب فيه أنْ ليس عند جيلِ الكتّاب الشباب ما يُقدّمونه، وأنّه لا يستطيع رؤيةَ أيّ قاصّ أو روائيّ جديد أنّى نظر. وانتهى إلى خُلاصةِ أنّه يتحمّل المسؤوليّة عن ذلك لعدم نشر جريدته سوى لكُتّابٍ مُسنّين ومعروفين، ولعدم إعطاء كُتّابٍ شبابٍ الفرصةَ، إذ إنّ الحقيقةَ، كما كان يظنّ، هي عدم وجود كُتّاب شباب.
ترك ذلك لديّ شعورًا بالتضامن مع زملاء جيلي، وقرّرتُ كتابةَ قصّة، لا لشيء سوى لإغلاقِ فم إدواردو زالاميا بوردا، الذي كان صديقًا كبيرًا لي، أو صار كذلك على الأقلّ لاحقًا.
جلستُ وكتبتُ القصَة، وأرسلتها لـ الاسباكتادور. الرعب الثاني جاءني نهارَ الأحد التالي، عندما فتحت الجريدةَ لأجدَ قصّتي تحتلُّ صفحةً كاملةَ، مذيَّلةً بتعليقٍ لإدواردو زالاميا بوردا يَعترف فيه صراحةً بخطئه، إذ يقول بوضوح إنّه "بهذه القصّة تَظهر عبقريّةُ الأدب الكولومبيّ" أو شيئًا من هذا القبيل. يومَها مرِضتٌ وقلتُ لنفسي: "أيّ ورطة أقحمتُ نفسي فيها؟ وما السبيل الآن إلى تجنّب الإساءة إلى إدواردو زالاميا بوردا؟" أن أستمرَّ في الكتابة: كان ذلك هو الجواب.
لطالما واجهتني مشكلةُ الموضوعات. فقد كنتُ مضطرًّا دائمًا إلى البحث عن قصّةٍ يتسنَى لي كتابتها.
وهذا يتيح لي أن أخبرَكم شيئًا تأكّد لي الآن، بعد نشري خمسةَ كتب: أنّ مهنة الكاتب قد تكون الوحيدةَ التي تزدادُ صعوبةً كلّما زادت ممارستُها. إنّ السهولة التي كتبتُ بها تلك القصّةَ، ذاتَ مساء، لا يُمكن أن تقارَنَ بالجهد الذي تتطلّبه الآن كتابةُ صفحةٍ واحدة.
***
أمّا بالنسبة الى منهجي في العمل، فهو شديدُ الشبه بما أقولُه الآن. لا أعرف أبدًا كم أستطيع أن أكتب، او ماذا سأكتب. أنتظرُ إلى أن يَخطر لي شيء، وعندما أعثر على فكرةٍ أعتقدُ أنَها تَصلح للكتابة، أقلّبها في رأسي حتى تَنضج. وعندما تُصبح جاهزةً (وأحيانًا قد يَستغرق ذلك أعوامًا كثيرة، كما في حالة مائة عام من العزلة التي استغرقتْ تسعةَ عشرَ عامًا من التفكير)، عندما تُصبح جاهزةً، أكَرر، عندها أجلسُ للكتابة.
وهناك يبدأ الجزءُ الأصعب والأكثرُ ضجرًا. ذلك لأنّ ألذّ ما في القصّة هو استلهامُها وتخيّلُها؛ تدويرُها في رأسي؛ تقليبُها. وإعادةُ تقليبها، وذلك ما يُفقد القصة اهتمامي ساعةَ الجلوس لكتابتها.
سوف أروي لكم، مثلًا، الفكرةَ التي تدور في رأسي منذ سنين، وأشكّ في أنّها ناضجةٌ بالكامل. سأحكيها الآن لأنني متأكّدٌ أنّني حين أكتبها، لا أدري متى، سوف تجدونها مختلفةً كليًّا. وباستطاعتكم، حينها، أن تلاحظوا كيف تطوّرتُ(1).
تخيّلوا بلدةً صغيرةً جدًّا، تعيش فيها سيّدةٌ مسنّةٌ مع ولديْها: ابن في السابعة عشرة، وابنة في الرابعة عشرة. تُعدّ وجبةَ الإفطار، وتبدو على مُحيّاها علاماتُ القلق. يسألها ولداها عن سبب قلقها فتجيبهما:
ــــ لا أدري. لكنّني اسيقظتُ وقد انتابني حدسٌ بأنّ أمرًا خطيرًا سوف يَحلّ بهذه البلدة.
يضحك الولدان ساخريْن من أمّهما. يقولان إنّ تلك هواجسُ عجوزٍ، عفا عليها الزمن.
يخرج الابنُ ليلعب البلياردو. وفي اللحظة التي يهمّ فيها بإدخال كرةٍ عن طريق إصابة كرةٍ أخرى ــــ وهي مُهمّة بدت سهلةً جدًّا ــــ يقول اللاعبُ الآخر:
ــــ أراهنك على بيزو واحدٍ بأنّك لن تستطيع إدخالَها.
يضحك الجميع. ويضحك الابن. يسدِّد، فيُخفق. يدفع البيزو، ويتساءل الجميعُ عمّا حصل؛ فقد كانت ضربةً سهلةً جدًّا. يجيب:
ــــ بالتأكيد. لكنّني مضطربُ الذهن بسبب ما قالته أمّي هذا الصباح عن أمرٍ خطيرٍ سوف يَحلّ بهذه البلدة.
يضحك الجميع ساخرين منه، ويعود رابحُ البيزو إلى بيته، حيث والدتُه بصحبة حفيدةٍ أو قريبةٍ ما. سعيدًا بفوزه بالبيزو، يقول:
ــــ كسبتُ هذا البيزو من داماسو بأسهل وسيلة، لأنّه أبله.
ــــ ولماذا أبله؟
ــــ ياه، لأنه أخفق في تسديد ضربة بلياردو بسيطة جدًّا. فقد كان مشتَّت الذهن بسبب هاجس أفاقت به والدتُه بأنّ أمرًا خطيرًا سوف يحلّ بهذه البلدة.
فتقول والدتُه:
ــــ لا تسخرْ من هواجس العجائز لأنّها تصيب أحيانًا.
تسمع القريبةُ ما يدور وتذهب لشراء اللحوم. تقول للجزّار:
ــــ أعطِني رطلًا من اللحم.
حين يبدأ اللحّامُ بجز اللحم، تضيف: من الأفضل أن تجعل ذلك رطليْن؛ فهم يُشيعون أنّ أمرًا خطيرًا سوف يحدث، ومن الأفضل أن أكون مستعدّة.
يعطيها الجزّارُ لحومَها. وعندما تصل سيّدةٌ أخرى لشراء رطلٍ من اللحم، يقول:
ـــ خذي رطليْن لأنّ الناس يأتون إلى هنا و يقولون إنّ أمرًا خطيرًا سوف يحدث. وهم يتجهّزون ويشترون الأغراض.
تجيب السيّدة:
ــــ لديَّ أبناء كثر. انظرْ، أعطِني أربعة أرطال.
أعطاها اللحّام الأرطال الأربعة. وكي لا أطيلَ الحكاية، سأقولُ إنّ الجزارَ باع كلَّ ما عنده من اللحوم خلال نصف ساعة. كان يَذبح بقرةً تلو أخرى، فيبيع كلَّ شيء، وينشر الشائعة.
ثمّ تأتي اللحظة التي بات فيها كلُّ سكّان البلدة يترقّبون حدوثَ شيءٍ ما. تُشَلُّ الحركةُ بالكامل. وفجأةً، في تمام الساعة الثانية من بعد الظهر، يقول أحدُهم:
ــــ هل تلاحظون ما تفعله شدّةُ الحرّ؟
ــــ لكنّ الحرّ شديد دائمًا في هذه البلدة!
(الحرّ شديدٌ في هذه البلدة إلى درجة أنّ الموسيقيين يَطْلون آلاتِهم بالقار، ويَعزفون في الظلّ، لأنّهم لو عزفوا في الشمس فستتفتّت آلاتُهم إلى قطعٍ صغيرة).
ــــ لكنْ، يقول أحدهم، في مثل هذا الوقت من النهار لم تَبلغ الحرارةُ هذه الدرجةَ قطّ.
ــــ لكنّ الثانية من بعد الظهر أكثرُ الأوقات حرًّا.
ــــ أيْ نعم، إنّما ليس كمثل درجة الحرارة الآن.
وإذ كانت البلدة خالية، والساحةُ مهجورةً، يحطّ فجأةً عصفورٌ صغير، فينطلق صوت:
ــــ هنالك عصفور في الساحة!
يأتي الجميع، مذعورين، ليشاهدوا العصفور.
ــــ لكنْ، أيّها السادة، العصافيرُ تحطّ دائمًا.
ــــ صحيح، لكنْ ليس في مثل هذه الساعة.
ثمّ تأتي اللحظة التي يشتدّ فيها توتّرُ سكّان البلدة، فيشعر الجميعُ بيأسٍ يحُثّهم على الرحيل. لكنّهم لا يجرؤون.
ــــ أنا لا أخاف، يصيح أحَدُهم. سوف أرحل!
يجمع أمتعته، وأبناءه، وحيواناتِه، في عربة، ويَعْبر الشارعَ الرئيسَ، والسكّانُ الفقراء يَرقبونه. إثمّ تأتي اللحظة التي يقولون فيها:
ــــ إنْ كان هذا الرجلُ يستطيع الرحيل، فنحن أيضًا نستطيع، وإنّا لراحلون.
ثم يبدأون بتفكيك البلدة (بالمعنى الحرْفيّ للكلمة). يحملون الأمتعة، الحيوانات، كلَّ شيء.
واحدٌ من بين آخر الراحلين عن البلدة يقول:
ــــ لا أريد أن يحلّ الشؤمُ على ما تبقّى من منزلنا.
ثم يُشعل النارَ به، فيُشعِل الآخرون النارَ بمنازلهم أيضًا.
يفرّون في حالة هلعٍ شديدٍ وحقيقيّ، تشبه حالةَ الفرار من حرب. ومن بين الجموع تلتفتُ السيّدة التي استشعرتْ فألَ الشؤم إلى ابنها الذي إلى جانبها وتقول:
ــــ لقد قلتُ إنّ أمرًا خطيرًا سوف يَحلّ بهذه البلدة، فقالوا إنّني مجنونة.
* كلمة ألقاها ماركيز في مؤتمرٍ للكتّاب عُقد في كاراكاس ـــ فنزويلا بتاريخ 3 مايو 1970 عن الفَرق بين حكاية القصة وكتابتها. وقد وردتْ ضمن دراسةٍ لخمسة عشر خطابًا وكلمةً ألقاها ماركيز في مناسباتٍ مختلفة، ونشرتها سودأميريكانا بعنوان "لم آتِ لألقيَ خطابًا،" تضيء على أسلوب عمل ماركيز وإبداعه. وقد نشرها ديكلي رودريغيز غوميس على مدوَّنته:
Decly.patria.org.ve/wp-content/uploads/sites/3/2014/04yo-no-vengo-a-decir-un-discurso.pdf
(1) لا دليل على أنّ ماركيز كتب هذه الحكايةَ على شكل قصّةٍ فيما بعد. وقد نُشرت الحكايةُ، الواردةُ بالبنط الأسود في هذه الكلمة، على بعض المدوَّنات، تحت عنوان "أمرٌ خطيرٌ سوف يحلّ في هذه البلدة."