كاتب من اليمن، مقيم في ألمانيا. مهتمّ بشؤون الثقافة والسياسة والاجتماع. نشر مقالات في العديد من الجرائد والمواقع.
الحريّة إشكاليّة في جميع جوانبها ــــــ بدءًا من إمكانية وجودها في الأساس، مرورًا بتعريفها ذاته، ومن ثمّ حدودها وتمظهراتها وعلاقتها بالتاريخ والأخلاق. ويبدو أنّ تقدّم التاريخ الإنسانيّ قد أحدث نقلاتٍ في مشكلة الحريّة، التي تحوّلتْ في عصرنا من مشكلةٍ نخبويّةٍ إلى إشكالٍ ملحٍّ يُطلّ برأسه حتى من "التفاصيل" ويهمّ عمومَ الناس... بل قد يتفجّر من رسم كاريكاتور.
في يناير 2016 نشرتْ صحيفة شارلي إيبدو الفرنسيّة رسمًا كاريكاتوريًّا "يتنبّأ" بأنّ الطفل الكرديّ إيلان، لو نجا من الغرق، فسيكون أحدَ المتحرّشين بالنساء في شوارع أوروبا. ما يهمّنا هنا هو الإشكاليّات الأخلاقيّة والسوسيولوجيّة التي تكمن في السياق الثقافيّ لهذا الكاريكاتور.
يرتكز التنظيرُ الأساسُ لأهمّيّة السخرية في الحيّز العامّ على أنّها، فعلٌ عدوانيّ/ابداعيّ يحارب الصنميّة، فيَهبط بكلّ "الرموز" إلى العالم الدنيويّ ــــــ وهذا من منظار مبسّط وعامّ أمرٌ سليم. ولكنْ تحدث هنا مغالطةٌ كبرى، يتقنها كثيرٌ من الكتّاب، وهي استعمالُ أفكارٍ ديمقراطيّةٍ من أجل نزع التنظير من سياقه، ليتحوّل بعد ذلك إلى أسطورةٍ "يتوجّب" الاعتقادُ بها في كلّ حالة بلا تمييز كي يصبح المرءُ "حرًّا" و"ديمقراطيًّا."
لكنْ ما هو "الوثن" المزعوم الذي تهشّمه السخريةُ من طفلٍ مات غرقًا وهو هارب، بمعيّة أسرته، من إبادةٍ جماعيّة؟
الواقع أنّ هناك أسطورةً مركزيّةً في أدبيّات عالمنا المعاصر تشارك السخريةَ من إيلان فعلًا في هدمها، أو إنزالِها من مركزها إلى مجرد أكذوبة، ألا وهي أسطورة "احترام الإنسان" التي يقوم عليها، نظريًّا على الأقلّ، عالمُ ما بعد الحرب العالميّة الثانية: من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، إلى الهيئات والمنظمات الدوليّة والحقوقيّة، فالقانون الدولي، بل حريّة التعبير أيضًا التي يستند اليها وجودُ صحيفة شارلي ايبدو ذاته! وبمعنًى آخر، فإنّ السخرية من إيلان تغدو نقضًا للمبرّر الأخلاقيّ لوجود صحيفة ساخرة في الفضاء العامّ!
بالإضافة الى ذلك، هناك جانب نفسيّ/ثقافيّ، يفضحه تقبّلُ قطاعاتٍ اجتماعيّةٍ لهذا الرسم وتفاعلُها الإيجابيُّ معه. وهنا نحيل على كلاسيكيّات سيكولوجيا النكتة. فالنكتة غالبًا ــــــ والضحكُ عمومًا ــــــ تمظهرٌ مراوغٌ لنزوعٍ عدوانيّ؛ أما السخرية في رأينا فتعبيرٌ واضحٌ عنه. ويظهر ذلك في مستوياتٍ عديدة، بما فيه الجذرُ اللغويّ في العربيّة؛ ذلك أنّ لفظ "سخّر،" بتضعيف الفعل الثلاثيّ وفتحِ عينِ الفعل، يعطي دلالة القهر والقسر.
رأى فرويد، بالاستناد إلى عمانويل كانت، أنّ الضحك والفكاهة تصريفُ طاقةٍ فائضةٍ كانت ستُبذل في عمليّاتٍ نفسيّةٍ أخرى. وبالإمكان القول إنّ السخرية العنصريّة واللاإنسانية عمومًا هي استخدامٌ للطاقة التي كان يُفترض أن تُصرف في مناهضة التنميط، وفي كبحِ التخفّف من الاعتبارات الأخلاقيّة والشطط الشعبويّ. ومن هذا المنظار تصبح السخريةُ اللاإنسانيّة في حالة إيلان هروبًا من محاولة وضع أزمة اللاجئين ومسألة الجنس في العالم العربيّ في سياقهما التاريخيّ والإنسانيّ، أيْ هروبًا من نقد الواقع بما هو عملٌ أخلاقيّ.
ولكنْ هذا ليس كلَّ ما في الأمر. فهذه الشعبوية ليست مجرّدَ سلوكِ صحيفة واحدة، بل هي أشبهُ بنهرٍ صغيرٍ يصبّ في بحر الإيديولوجيا التي تتشكل عالميًّا الآن. وهذه الإيديولوجيا تتلخّص في متلازمةٍ تتغذّى ذاتيًّا، هي: مكافحة إرهاب الحركات الأصوليّة/ ودعمُ إرهاب الدولة. وستكون الأداةَ الرئيسةَ في مقارعة أيّ تحرّكٍ معادٍ للأنظمة العربيّة، والردَّ الأوّلَ على كلّ مفاعيل الإبادة الجماعيّة في سورية أو العراق. ومن الواضح أنّها تقوم بشبْك خطاباتٍ مختلفةٍ تاريخيًّا على مستوى العالم: من خطاب مرشّح الحزب الجمهوريّ للانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة دونالد ترامب، مرورًا بخطاب اليمين المتطرّف في أوروبا والأنظمة القمعيّة العربيّة وإسرائيل وإيران وروسيا البوتينيّة.
إنّنا نشهد، فعليًّا، تشكيلَ إحدى أقذر الديباجات الأيديولوجيّة للتعامل العلنيّ مع أنظمةٍ قمعيّةٍ تقود عمليّات إبادة جماعيّة في حقّ شعوبها. وجُلّ ما فعلتْه شارلي أيبدو في رسمها الكاريكاتوريّ كان قولَ ما لا يجرؤ سياسيون شعبويون أحيانًا على قوله وإنْ كانوا يعتقدون به. فوزيرُ الداخليّة الألمانيّ توماس دي ميزير، مثلًا، قال في أحد تصريحاته العامَ الماضي إنّ اللاجئين "ناكرون للجميل" (علمًا أنّ هذا التعبير يُستخدم ضمن الأسرة أو بين الأصدقاء، ومن اللؤم استخدامُه في نقاشٍ عموميّ). هذا الوزير، ومعه اليمينيون المتطرّفون في أوروبا، يؤمنون بأنّ اللاجئ الجيّد هو اللاجئ الغريق، ولكنّهم بالطبع لا يصرّحون بذلك علنًا؛ في حين أنّ شارلي إيبدو قالته بوقاحة استنادًا إلى "حريّة التعبير" في الفضاء العامّ. وهنا يلتحم عملها مع عمليات صياغة الإيديولوجيا الجديدة.
***
هناك أزمةُ أخلاقٍ في بنية العالم السياسيّ، ولكنّها اليومَ أشدُّ وضوحًا فحسب. واذا كانت شارلي إيبدو لا تتورّع، بذريعة "حريّة التعبير،" عن نشر "إبداع" عنصريّ لاإنسانيّ، فإنّ هناك انحطاطًا طاعونيًّا شهده العالمُ في حملة السخرية من تجويع مضايا السوريّة.
وهنا تظهر الفوارقُ في تمظهرات الانحطاط في الثقافات السياسيّة. فإذا كانت السخريةُ من إيلان في ثقافة أوروبا الغربيّة تقوم على أساطير مؤسِّسة مثل "حريّة التعبير" و"انطلاق الإبداع،" وتستفيد من تشظّيات المفاهيم في عصر ما بعد الحداثة، فإنّ السخرية من مضايا لا تستند إلّا إلى إيديولوجيا "المقاومة والممانعة" الفجّة المباشرة، من غير الحاجة إلى أيّة أساطير أو وسائطَ فنيّة. ولعلّنا نتذكر اقتراحَ أحمد شلاش، عضو مجلس الشعب السوريّ، حرق مضايا بمن فيها من جوْعى. وفي هذه الحالة بالذات يختلط الأمرُ على المرء، ولا يستطيع الجزمَ إنْ كان قولُ شلاش مجرّدَ سخرية دنيئة أو تقديم مقترح جادّ للنظام السوريّ.
في حالة شارلي إيبدو، لا تكون الردودُ مؤثّرةً إلّا في سياق الأساطير ذاته: مثل حملات الرأي العامّ، والمحاضرات، والمظاهرات، والمقاطعة، او كما فعل الفنّانُ الفلسطينيّ/السوريّ هاني عبّاس الذي رد على الصحيفة بكاريكاتور أيضًا. وقد أثبتت التجاربُ المتكرّرة أنّ عقابيل توظيف العنف المباشر في الردّ على خطاب عامّ غيرُ مشجّعة. فكرة "المنع" ذوت في المجتمعات الديمقراطيّة بعد كفاح اجتماعيّ وثقافيّ طويل استبطنه النظامُ الرأسماليُّ في النهاية، فتحوّل المنعُ إلى تقليدٍ يستبطنه منتِجُ الخطاب، فيكون رقيبًا على نفسه. وأسبابُ ذلك تخصّ الربحَ في المقام الأول؛ ذلك أنّه في المجتمع الرأسماليّ يتلازم إنتاجُ الخطاب ومؤسّساتِه مع المصالح الماديّة، لكون أغلب المؤسّسات الصحفيّة والقنوات التلفزيونيّة ودُور نشر الكتب، بل بعض المراكز البحثية أيضًا هي في النهاية مؤسّسات ربحيّة.
من الأهميّة بمكان اعتبارُ مناهضة الممارسات العنصريّة والتنميط في المجتمعات الأوروبيّة قضيّةً إنسانيّةً وأخلاقيّة، بعيدًا عن أيّ شحن إيديولوجيّ. واستبطان هذا الفهم يُبعد المناهضة عن العنف، وهذا بدوره يجعل من اشتراك قطاعات اجتماعيّة مختلفة في رفض العنصريّة أمرًا ممكنًا. كما أنّ هذا الفهم يحمي خطاب "المظلوم" من فخّيْن خطيريْن:
ـــ الأول هو فخّ اعتبار الخيريّة من مقتضيات المظلوميّة. إنّ تجاوز هذا الفخّ التاريخيّ يسمح لنا بالاعتراف بمصائبنا وأمراضنا الاجتماعيّة المعقّدة، وأن نضفرها مع وقائع الظلم والتنميط، بعيدًا عن استدرار الشفقة أو تقديس الذات بدعوى الاضطهاد. إنّ فهمَ المظلوميّة كقضيّة إنسانيّة وأخلاقيّة يسمح لكلّ مناهضي الظلم بأنسنة تلك المشاكل من خلال وضعها في سياقاتها المركّبة، والاجتهاد العلميّ المحترم في تحليلها، وتقديم طروحات عقلانيّة بخصوصها.
ـــ الفخّ الثاني هو فخّ "شحت" إعجاب الأوروبي بنا. فالانحياز إلى قضايا إنسانيّة وأخلاقيّة كبرى في مجتمعٍ ما يعني التورّط في معارك رأي عامّ تهدف إلى دفع القطاعات الاجتماعية المختلفة إلى الاضطلاع بواجبها الإنسانيّ والأخلاقيّ، لا الانخراط في دعم هذه القضايا من منطلق التكرّم.
***
أما السخرية من تجويع مضايا فلها سياقٌ كارثيّ مكوّن من الطائفيّة والإيديولوجيا والنزعة الوثنيّة. وهذا يجعلنا نسلك مذهبًا آخر في التحليل:
إنّ السخرية من بشرٍ يموتون جوعًا، بأخذ صور لموائدِ طعامٍ عامرةٍ بما لذّ وطاب ونشرِها في شبكات التواصل الاجتماعيّ، ما هي إلّا تمظهرٌ لسايكوباثية متجذّرة في هؤلاء الساخرين. هؤلاء لا يمكن إلّا أن يكونوا مشوّهين نفسيًّا. وهذه السايكوباثيّة الجماعاتيّة لا تقارَع عبر معارك رأي عامّ تقليديّة، بل بمشروع سياسيّ ديمقراطيّ ومواطني، تحمله قوًى وطنيّة، يَسمح بتعافي السايكولوجيا الجمعيّة من جروحها المروّعة. وجليّ أنّ هذا الطريق طويلٌ ومليءٌ بعقبات سياسيّة، إقليميّة ودوليّة، وتصعّبه باستمرار يوميّاتُ التقتيل والاحتراب، ويحتاج جيلًا كاملًا على الأقلّ حتى يؤتي ثمارًا مقْنعة.
***
ليست السخريةُ مرجعًا في ذاتها، بل تخضع عندما نقوِّمها لثنائيّة الظالم والمظلوم، الاستبداد والحرية. فالتهكّم من ايلان ومضايا جريمة بالمعنى الأخلاقيّ، أما حين يَسْخر شادي أبو زيد في مصر من نظام فاشيّ ورثّ كالنظام المصريّ، فإنّه يقْدم على عمل بطوليّ وشجاع، وفيه مخايلُ من روح الشهداء والفداء، لأنّ السخرية هنا تحدٍّ لمكرّساتٍ أمنيّةٍ يَعلم الجميعُ مغبّةَ التهكّم عليها، تنكيلًا وتعذيبًا وامتهانًا.
إنّ سخرية أبو زيد هنا تكْسر أوثانًا بالفعل، أوّلُها وثنُ الرعب من القمع الفاشيّ. ولا نفهم تشفّي البعض من أبو زيد إلّا تمظهرًا لمازوخيّة ونزعة وثنيّة متأصّلة؛ فالإله المعذِّب (الأجهزة الأمنيّة) لا تجوز السخريةُ منه. وكعادة كلّ وثنيّي الدولة القمعيّة، لا بد أن يبدأ تبريرُ العنف والتعذيب والاعتقال بالقول إنّ ما قام به أبو زيد لا علاقة له بحرية التعبير بل هو "قلة أدب." وهذا التوصيف الأخير لم يعد له معنًى في مجتمعٍ تتعاوره كلَّ يومٍ جرائمُ أجهزة القمع الدولتيّة، من تصفيةٍ وخطفٍ وسحلٍ في الشوارع وإخفاءٍ قسريّ. وهذا يحيلنا على مظفّر النوّاب، الذي ردّ بقسوة وصدق على الذين يلومونه على بذاءته في قصائد قائلًا: وهل هناك أكثر بذاءةً ممّا نحن فيه!؟
ويبدو أنّ وثنيّي الدولة أدركوا الخطلَ في التركيز على "آداب الحديث" مع قتلةٍ ومجرمين، فأعادوا المحاولة بالقول إنّ سخرية أبو زيد من "الغلّابة" (وهم هنا أفراد الشرطة طبعًا) فيها تعييرٌ بالجهل. وهذه ألعوبة أكثرُ احترافًا، ولكنّها لا تمر إلّا على من يريدها أن تمرّ عليه: فـ"الغلبان" يثير فينا الشفقةَ والتعاطف، ولكنّ هذا لا يعني أنّه شخص "طيّب"؛ ومساواة بساطة الحال بالخيريّة سلوكٌ مكرّسٌ في السينما المصرية طوال عقود، ولكنّها فكرة غير صحيحة لأنّ الغلبان/رجل الشرطة العربيّ مستعدّ للقتل والتعذيب واغتصاب المعتقلين إذا صدرتْ له الأوامر بذلك.
وعليه، يتوجب دائمًا التفريقُ بين "المظلوم" و"الغلبان" و"الطيّب" حتى لا نقع فريسةً لدعاية القمع والقتل والترهيب. ويتوجّب علينا كذلك، عند نقاش حالات السخرية في الفضاء العامّ، تمثّلُ قول أحد النقّاد في معرض حديثه عن الموسيقار الكلاسيكي جاك اوفنباخ:
"لقد كان مثلَ كلّ الساخرين: يريد أن يأخذه الناسُ على محمل الجِدّ!"
ألمانيا
كاتب من اليمن، مقيم في ألمانيا. مهتمّ بشؤون الثقافة والسياسة والاجتماع. نشر مقالات في العديد من الجرائد والمواقع.