كاتب من اليمن، مقيم في ألمانيا. مهتمّ بشؤون الثقافة والسياسة والاجتماع. نشر مقالات في العديد من الجرائد والمواقع.
"فاعلمْ أنّ ما يفيده الإنسانُ ويقتنيه من المتموّلات، إنْ كان من الصنائع، فالمفادُ المُقتنى منه قيمةُ عمله؛ وهو القصدُ بالقنْية. إذ ليس هناك إلّا العملُ، وليس بمقصودٍ بنفسه للقِنْية." (ابن خلدون، المقدّمة)
"بازدياد انشغالنا، وازدياد شعورنا بأنّنا نعيش، نزداد وعيًا بحياتنا." (إيمانويل كانت، الأنثروبولوجيا من ناحية براجماتيّة*)
أوّلًا: العمل في تاريخ اللغة والأفكار
في سياق رصد التطوّر التاريخيّ للعمل، تكتسب دراسةُ الجذور اللغويّة لمفردتَي"العمل" و"الشغل،" في لغاتٍ مختلفة، أهمّيّةً تقارب أهمّيّةَ دراسة كتابات الفلاسفة والمؤرِّخين والأدباء؛ ذلك لأنّ اللغة كانت تعبيرًا أمينًا عن التصوّر الاجتماعيّ والفكريّ للعمل في التاريخ القديم والوسيط.
جذور كلمة "الشغل" في اللغات التي اطّلعنا عليها كانت ترتبط دومًا بإيحاءاتٍ سلبيّة. ولا تنفرد العربيّةُ بذلك على ما يزعم بعضُ المستشرقين العرب:
ـــ ففي الألمانيّة، كانت مفردة الشغل (Arbeit) تُستخدم، تحديدًا، لوصف عمل العبيد في الحقول.(1)
ـــ أمّا في الإنجليزيّة، فكلمة شغل (Labour) كانت ترتبط حصرًا بالكدح والابتلاء؛(2) وكلمة Job ارتبطتْ بلغة اللصوص، وبالدلالة على معاملات فاسدة كذلك.(3)
ـــ وجذر الشغل في الفرنسيّة (Travail) ارتبط كذلك بالألم والعذاب.(4)
وفي كلّ هذه اللغات، هناك دومًا ازدواجٌ في التعبير عن العمل عبر مفردتَي "العمل" و"الشغل"؛ وهذا الأخير سيّئ الدلالة دومًا.
في العربيّة ازدواجٌ أيضًا بين "العمل" و"الامتهان." فالـ"مهنة" هي الخدمة، و"الماهن" هو الخادم، كما يرِد في مختار الصحاح؛(5) ويضيف ابنُ منظور أنّ الماهن هو العبدُ أيضًا.(6)وعلى الرغم من أنّ تعبير "هو في مهنةِ أهله" يرجِّحُ أنّ المهنة تعني، في الأصل، الخدمةَ، لا العبوديّة، فإنّ ارتباطَ العبيد بأعمال الخدمة في البيوت العربيّة ـــ قديمًا ـــ ربّما سهّلَ الخلطَ بين الخدمة والعبوديّة.(7)
التأمّل في هذه الجذور يَطرح تساؤلًا مهمًّا حول أسباب هذا الإجماع ـــ على الأقلّ في الحضارات العربيّة والأوروبيّة ـــ على تحقير العمل. وهو تساؤلٌ نجد إجابتَه في دراسة المجتمعات والفلسفة القديمة.
فـ"العمل كان عند الإغريق لعنةً ولا شيءَ سواها."(8) والشائع في تفسير هذا التصوّر أنّ العمل ارتبط في مجتمع دولة المدينة (Polis) اليونانيّة بالعبيد والغرباء والأعداءِ المهزومين.(9) وتعزو حنّة أرندت السبب إلى أنّ العمل لم يُحتـقرْ عند اليونانيين لأنّه ارتبط بالعبيد، بل لأنّهم رأوْا فيه طابعًا عبوديًّا؛ فهو تجلٍّ لخضوع الإنسان للضرورة، وتجلٍّ لانتفاء الحرّيّة عنه؛ ولهذا أُوكل إلى العبيد.(10)
ونستطيع فهمَ تفسير أرندت أكثر إذا درسنا آراءَ أرسطو في موضوعَي "المِهن" و"فضيلة المواطن." فهو يرى أنّ الأخيرة ليست مطابقةً لفضيلة الفرد، وإنّما هي المقدرةُ على المشاركة في إدارة الدولة، وهذا لا يكون إلّا بالمقدرة على الطاعة والحكم. وفي سياق شرح أرسطو لِمن يحقّ له "التمتّعُ" بحقّ المواطنة هذا، يقول إنّهم الذين لا يضطرّون إلى"أن يعملوا ليعيشوا."(11) وفي سرد أرسطو لقصّة طاليس الملطيّ واكتسابِه المالَ دلالاتٌ مختلفة، منها أنّ إعجاب أرسطو به نبع من كونه غيرَ "مضطرٍّ" إلى ذلك الكسب. أمّا مراتب المِهن عند أرسطو فتُصنّف بحسب نسبة انشغال الجسم فيها: فكلّما استغرق الجسدُ في عملٍ لا يحتاج إلى العقل، كان العملُ أكثرَ وضاعةً.(12)
ويبدو أنّ هذا الموقف من العمل ظلّ سائدًا في الثقافات القديمة إلى أن قامت الأديانُ بهزّه. فقد كان السيّد المسيح نجّارًا، وكان النبيُّ محمّد راعيًا للأغنام؛ أي إنّهما لم يكونا عامليْن فحسب، بل عملا في مهنٍ متواضعةٍ في عُرف زمنهما. ومع نهاية القرون الوسطى في العالم المسيحيّ، حصل تطوّر في تقدير العمل على يد المصلح مارتن لوثر؛ فكلّ شغلٍ عنده هو "حِرفة،" وكلُّ إنسانٍ يَخدمُ الربَّ. وهكذا، فإنّ "الخادمة التي تؤرجح المكنسةَ لا تفعل شيئًا مختلفًا عمّا يفعله الأساقفةُ أو الملوك؛ إنّها تؤدّي عملَها، والأعمالُ كلُّها سواسيةٌ أمام الربّ."(13) وعلى الرغم من هذا الفهم المتقدّم نسبيًّا للعمل، فإنّ علينا ألّا نبالغَ في أثره، بل نضعه ضمن سياقه التاريخيّ في وصفه أحدَ جذور انقلاب النظرة إلى العمل لاحقًا، أيْ بعد أن تنقلب الشروطُ الاجتماعيّة والاقتصاديّة رأسًا على عقب.
لكنْ قبيْل ظهور مارتن لوثر، ظهرتْ إحدى أهمّ المساهمات في فهم "العمل" وتفسيره: إنّها مقدِّمة ابن خلدون. يربط ابنُ خلدون الصناعات والحِرفَ بـ"العمران"؛ فلا يحقِّر المِهنَ في ذاتها، بل لظروفها وشروطها غيرِ الأخلاقيّة. أمّا العمل، فكان يراه خالقًا "لقيمة" المنتِج. ثمّ ذكر كثيرًا من الصناعات، وأفرد لها أبوابًا مختلفةً: فإذا الزراعة والتجارة وخدمةُ الملوك تدفع المرءَ إلى الذلّ أو الغش؛ أمّا المِهن "الشريفة بالموضوع،" فهي عنده كلُّ ما دخل في حيّز الطبّ والفنّ والأدب، كالغناء والكتابة والوراقة والتوليد،(14) وأهمُّ أسباب تشريفها عنده أنّها تسمح للمشتغلين فيها بالاختلاط بأهل السلطان. اللافت أنّ ابنَ خلدون ذكر التوليد من ضمن المِهن الرفيعة، على الرغم من أنّ النساء هنّ المشتغلات بها عادةً ــــ وهذه ملاحظةٌ تستحقّ نقاشًا مستقلًّا.
ويرى ابنُ خلدون أنّ للأعمال تأثيرًا نفسيًّا، وتحتاج إلى استعداداتٍ نفسيّة.(15) وبهذه الفكرة يحاول تفسيرَ عدم احتراف الصُنّاع أكثرَ من حرفة، وفشلهم غالبًا في الإجادة إنْ حاولوا ذلك؛ وهذا ينطبق على العلوم أيضًا. ولم يُـتْبع ابنُ خلدون قولَه هذا بتبيان "تشوّهاتٍ نفسيّةٍ" خاصّةٍ تتركها الحِرفُ والعلومُ في المشتغلين فيها (باستثناء التجارة والزراعة)؛ وهي على العموم تشوّهاتٌ ظرفيّة على ما يبدو، لأنّ ابن خلدون يرى أنّ التاجر ـــ الذي يتّصل بأهل السلطة ويُوكِل إلى عمّاله العملَ اليوميَّ ومساومةَ الناس، وما يعنيه ذلك من ممارسة الغشّ وحلفِ الأيمان الكاذبة وغيرِها من الأفعال المشينة التي ربط ابنُ خلدون بينها وبين مزاولة التجارة ـــ ينجو من "تشوّهات" هذه المهنة.
مع دخول أوروبا عصرَ التنوير، بدأ التحوّلُ الحقيقيّ ـــ لكن البطيء ـــ نحو "تقدير العمل" في وصفه مصدرًا للمِلْكيّة عند جون لوك، ومصدرًا للثروة عند آدم سميث، بل سيصل عند إيمانويل كانتْ إلى أن يكون "معنًى للحياة."(16) ثمّ تسارعت التطوّراتُ في شكل العمل وظروفه وفهمِه بعد تفجّر الثورة الصناعيّة، مطلعَ القرن التاسع عشر، وتشكُّلِ الرأسماليّة الحديثة، فظهر "فيلسوفُ العمل" بلا منازع: كارل ماركس.
يتلقّف ماركس تعريفَ فرانكلين للإنسان بأنّه "حيوانٌ صانعٌ للأدوات،" فيذهب إلى تعريف الإنسان بأنّه "حيوانٌ عامل،"(17) وإلى تعريف العمل بأنّه عمليّةٌ بين الإنسان والطبيعة،(18) والمنظِّمُ لتفاعل الإنسان معها. وهذا تعريف خطير لأنّه يعني أنّ العمل هو شرطُ وجود الإنسان، و"ضرورةٌ طبيعيّةٌ أبديّةٌ للوجود البشريّ."(19)
عند قراءة نظريّة ماركس عن فائض القيمة،(20) لا يسع المرءَ إلّا أن يربط بين عمّال القرن التاسع عشر والعبيد. تقول مبادئُ هذه النظريّة إنّ تحويلَ النقد إلى رأسمال يَستلزم تغييرًا في عمليّة العمل، بحيث يكون سعرُ السلعة المنتَجة أكبرَ من النقد المصروف والموزَّع على عناصر تلك العمليّة (الموادّ الأوّليّة، قوّة العامل، وسيلة الإنتاج). وهذا لا يحدث إلّا باعتصار العامل الذي يبيع قوّتَه؛ فالرأسماليّ يفكّر بالمنطق الآتي: إذا كان إنتاجُ كمّيّة (أ) من سلعةٍ ما يحتاج إلى خمس ساعاتٍ من العمل، وإذا كان المبلغُ المدفوعُ لقاءَ شراء قوّة العامل لخمس ساعاتِ عملٍ يمكّنه من تغطية احتياجات يومه الأساسيّة، فلماذا لا يبقى أجرُ العامل كما هو، مع جعله يعمل ضعفَ هذه الساعات لإنتاج ضعف الكمّيّة (أ)؟ عبر هذه المضاعفة في ساعات العمل، واستهلاكِ قوّة العامل، يُخلق فائضُ القيمة الذي يحوّل النقدَ الذي بذله الرأسماليُّ إلى رأسمال.
كان ضروريًّا التطرّقُ إلى فكرة ماركس هذه من أجل الإطلالة على التحوّلات الاجتماعيّة، ونشوءِ الطبقة العاملة، والظروفِ التي كانت تعيش فيها في القرن التاسع عشر. وهو ما سنناقشه الآن.
ثانيًا: تكوّنُ الطبقة العاملة
أربعة عوامل رئيسة شكّلت الطبقةَ العاملة: أـــ الثورة الصناعيّة. ب ـــ الدولة القوميّة. ج ـــ نشوء الحركات الاشتراكيّة والشيوعيّة. د ـــ الاستعمار (بالنسبة إلى دول العالم الثالث).
*أوروبا. في القرن التاسع عشر، أحدثت الثورةُ الصناعيّة تغييريْن قلَبا المجتمعاتِ الأوروبيّة رأسًا على عقب: انقراض الطبقة الفلّاحيّة، والهجرة إلى المدن وتوسّعها بحيث أضحت مدنٌ كثيرةٌ تحوي غالبيّة السكّان.
في بدايات الصناعة، تضرّر كبارُ الحرفيين بسبب دخول الآلة. ولذلك كانت النواةُ الأولى للحركات العمّاليّة في القرن التاسع عشر(21) من الحِرفيين، إلى جانب العمّال الذين بدأوا يتزايدون.
مع نهاية القرن التاسع عشر، كان ثُلثا سكّان المدن الكبرى من العاملين في الصناعة.(22) وقد حصلتْ عمليّاتُ تمييز ممنهجةٌ ضدّ هؤلاء، بحيث أصبحوا يحملون هويّةً خاصّةً بهم تقريبًا ـــ بدءًا من الزيّ، وانتهاءً بالأحياء التي يمْكنهم السكنُ فيها.
كان اتّساعُ المدن في الدول الصناعيّة يتمّ بوتيرةٍ عالية (فمثلًا، ازداد سكّانُ مدينة فيينا، في أقلّ من أربعين عامًا، من 400 ألف إلى 700 ألف نسمة). ولكنْ جرى التعاملُ مع هذا التوسّع ضمن رؤًى برجوازيّة: فضُيّق الخناقُ على الفقراء كي يُلفظوا خارج المدينة، أو خارج مركزِها الخاصّ بالطبقة الوسطى والأثرياء.(23) وتضاعف عددُ العمّال في الربع الثالث من القرن التاسع عشر، حتى صرتَ تجد شركةً صناعيّةً في ألمانيا تشغّل ما يفوق عشرة آلاف عامل في سبعينيّات القرن بعد أن كانت قبل ربع قرن تشغّل سبعةً وخمسين فقط!
يقول المؤرّخ الماركسيّ هوبزباوم، في كلاسيكيّته عصر رأس المال، إنّ السمة الأساس لحياة العامل في ذلك الوقت هي "عدمُ الأمان"؛ فنظامُ الأجور، وغيابُ التأمين الاجتماعيّ، ووجودُ فيضٍ من الراغبين في العمل، وتحالفُ الدولة مع الرأسماليين في صوغ قوانينَ تحاصِر العمّالَ وتجرِّم أيَّ تحرّك مطلبيّ: كلُّ هذا جعل حياةَ العمّال جحيمًا من الهموم والقلق. ولم يغيِّرْ من هذه الحقيقة التحسّنُ البطيءُ في أوضاعهم وأجورهم لأنّه لم يبلغْ حدّ تأمينَ مستقبلَهم.
على أنّ نشوءَ الدولة القوميّة سمح للعمّال بـ"تخيّل" أنفسهم طبقةً على امتداد الوطن، وبتخيّلِ مصالحَ مشتركةٍ بينهم. وهذا، عمومًا، أحدُ الأدوار التاريخيّة التي قامت بها المَلَكيّاتُ المطلقة والدولةُ القوميّة؛ فهي التي أعطت المجتمعَ إمكانيّةَ تفجير الثورة عليها! كما أدّت الدولةُ القوميّة ـــ في حالة العمّال ـــ دورًا إضافيًّا من خلال سياساتها وقوانينها، التي كانت "تقترب شيئًا فشيئًا من المحور الجوهريّ في حياة الطبقة العاملة."(24)
هذان العاملان (أي الثورة الصناعية والدولة القوميّة) شكّلا الطبقةَ العاملة، وبداياتِ الحَراك العمّاليّ المنظّم. ولكنّ ما جعل هذه الطبقةَ تعي نفسَها إنّما هو الفكرُ الاشتراكيُّ، والماركسيُّ لاحقًا؛ فهو الفكر الذي نظّر لتخليق هذه الطبقة، وصياغةِ مستقبلها، والتغافلِ عن الانقسامات الهويّاتيّة التي كانت تتعاور حياةَ العمّال اليوميّة.
في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، انتشرت الأحزابُ العمّاليّة الاشتراكيّة في أوروبا الغربيّة، وحقّقتْ نجاحاتٍ كبيرةً، وإنْ كان بعضُ تلك الأحزاب ضئيلَ الحجم نسبيًّا. وفي هذا التطوّر الأخير اجتمعت العواملُ الثلاثة السابقة (أ ـــ ج) لتشكّلَ الملامحَ التاريخيّةَ للحركة العمّاليّة السياسيّة. ولنأخذ الحزبَ الاشتراكيّ الديمقراطيّ في ألمانيا مثالًا.
فهذا الحزب تكوّن أصلًا من قوًى منفصلة، ثمّ توحّدتْ، وبخاصّةٍ مع ملاحقة السلطات الألمانيّة للنقابيين والاشتراكيين.(25) وعلى الرغم من أنّ السلطات الألمانيّة، في سبعينيّات ذلك القرن، أصدرتْ قانونًا يحظّر النقابات والحزبَ الاشتراكيّ الديمقراطيّ، فإنّ هذا القانون نفسَه سمح لأيّ اشتراكيّ ديمقراطيّ بأن يترشّحَ في الانتخابات بصفته "فردًا" اشتراكيًّا ديمقراطيًّا، مع بقاء الحزب نفسه، كمؤسّسة، غيرَ قانونيّ!(26)
ثمّ حاول بسمارك أن يحدّ من خطر الاشتراكيّين بتأسيسه دولةَ الضمان الاجتماعيّ، محاولًا فكَّ الارتباط بين الحزب المذكور وقواعده. ومع أنّ هذه الخطّة فشلتْ في هدفها الأساس، فإنّها أدّت دورًا أساسًا في تشكيل ألمانيا الحديثة، التي لا تزال تسير على سياسات نظام التأمين الاجتماعيّ حتّى يومنا. وهذا من التأثيرات التاريخيّة غير المباشرة للحركات الاشتراكيّة.
في نهاية القرن التاسع عشر، تخطّى عددُ المنتسبين إلى الحزب، على الرغم من الملاحقات والمضايقات، حاجزَ المليون عضو! وعشيّةَ الحرب العالميّة الأولى، استطاعت الحالاتُ الأوروبيّة التي كانت فيها القوى العمّاليّة السياسيّة ضئيلةَ الحجم، وضعيفةَ التنظيم، تحقيقَ أثرٍ كبيرٍ لا يتناسب مع قوّتها الواقعيّة. ففي إيطاليا، استطاع الحزب، الذي كان يَعدّ خمسين ألف عضو فقط، أن يحصد قرابة مليون صوت في العام 1914.(27)
**العالم العربيّ.(28) كان للصناعة، ولبزوغ ملامح الدولة الوطنيّة الحديثة، في بعض الأقطار العربيّة، دورٌ مشابهٌ لدورها في تجارب وسط أوروبا وغربها، وفي الفترة التاريخيّة نفسها. ولكنّ التمايز الأكبر عنها كان في عامل الاستعمار. وسنتناول هنا دولتين عربيتين فقط: مصر وتونس.
أ ـــ مصر. قبل وصول محمّد علي باشا إلى السلطة، كانت طوائفُ الحِرَف هي الشكلَ التنظيميّ الأساس للعمّال. وهذا الشكل يتناسب مع نظام الإمبراطوريّات في الاقتصاد التقليديّ أكثرَ من تناسبه مع الدولة الوطنيّة؛ فطوائفُ الحِرف بناءٌ ذو طقوسٍ ورموزٍ خاصّةٍ تنظّم شؤونَ العاملين وأربابِ العمل، وتحافظ على تقاليد الحرفة، وتعمل بإشرافٍ بسيطٍ من الإدارة الإمبراطوريّة، وتَترك لشيوخ الطائفة إدارةَ كلّ مسائل الحرفيين والعمّال.
في مطلع القرن التاسع عشر،افتتح محمّد علي مرحلةَ الصناعة. ولكنّ هذه المرحلة تعثّرتْ لأسبابٍ عديدة، لتعودَ في عهد الخديوي إسماعيل تحت ضغط الحرب الأهليّة الأميركيّة وزيادةِ الطلب على القطن. فبُنيتْ محالجُ قطنٍ جديدة، وتقاطرت الاستثماراتُ الأجنبيّة، وبخاصّةٍ مع التشريعات التي انحازت إلى الرأسماليّ الأجنبيّ ووفّرتْ له ظروفًا أفضل من ابن البلد (مثل الإعفاء من الضرائب). وبعد فترة قصيرة، ابتلع رأسُ المال الأجنبيّ المصانعَ القليلةَ التي كانت تحت ملْك الدولة، مثل مصنع السكّر، قبيْل الغزو البريطانيّ لمصر.(29)
ولكنّ سلطات الاحتلال لم تركّز على الصناعة بقدر تركيزها على أنشطة اقتصاديّة أخرى. ومع ذلك، فقد كانت الشركاتُ الأجنبيّة، وبعضُ ما بقي من المشاريع الحكوميّة الصناعيّة، مع سوء ظروف العمل وتردّي نظام الأجور، عواملَ كافيةً لتشكيل الملامح الأوّليّة للطبقة العمّاليّة والنضال العمّاليّ، الذي بدأ مع الإضرابات في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وتُجمع الآراء على أنّ أوّل نقابة عمّاليّة مصريّة قد نشأتْ عن إضراب "لفّافي السجائر" العاملين في شركات الدخان المملوكة في الأغلب ليونانيين وأرمن، في نهاية العام 1899 ومطلع العام 1900.(30) والثابت في هذا الإضراب وما تلاه أنّ تأثيرات العمّال الأجانب في تطوير العمل النقابيّ والاحتجاجيّ كانت كبيرة.
علاقة الأجانب بالعمل في مصر كانت تحمل وجهين متمايزين: الأوّل هو النسبة الكبيرة للعمّال الأجانب المشتركين مع زملائهم المصريين في الظروف نفسها (باستثناء الحماية من قبل القناصل)؛ والثاني هو سيطرتهم على الوظائف الإشرافيّة ذاتِ الظروف الممتازة. والأمران سمحا بتعاون العمّال المصريين معهم، على خلاف حالاتٍ أخرى كان فيها تمايزٌ كلّيّ وواضح بين ظروف الطرفين.
واستمرّت الحركةُ العمّاليّة المصريّة في التضخّم، وشاركتْ في الحراك الوطنيّ، وتحالفتْ مع نضالات قوًى وطنيّة مختلفة، ولا سيّما مع نشوء الرأسماليّة الوطنيّة (التي مثّلها في مصر طلعت حرب بلا منازع)(31) وانتشار القوى اليساريّة في الأربعينيّات.
ب ــــ في تونس. كان تاريخُ أوّل إضراب هنا مقاربًا لمثيله المصريّ، إذ حصل سنة 1902.(32) ولكنّ ما يميّز تاريخَ الطبقة العاملة التونسيّة هو درجةُ تداخلها الأكبر مع تاريخ العمل النقابيّ الفرنسيّ، وذلك بسبب نمط الاستعمار.
فإذا كان العمّالُ الأجانب في المصانع المصريّة، بخبرتهم النقابيّة، قد دشّنوا العملَ النقابيّ، فقد كانت النقاباتُ الفرنسيّة هي "المدرسة" التي تخرّج منها المناضلون النقابيّون التوانسة، وعلى رأسهم فرحات حشّاد. والعمّال التوانسة كانوا أصلًا أعضاءً في النقابات الفرنسيّة. وكان عدمُ اعتراف هذه النقابات بحقوق العمّال التونسيين الوطنيّة، وعدمُ دعم إضراباتهم، مسرِّعًا للوصول إلى النتيجة القائلة بضرورة إنشاء كيانات نقابيّة وطنيّة تونسيّة تستطيع تمثيلَ العمّال المحلّيّين ومطالبَهم.
وكما كانت عليه الحالُ في مصر، على ما يسجِّل المصلحُ الاجتماعيّ الطاهر الحدّاد، فقد ركّز الاستعمارُ الفرنسيّ على الاستثمار في قطاع المَرافق، وأهمل قطاعَ الصناعة التونسية من أجل تدعيم الصناعة الفرنسيّة.(33) ودخلت الحركةُ النقابيّة، طوال النصف الأوّل من القرن العشرين، معركةَ الاستقلال عن الاستعمار بقوّة. ووصل التنظيمُ النقابيّ إلى ذروته في نهاية الأربعينيّات، مع تأسيس "الاتّحاد العامّ التونسيّ للشغل،" ومشاركته في تأسيس دولة الاستقلال.
في هذا الموجز عن تاريخ تكوين الطبقة العاملة ووعيها السياسيّ، نستطيع إبرازَ الملامح المتمايزة للطبقة العاملة في كلٍّ من العالم العربيّ وأوروبا:
1) كان الملمحُ الأبرز للحركات العمّاليّة الأوروبيّة نزعتَها الديمقراطيّة والاشتراكيّة. وهذا يعود إلى طبيعة السياق التاريخيّ وهويّةِ الخصوم. فالحركات العمّاليّة كانت حركاتٍ "تحتيّةً" تواجه خصميْن: أربابَ العمل الرأسماليين، والطبقةَ البرجوازيّة التي تحمل ثقافة ليبراليّة ترى في الديمقراطيّة ممارسةً محصورةً في طبقتها وتستلزم "مؤهِّلات" لا يَحْملها العمّال. ومن هنا، فإنّ الحراك الديمقراطيّ، والمطالبة بحقّ الاقتراع ودخولِ البرلمان، يَحملان ـــ بالنسبة إلى حركاتٍ "تحتيّةٍ" تعتمد التنظيم ـــ بعدًا ثوريًّا خطيرًا، ويمثّلان سلاحًا مهمًّا. وقد استطاعت الحركاتُ العمّاليّة، كما رأينا، الاستفادةَ من دور الديمقراطيّة الخطير في نضالها.
2) أمّا في العالم العربيّ، فقد كان الملمحُ الرئيس هو الميول الاشتراكيّة، والنزعة الوطنيّة، والانخراط في النضال ضدّ الاستعمار. فالرأسماليّ في بلادنا كان في الأغلب أجنبيًّا، ومدعومًا من الاستعمار ومن السلطات المحلّيّة التابعة له. وكان من الواضح أنّ الخلاصَ من الاستعمار، وبناءَ دولة الاستقلال، والانخراطَ في عمليّة تصنيعٍ حقيقيّة، هي نقطةُ البداية للتحرّر الاجتماعيّ ولتمكينِ العمّال والمجتمع من الحقوق والعيش الكريم. وعلى الرغم من تشابه سلوكيّات الرأسماليين، في فترة التكوين، من العمّال، بخصوص الأجور وساعات العمل والتمييز الاجتماعيّ، فقد "امتازت" الحالةُ العربيّة بشيءٍ إضافيّ: وهو ممارسة الضرب والشتم في حقّ العمّال العرب، من قِبل المشْرفين عليهم. وكان هؤلاء غالبًا من الأوروبيين. ولم نجد، في حدود ما اطّلعنا عليه من دراسات، إشارة إلى ممارسة الاعتداء البدنيّ على العمّال في المصانع الأوروبيّة. هذا بالإضافة إلى التمييز بين العمّال الأجانب وزملائهم المحلّيين في ظروف العيش؛ فقد تشكّلتْ في أغلب البلدان العربيّة "أرستقراطيّةٌ عمّاليّة" تضمّ العمّالَ الأجانب الذين تتميّز أوضاعُهم من العمّال المحليّين، بل من العمّال الأوروبيين في أوطانهم أيضًا.(34)
ثالثًا: التحوّل إلى اليمين
أ ـــ الانتعاش. كانت المرحلة الفاصلة بين نهاية الحرب العالميّة الثانيّة والسبعينيّات مرحلةَ ازدهار الاقتصاد العالميّ، وانتشارِ الشيوعيّة، وتصفيةِ الاستعمار. هذه العوامل الثلاثة ظهرتْ تجلّياتُها في كلّ مناحي الحياة تقريبًا، وبخاصّةٍ عند الطبقة العاملة (والطلّاب).(35)
في أوروبا الشرقيّة، كانت الطبقة العمّاليّة تحقّق مكاسبَ مهمّةً، وتوسّعًا كبيرًا، بفضل الحكم الشيوعيّ الذي أدار عجلةَ التصنيع والتحديث. ولكنّ هذا التقدّم كان محكومًا بتوجّهات نظام الدولة، على الرغم من أنّه يحمل إيديولوجيا يقع العمّالُ في صميمها؛ فحين يتعارض العمّالُ مع النظام كان الأخير يسحقهم بلا رحمة، كما حدث في انتفاضة العمّال في ألمانيا الشرقيّة سنة 1953(36) أو في "ربيع براغ" في تشيكوسلوفاكيا سنة 1968.
حالُ الطبقة العاملة في العالم العربيّ كانت مشابهةً لحالها في أوروبا الشرقيّة. فبعض الأنظمة الجمهوريّة العربيّة، التي وُلدتْ بعد تصفية الاستعمار، كانت رأسماليّاتِ دولةٍ حاولتْ إنشاءَ قاعدة لعمليّة التصنيع. وقد أحرزت الطبقةُ العاملة، في ظلّها، كثيرًا من المكاسب في قوانين العمل والأجور، وتمكين أبناء العمّال من التعليم... إلخ. لكنّ ذلك تمّ مع فرض السيطرة التامّة على المؤسّسات النقابيّة، وتسييرِها من قِبل البيروقراطيّة، وتقديم أولويّة النظام على كلّ شيءٍ آخر. وتمثّلتْ رؤيةُ النظام الناصريّ لعلاقة العمّال بالنظام مبكّرًا في ردّ فعله على مظاهرات عمّال مصنع الغزل في "كفر الدوّار" بعد شهر واحد من قيام ثورة يوليو؛ إذ سُحقتْ هذه المظاهرات، وأُعدم متظاهران بعد محاكمة عسكريّة سريعة.(37)
أمّا في أوروبا الغربيّة والدول الصناعيّة الراسخة، فقد تحسّنتْ أحوالُ الطبقة العاملة نتيجةً للازدهار الاقتصاديّ. ولهذا، لم تُبدِ غالبًا تحمّسَها التاريخيّ للانتفاض والثورة أثناء انتفاضة الطلّاب سنة 1968، مع بعض الاستثناءات (كما في إيطاليا حيث شكّلت المظاهراتُ الطلّابيّة شرارةَ إضرابات عمّاليّة).(38)
ب ـــ نحو اليمين. مع نهايات فترة انتعاش الخمسينيّات والستينيّات من القرن الماضي، ونتيجةً لتحسّن ظروف الطبقة العاملة في أوروبا الغربيّة، بدأ انحيازٌ ضمن الطبقة العاملة، في العالم ما بعد الصناعيّ، إلى اليمين. وظلّ هذا الميْل يزداد حدّةً، إلى أن بلغ إحدى ذراه في العام 2016.
وقد تسبّب التطوّرُ التقنيّ في فقدان كثير من العمّال وظائفَهم، وبدأت الصناعة في الثمانينيّات تلفظهم بعد سنوات من الاستيعاب والازدهار.(39) كما أنّ تواري صناعاتٍ معيّنة، ونقلَها إلى خارج أوروبا وأميركا بحثًا عن العمالة الرخيصة، أدّيا إلى نشوء "أحزمة الصدأ،" وهي تلك المناطق الصناعيّة المزدهرة التي لم تعد تعمل بسبب ذلك النقل.
بالإضافة إلى كلّ هذا، بدأت الممارساتُ الليبراليّة الجديدة بالظهور على يد مارجريت ثاتشر في بريطانيا، فضربت الأمانَ الاجتماعيّ. كما بدأت اليدُ العاملة المهاجرة بالتوافد على أوروبا الغربيّة بُعيد الحرب العالميّة الثانية، ولكنّها أصبحتْ ـــ منذ الثمانينيّات والتسعينيّات ـــ مثيرةً للمشاكل الاجتماعيّة داخل الطبقة العاملة مع ازدياد معدّلات البطالة.
وقبل كلّ هذا، وفي فترة الازدهار الاقتصاديّ بعد الحرب العالميّة الثانية، حدثتْ تطوّراتٌ كبيرة داخل الطبقة العاملة أصابت "الهُويّةَ" الطبقيّة في مقتل: فالعمّال لم يعودوا في ظروف متساوية، وفي أحياء واحدة، تدفعهم إلى التشارك الاجتماعيّ وتشكيل فضاء عامّ طبقيّ، بل أصبحوا، مثلًا، يملكون أجهزةَ تلفاز تُغْينهم عن الذهاب إلى السينما معًا؛(40) هذا بالاضافة إلى إمكانيّة شراء "الكماليّات" بالتقسيط. وبكلمات أخرى، ضخّمتْ تطوّراتُ تكنولوجيا الإعلام والاتّصال، وتحسّنُ الظروف المعيشيّة، الحيّزَ الخاصَّ للعامل، على حساب المجال العامّ الطبقيّ الذي كان يَرفد وعيَ العمّال بذاتهم كطبقة. وهذه التطوّرات أثّرتْ في الأحزاب العمّاليّة الأوروبيّة، حتّى وصل الأمرُ بحزب عمّاليّ عريق مثل الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ في ألمانيا إلى تحويل نهجه في نهاية الخمسينيّات من حزبٍ للعمّال إلى حزبٍ "شعبيّ،" أيْ بلا هويّة طبقيّة واضحة.(41)
تراكمتْ كوارثُ اللبرلة الجديدة للاقتصاد، والأزماتُ الاقتصاديّةُ المتلاحقة، حتّى بلغتْ ذروتها سنة 2008، مسبوقةً بالحروب في أفغانستان والعراق، وبصعودِ اليمين في كلّ مكانٍ تقريبًا. وبعد "الثورات" العربيّة وما تلاها، صعد الخطابُ الهويّاتيّ في أغلب بلدان العالم، فاستجابت الطبقةُ العاملة في الدول ما بعد الصناعيّة له (مثلًا صوّتت الأغلبيّةُ الساحقةُ من العمّال سنة 2016 للحزب الحرّيّاتي في النمسا،(42) وهو حزبٌ فاقعٌ في يمينيّته). كما كانت ولاياتُ "حزام الصدأ،" ذاتُ القواعد العمّاليّة، في الغرب الأوسط الأميركيّ، إحدى رافعات ترامب إلى سدّة الرئاسة نهاية العام الماضي.
ج ـــ عمّال اللبرلة الفاسدة. في العالم العربيّ، لا تظهر مؤشّراتٌ واضحةٌ على توجّهات العمّال السياسيّة، أو على وعي الطبقة العاملة بنفسها، بعد "الثورات" العربيّة في العام 2011. لكنّ الثابت هو أنّ الأضرار التي لحقتْ بهذه الطبقة، بعد انتهاء مرحلة رأسماليّة الدولة وبداية اللبرلة الفاسدة في السبعينيّات والثمانينيّات، كانت أشدَّ من أضرار اللبرلة الجديدة على اقتصاد أوروبا. فاللبرلة العربيّة الفاسدة ركّزتْ على تصفية قطاع الصناعة وخصخصتِه، وعلى تشجيع الاستثمار في قطاع الخدمات. وترافق ذلك مع تدهور مستمرّ في الأوضاع المعيشيّة، على الرغم من إحراز بعض الدول العربيّة معدّلاتِ نموٍّ عاليةً ولكنْ بلا تنمية فعليّة. أمّا الإصلاحات الديمقراطيّة التي كان في إمكانها فتحُ قنواتٍ للتفاعل مع النظام والضغطِ عليه، فكانت محدودةً وغيرَ مؤثّرة فعليًّا، إذ ترافقتْ مع تغوّل الأجهزة الأمنيّة. هذا علاوةً على انهيار اليسار، ومحاولةِ هذه الأجهزة السيطرةَ على النقابات باستمرار؛ بل نجحتْ أحيانًا في دفع القيادات النقابيّة إلى معاداة العمّال والوقوف مع النظام، كما حدث في "انتفاضة الحوض المنجميّ" في تونس وتخلّي "الاتّحاد العام التونسيّ للشغل" عن المحتجّين.
وعلى الرغم من كلّ هذا، وبسببه، فقد حصلت انتفاضاتٌ وتظاهراتٌ طوال مرحلة اللبرلة الاقتصاديّة. مثل احتجاجات الحوض المنجميّ في تونس، واحتجاجات المحلّة الكبرى في مصر، وانتفاضة 1984 في المغرب وغيرها؛ علاوةً على انخراط كثير من العمّال والنقابيين في يوميّات الثورات العربيّة الأخيرة والمساهمة في تسييسها وتنظيمها.
خاتمة: مستقبل العمل والعمّال
قبل ثلاثة قرون، كان أقصى ما يصل إليه خيالُ الأدباء عن العمل هو انخفاضُ ساعات العمل، وضمانُ أوقات فراغ طويلة يقضيها المرءُ في التسلية والنشاطات الشخصيّة.(43)
نظريًّا، إذا تطوّر مجالُ الذكاء الاصطناعيّ، فقد يفجِّر تغييراتٍ اجتماعيّةً هائلةً لأنّه سيقضي على كثير من الأعمال، وربّما يقضي أيضًا على الارتباط التاريخيّ بين العمل والضرورة؛ أي إنّه سـ"يحرّر" العمل. وقد يصبح العمل، في حدّ ذاته، "ميزةً،" لأنّه سيكون مكفولًا لمختصّين كبار، سيصبحون ذوي سلطةٍ ونفوذ، بسيطرتهم على ما يُـشغّل حياةَ البشر اليوميّة ويوفّر لهم ضروريّات المعيشة وكماليّاتها من دون أن يفعلوا شيئًا... هذا علاوةً على المشاكل التي ستطرأ على البناء الطبقيّ، بل على فكرة الطبقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة ذاتها.
وكلّ هذه التوقعات يمكن عكسُها،أيْ: توقّعُ عودة العبوديّة من جديد، للقيام بالوظائف "الضروريّة،" في ظلّ الذكاء الاصطناعيّ، بينما يتفرّغ "الأحرارُ" للتنعّم بحياتهم؛ أو يمكن توقّعُ استعباد الآلة للبشر، كما في أفلام الخيال العلميّ ورواياته.
الكلام السابق هو حديثٌ عن المستقبل البعيد.(44) ولكنّه نظريًّا ممكن، ونقاشه ممتعٌ، بسببِ ما يطرحه من إمكانيّات لخلق أنظمة اجتماعيّة وسياسيّة جديدة. لكنْ، بالعودة إلى ما يمسّنا، وهو المستقبلُ القريب، فإنّ علينا أن نقرّر أولًا أنّ مستقبل "العمّال" ليس واحدًا. فبينما يفقد العمّالُ في الدول ما بعد الصناعيّة الوعيَ بالذات، يكابد عمّالُ بعض دول العالم الثالث ظروفًا شكّلت حالاتٍ "مَسْخيّة،" تختلط فيها اللبرلةُ الفاسدة بانهيار الصناعة الرثّة. ومع ذلك يصرونّ على وعي ذواتهم كطبقةٍ لها مصالحُها وأدبيّاتُها، في وضعٍ اجتماعيّ مفرداتُه: البطالة، وتوسّعُ قطاع الخدمات، واضمحلالُ طبقة عمّال الصناعة، وغيابُ الديمقراطيّة، وتكديحُ المجتمع.
لا يبدو المستقبل القريب لطيفًا لأنّ الواقع الراهن في العالم يقول إنّ هذه المرحلة ليست مرحلةَ جني الثمار، بل مرحلةٌ لا يمكن تجاوزُ مراراتها إلّا بعمليّات تحرّر؛ وكلُّ عمليّةِ تحرّر تعني الآلامَ والعذاب.
في العالم العربيّ لا يزال العمّال واقعين في المعادلة التي كانوا عليها قبل مائة عام، مع تغييرات معيّنة: لم يعودوا وحدهم هم "العمّال،" وإنّما أضحى العاملون في القطاع الثالث (ما يقع خارج الزراعة والصناعة) كتلةً مهولةً من القوّة العاملة؛ كما أنّ عليهم مجابهة الأنظمة السياسيّة، وطبقة رجال الأعمال الطفيليّة التي تعتاش على نهب الثروة والزبائنيّة والبيروقراطيّة. وهذا يعني أنّ الديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة والتنوير الإنسانيّ والتنظيم النقابيّ الطويلَ النفَس هي الأسلحة الناجعة في معركتهم اليوم، كما كان التحرّرُ الوطنيّ والاشتراكيّة هما سلاحَ المعركة الماضية.
أما فكرة العمل ذاتها، فلا تزال تحتاج إلى التثوير: بالفكر، وبتغيير شروط الاقتصاد، وبالممارسة السياسيّة، في مجتمعاتنا التي لا تزال تفرض تمييزاتٍ عنصريّةً واضحةً ضدّ بعض المهن، وتضفي امتيازاتٍ اجتماعيّةً على مهنٍ أخرى. كما شهدت الشرائحُ العليا من الطبقة الوسطى والطبقة العليا ــــ مع جنون عمليّات اللبرلة وفشلِ الثورة في السيطرة على الدولة ــــ رِدّةً قويّةً إلى ثقافة تمييزيّة تعبّر عن نفسها بوقاحة؛ وتكفي متابعةُ وسائل التواصل الاجتماعيّ، والإعلاناتِ التجاريّة، لا لرصد انتشار الثقافة التمييزيّة فحسب، بل لقياس مستوى وقاحتها أيضًا.
لا يزال الطريق طويلًا. ولم يعد شعار "يا عمّالَ العالم اتّحدوا" كافيًا. فلن يحدث الخلاص إلّا بتكاتف كلّ المقهورين والمتنوّرين الديمقراطيّين لإنتاج تنوير حديث، والذهاب نحو تغيير شروط الاقتصاد، وخوض معارك طاحنة لمواجهة شراسة الأنظمة السياسيّة العربيّة وسياساتها الاقتصاديّة الفاسدة، والتكديحيّة، والثقافة الاجتماعيّة المنحطّة التي تنشرها وترعاها.
ألمانيا
الهوامش والمراجع
* أنظر: https://www.rwi.uzh.ch/dam/jcr:00000000-1f76-16b5-0000-000039b8bc07/kpaerli_recht_auf_faulheit.pdf
1- حنّة أرندت، الوضع البشريّ، ترجمة: هادية العرقي(مؤسّسة مؤمنون بلا حدود، دار جداول، د.ت)، ص 102.
2- ريموند ويليامز، الكلمات المفاتيح: معجم ثقافيّ ومجتمعيّ، ترجمة: نعيمان عثمان (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ط1، 2005)، ص 419.
3- ويليامز، 421.
4- طوني بينيت ـــ لورانس غروسبيرغ، ميغان موريس، مفاتيح اصطلاحيّة جديدة: معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع، ترجمة: سعيد الغانمي (بيروت: المنظمة العربيّة للترجمة، ط1، أيلول 2010)، ص 510.
5- محمد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي، مختار الصحاح (بيروت: مكتبة لبنان، 1989)، ص 561.
6- ابن منظور، لسان العرب ـــ المجلّد السادس، طبعة جديدة محقّقة (القاهرة: دار المعارف)، ص 4290.
7- من الأمور اللطيفة أنّ اللهجات العربيّة الثريّة تحوي دلالات الجذريْن العربيّ والأوروبيّ للعمل: فكلمتا "يـَشقِي" و"يخدِم،" في اليمن والمغرب على التوالي، تعني "يعمل."
8- مفاتيح اصطلاحيّة جديدة، 510.
9- للمزيد أنظر:
http://www.forschungsnetzwerk.at/downloadpub/erwerbsarbeit%20-%20eigenarbeit.pdf
10- أرندت، ص 105.
11- أرسطوطاليس، السياسة، ترجمة من الإغريقيّة إلى الفرنسيّة: جول بارتلمي ــــ سانتهيلير. نقله إلى العربيّة: أحمد لطفي السيّد (بيروت: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات)، ط1، كانون الثاني/يناير 2016، ص 238.
12- أرسطو، ص 162.
13- انظر إحدى أهمّ الدراسات التي تؤرّخ لتطور مفهوم العمل، وهي للبروفيسورJürgen Kocka:
http://www.zeitgeschichte-online.de/thema/mehr-last-als-lust#_ftnref47
14- عبد الرحمن بن محمّد بن خلدون، مقدّمة ابن خلدون ج 2، تقديم وتعليق وتحقيق: علي عبد الواحد وافي (القاهرة: دار نهضة مصر للنشر، ط7، مارس 2014)، ص 831 ــــ 898.
15- ابن خلدون، ص 897.
16- Kocka
17- تقول حنّة أرندت إنّ ديفيد هيوم سبق كارل ماركس إلى هذا التعريف، وإنْ لم يَبنِ عليه بعد ذلك كما فعل ماركس باقتدار.
18- كارل ماركس، رأس المال: نقد الاقتصاد السياسيّ، مج 1، ترجمة: د. فالح عبد الجبار (بيروت: دار الفارابي، ط1، كانون الثاني 2013)، ص 233 و 234. جدير بالذكر أنّ حنّة أرندت، في كتابها، تنقل عن ماركس أنّه يعرّف العملَ بأنّه أيْضُ الإنسان مع الطبيعة. ولكنّ ما قاله ماركس فعليًّا هو أنّ العمل هو الضابط والمنظِّم والشرط لهذه العمليّة.
19- ماركس، 240.
20- انظر: ماركس، ص 243- 257.
21- إريك هوبزباوم، عصر الإمبراطوريّة (1875-1914)، ترجمة: فايز الصيّاغ (بيروت: المنظّمة العربيّة للترجمة، ط1، آذار 2011)، ص242. كذلك، انظر دراسة الأكاديميّة Anja Kruke عن تشكّل الحركة العمّاليّة في ألمانيا، على الرابط:
http://www.bpb.de/apuz/169565/sonderfall-europa-kleine-geschichte-der-arbeiterbewegung
22- هوبزباوم، عصر الإمبراطوريّة، ص 232.
23- إريك هوبزباوم، عصر رأس المال (1848-1875)، ترجمة: د. فايز الصُيّاغ (بيروت: المنظمة العربيّة للترجمة، ط1، كانون الثاني 2008)، ص 375 ــــ 378.
24- هوبزباوم، عصر الإمبراطوريّة، ص 254.
25- Kruke
26- Kruke
27- هوبزباوم، عصر الإمبراطورية، ص 235.
28- سنتناول في المقال حالتَي تونس ومصر، لأنّ عدد الدراسات حول الحركة العمّاليّة ومستواها في هذين البلدين يسمح بذلك. ومن المؤسف أنّ الأوطان العربيّة التي عرفتْ، في تاريخها المعاصر، الكثيرَ من المثقّفين والمسيّسين اليساريين، لم يُدوَّن بعدُ (كما يجب) تاريخُ كفاح طبقاتها وعمّالها في معارك الاستقلال ضدّ الاستعمار والاستبداد.
29- نعتمد، في تناول تشكّل الطبقة العاملة المصريّة، بشكل أساس على: رؤوف عباس حامد محمد، الحركة العمّاليّة في مصر (1899-1952) (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2016)، ص 26 ــــ 82.
30- http://www.ahram.org.eg/NewsQ/467490.aspx
31- www.syr-res.com/article/5903.html
32- مجموعة مؤلّفين، ثورة تونس: الأسباب والسياقات والتحدّيات (بيروت: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، شباط 2012)، ص 271.
33- ثورة تونس، ص 273.
34- على سبيل المثال: كانت القوانين الفرنسيّة تميّز العمّالَ الفرنسيين في المغرب على مستوى الأجور والسكن والحماية. وقد كان وعيُ العمّال الأوروبيين في المستعمرات ـــ على العموم ـــ وعيًا إمبرياليًّا خالصًا. للمزيد انظرْ: http://www.maroc-histoire.net/2015/09/blog-post_22.html
35- إريك هوبزباوم، عصر التطرّفات: القرن العشرون الوجيز (1914-1991)، ترجمة: فايز الصُيّاغ (بيروت: المنظمة العربيّة للترجمة، ط1، حزيران 2011)، ص 531.
36- https://de.wikipedia.org/wiki/Aufstand_vom_17._Juni_1953
37- للمزيد أنظر: عزمي بشارة، ثورة مصر- الجزء الأوّل: من جمهوريّة يوليو إلى ثورة يناير (بيروت: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، أيّار 2016)، ص 230.
38- هوبزباوم، عصر التطرّفات، ص 525.
39- المصدر السابق، ص 535.
40- بالإمكان النظر إلى رواية راوية الأفلام، لإيرنان ريبيرا لتيلير، من هذه الزاوية. فمشاهدة فيلم سينمائيّ، في ذلك الحيّ العمّاليّ التشيليّ الفقير، لم تكن فقط تجربة مشتركة، بل يتمّ نقل الخبرة فيها، وإعادة انتاجها من خلال فتاة فقيرة تجيد رواية الأفلام بعد مشاهدتها! والتحوّلات في نهاية الرواية هي تحوّلات انتهاء هذا الفضاء الاجتماعيّ العموميّ لمجتمع العمال.
41- Kruke
43- انظر مناقشة لبعض هذه الأعمال الأدبيّة، في نهاية القرون الوسطى ومرحلة التنوير، في: Kocka
44- نستطيع تكوين صورة لآثار ثورة في الذكاء الاصطناعيّ ـــ قد تحدثُ في المستقبل البعيد ــــعلى العمل والبناء الاجتماعيّ، بدراسة الآثار التي ستحدثها مشاريع تخطّط لها الدول في المستقبل المنظور، بخصوص دمج الذكاء الاصطناعيّ في البيروقراطيّة والمؤسّسات الخاصة؛ كما في مشروع (Industrie 4.0) في ألمانيا. وهذا المشروع لا يزال محلّ جدل في الوسط الأكاديميّ والمجال العام، لما سيحدثه من تغييرات في بنية البيروقراطيّة وسوق العمل.
كاتب من اليمن، مقيم في ألمانيا. مهتمّ بشؤون الثقافة والسياسة والاجتماع. نشر مقالات في العديد من الجرائد والمواقع.